Quantcast
Channel: Inkitab Feeds
Viewing all 248 articles
Browse latest View live

كيف تقاطعت القراءة مع الأكل عبر التاريخ؟

$
0
0

 

 

عندما يقدِم صحفيّ في جريدة الجارديان على وصف قيام حكام جائزة بوكر الأدبية بإمضاء صيفهم في "التهامرواية بعد رواية"ليتمّ في النهاية تتويج 13 رواية لترشيحات الجائزة، فإن هذا ليس شيئًا غريبًا.

لغة الأكل طالما جرى استخدامها لوصف عادات القراءة، وإذا حاولت شرح المصطلح، يمكن القول بأن التهامالكتب هو شيء إيجابي؛ فهو يدل على تقدير عميق من جهة القارئ ويوحي بأن الكتب نفسها ممتعة ولذيذة، كالمعجنات الدافئة مثلًا.

 

 

مع هذا، فإن هذا المصطلح لم يكن دومًا بهذه الإيجابية؛ قبل 200 سنة، كان اتهام شخص بالتهامكتاب يعتبر فعل ذم أخلاقي. العلاقة الطويلة المضطربة بين القراءة والأكل خفية عن الأعين الحديثة، لكن في حضارتنا المنتقعة بوسائط الإعلام، فإنها وثيقة الصلة. لغة الالتهامتعطي قيمة مثالية لأحد أنواع القراءة على حساب الأنواع الأخرى.

 

 

لآلاف السنين، عكست صلة القراءة بالأكل مركزية الأخير للسلطة الاجتماعية. أحد أقدم صور القراءة كانت في الإنجيل: حزقيال ويوحنا مثلًا، في دوريهما كوسائل إلهام، كانا يأكلانالمخطوطات خلال الرؤى الإلهية، هذه الفكرة عن القارئ كوسيط للمعرفة كان لها صدى ثقافي واسع، خاصة في المجتمعات شبه الأمية، أولئك مع مهارات تحليل النصوص احتلوا مراكز سلطة مميزة.

 

 

قراء/ علماء النهضة كوّنوا قناعة بأن القراءة ليست كلها متساوية، ورغم تمييز أنواع القراءة من خلال الصور المجازية للطعام؛ مثل عبرة فرانسيس بيكون عن كيف يجب أن "تتذوقبعض الكتب وتبتلعالبعض الآخر"، إلا أنها ميزت أولًا بين أنواع القرّاء. هذا الإدراك الأثري للأهمية الاجتماعية للقراءة أصبح الآن واجبًا أخلاقيًا للاستجابة جيدًا للنص.

 

 

القراءة السيئة في القرن السابع عشر كانت مثل عسر الهضم: ممارسات قراءة سطحية، تدريجية أو ثقيلة، كان يعتقد بأنها تؤثر على الشخصية، المحادثات، والصحة. مسرحية بين جونسون "شعرور" (1601) توفر مثالًا تصويريًا على ذلك؛ في ذروة الحبكة، كان شبه الشاعر كريسبينوس يتقيئتعابيره المستحدثة المتغطرسة، كاشفًا أن قرائته كانت خام ومتسرعة. يقول جونسون:

 

 

أن الكتاب الطامحون يجب عليهم أن يقرؤوا: "لا كمخلوق يبتلعما يستقبل، قراءة خام، ساذجة أو غير مهضومة، بل كمخلوق يتغذى بشهيةولديه معدةتستطيع إعداد، تقسيم وتحويل كل ما يقرأ إلى قوت"

 

 

لغة "التغذية"هذه تأخذ بعدًا أخلاقيًا عند ارتباطها بالمسيحية "القابلة للأكل"؛ يقول جونسون أن القراءة إذا بقيت غير مهضومة فإنها تسد نظام الشخص الروحاني، عمله يظهر كيف أن خطاب القراءة/الأكل أصبح دليلًا بلاغيًا لمزاعم التميّز الأدبي، الاجتماعي أو الديني.

 

 

في القرن الثامن عشر، بدأ الكتّاب بالتمييز بين الشهية (الصلة بين القراءة والجسد) والذوق (الصلة بين القراءة والعقل). الفلسفة الهوبسية صورت الإنسانية كمزبلة شهية غير محكومة، وثقافة بلاط مرحلة الاسترداد جعلت الحيز الجسدي يبدو فظًا.

 

 

مقابل هذه القوى، فإن الخطاب المتمدن عن الذوق أصبح منظمًا؛ إذ تمت إعادة تخيّل رغبة القراءة الملائمة كمسألة ذوق. القراءة الجيدة أصبحت نشاطًا معقمًا، شائعًا في المجتمعات المؤدبة. أولئك الذين اشتهوا، ابتلعواوالتهمواالنصوص أصبحوا بشكل ضمني سوقيين.

 

 

الروايات خصوصًا ارتبطت بعادات الاستهلاك هذه، لأنها أصبحت رمزًا للسوق الأدبي الذي أصبح متاحًا للجميع. وصفهم المعلقون بأنهم يغذّون شهياتضارة. وفي نفس الوقت، ارتبط بعض القراء بعادات تشرّبالروايات، النساء خصوصًا. وصف قراءة النساء بالاستهلاك كانت طريقة لتشويه سمعتهنّ لأنها وضعتهنّ في موضع ضعف، جهل وعدوى أخلاقية. المجازات الذوقية كثيرًا ما لمّحت أن النساء يقرأن تبعًا للجسد، بعكس الحيز الروحي للرجولة.

 

 

لكن لغة الهضمحافظت على منصب إيجابي؛ الكتيبات التعليمية، المقالات وكتب النصائح حرضت "الهضم"ضد "الالتهام"لإبطاء عادات القراءة السريعة للعالم الحديث، وإعادة ترتيب القراءة مع عملية بناء الشخصية. حذّر أيزاك واتس في كتابه "تحسين العقل"من هذا قائلًا:

 

"القراء قد يودون إتخامأنفسهم، عبثًا، بالطعام الثقافي ... لرغبتهم في هضمهبتأملات جديرة"

 

 

هذا التمييز سمح للكتّاب بوضع القراءة الهضميةموضع المثال الأخلاقيّ، واستنكار القراءة الالتهاميةباعتبارها تلذذية وبلا تفكير.

 

لكن، فيما بعد، ماذا حدث لهذا التباين؟

مع أنه استمر لقرون طويلة كطريقة تفكير عن القراءة، إلا أن اعتبارات العالم الحديث طغت عليه؛ هاجم معلقو القرن العشرين هذا التمييز الاجتماعي الخاص بلغة الاستهلاك؛ "القراءة ليست أكلا" (1986) لجانيس رادواي كشفت المواقف النخبوية تجاه قراء الكتب الرومانسية الشعبية، مظهرةً كيف يمكن للمجازات بناء أحكام مسبقة معاصرة.

 

هذا التضاد بين الهضموالالتهامأصبح غير رائج ومشحون بالمضامين غير المقبولة سياسيًا بعد الثمانينات من القرن الماضي.

 

هذا الشحن والاحتقار اتجاه القراءة الشعبية سرعان ما صادف ظاهرة أخرى: الخوف من خسارة هذه الشريحة لفعاليتها الثقافية؛ لذا تم إعادة تأهيل لغة القراءة كالتهامبطريقة إيجابية، استردت كلمة الالتهاممدلولاتها الأساسية التي طالما رمزت لها. في عالم يتنافس فيه فيسبوك، واتساب ونيتفليكس على انتباهنا فأي اهتمام في القراءة أو التهاملها يجب أن يُشجع مهما كلف الأمر.

 

 

من سخرية القدر أننا نميل تجاه تصديق أن أي نوع من القراءة الجيدة يعزز افتراضات جديدة عن مضامين القراءة الجيدة؛ الالتهاميوحي بنسق معين، ويرقي تجربة القراءة سريعة الخطى، كما أنه يشجع نوع كتابة تشبه وصف الجارديان للجنة جائزة بوكر.

 

إذا استحوذ كتاب علينا وسحبنا مثل أحد أفلام هوليوود فإنه يؤدي "وظيفته"؛ أي عمل يثير شعورًا أبطأ أو تجربة قراءة مجترة، يعتبر معطوبًا، أي استراتيجية قراءة تخلّ بدرب التشويق الذي يدفعك لقلب الصفحات، يتم نبذها.

 

لغة الماضي للقراءة تحتوي على شيء ثمين يجب حفظه، وحتى الاحتفاء به في وقتنا الحاضر؛ لقرون عبّر هذا التباين الغنيّ لثنائية القراءة- الأكل عن قناعة مفادها أن أنواع القراءة المختلفة مهمة، وهذه القناعة ستفيدنا في عالم مشبع بوسائل الإعلام.

 

"القراءة فقط"ليست جيدة بشكل كاف، يجب علينا إعادة إحياء تنوع القراءة؛ لغة الهضمشجعت عادات قراءة أبطأ وذكرتنا بالانتباه إلى الطرق البارعة التي وضع بها الكتاب نصوصهم، للتفكير قبل الإسراف في الصفحات.

 

 

المقال مترجم، لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.

 

 

 


ميتتان لرجل واحد؛ الرجل الذي رفض ميتة القبر

$
0
0

 

 

لا يمكن للروائي مهما عظمت أدواته الروائية أن يهرب من فضاء الشخصيات التي يرسمها لنا.

 

 تجده يوزعه حياته الخاصة وفكره وتجاربه بين هذه الشخصية وتلك، وإن كان لابد ستجده يأسر الكثير منه في شخصية واحدة ليضع بعض ذكرياته وذاته فيها.

 

الهروب الأول من المدرسة، ثم الحياة البوهيمية التي عاشها جورج أمادو في السلفادور بين الأزقة والحوانيت، بين صعاليكها ومشرديها وباعاتها المتجولين، الهروب من القيود العائلية في بداية حياته ومن والده، والبحث عن البساطة؛ كل هذا يخبرنا أن حياة أمادو تتقاطع كثيرًا مع حياة "كينكاس" بطل هذه الرواية؛ "ميتتان لرجل واحد".

 

 

هو نفسه أمادو المناضل، الذي عرف السجن لأكثر من 12 مرة، والنفي والتغريب، وحارب لأجل حياة شعبة ومجتمعه ويحارب مواطن الداء في البرازيل.

 

هو نفسه يناضل في شخصية "كينكاس هدير الماء" لتغيير حياته السابقة عندما كان "جواكيم"حيث البحث عن الأفضل وفق قناعاته؛ شخصية الثوري ظلّت تموج في داخله دومًا وكان من الطبيعي خروجها في نصوصه.

 

هو ذا أمادو بكل تفاصيله البسيطة التي يخبرنا عنها روجيه باستيد:

 

"كنت أرافقه مرارًا في شوارع "باهيا" وكانت تأتي بنات الله للركوع أمامه طالبات بركته، وكان الباعة المتجولون يحيونه بصيحاتهم وضحكاتهم المرحة. كان الزنوج يشدونه بين سواعدهم ويقدمون له قدحًا من القهوة أو كأسًا من الشراب تعبيرًا عن الصداقة المناضلة."

 

 

 

في سيرته الذاتية "طفل من حقل الكاكاو" يذكر لنا أن شخصيات الرواية مصدرها شخصيات حقيقية في حياة الكاتب وهي جزء وبعض من تجربته الذاتية، وهو من يقول:

 

"ماذا كُنت سأصبح لو لم أكن روائيًا للبغايا والمتشردين؟"

 

 

 

هي قصة رجل عاش حياتين إذن؛ بؤس وبلادة في الأولى حصرها المجتمع في الاحترام والتقدير والمكانة التي تتجلى في أعين ذويه، وعكسها بحياة مغايرة بين السكر ورائحة الخمر والأشقياء الذين عدهم أصدقاءه الحقيقيين، شاربو "الكشاسا"، الذين وهبوه عيشةً أخرى غير التي عاشها من قبل، ومات في صورتها وسط غضب أصحاب الحياة الأولى. إنها قصة "كينكاس هدير الماء".

 

 

هذا الماكر، أمادو؛ كيف يسمح لنفسه أن يعرينا أمام أنفسنا، أن يجعلنا نعيد حساباتنا في هذه المنظومة اليومية من النمطية والروتين والانضباط، لنسأل أنفسنا: هل نحن أحياء حقيقة؟

 

 

الرواية صغيرة الحجم، لكن تناول أمادو لهذه التفاصيل التي قد نظنها بسيطة جعلتها غاية في العمق، وكأنها رواية من مئات الصفحات.

 

تفاصيلها تأسرك بعمق حياة كينكاس الثانية، هي حياة أكثر من ثلثي المجتمع؛ بمجونه وعربدته، بأصدقائه الذين شاركوه هذا اللهو والعبث.

 

عندما تقرأ هذا النص بحب ستعلم دون شك أن ثمة كينكاس ينام في داخلك آمنًا مطمئنًا ينتظر لحظة انعتاق من جواكيم.

 

النص يسخر من الموت ومن الحياة التي بلا حياة، لذا يمكن أن نعتبر أنه ينتصر للحياة، وليس بالضرورة لعبثيتها. هذا النص ثوري على الضوابط والقيود التي تأسرنا في حياة لا نود عيشها ونرغب في الخروج من سلطتها حتى لو كنّا قد تجاوزنا الخمسين من العمر.

 

لذا كانت هذه الرواية ليست فقط "ميتتان لرجل واحد" بل أيضًا ميتتان وحياة لرجل واحد. شكرًا كالعادة للأدب اللاتيني.

 

 

"سأدفن كما أشتهي

في الساعة التي أشتهي

يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن لميتة جديدة وميت جديد

أما أنا فلن أترك لأحد أن يحبسني في قبر"

 

 

رؤية مارون عبود للأدب والأديب والكتابة الأدبية

$
0
0

 

 

بداية يُعزّي مارون الأديبَ في غِناه ومالِه فهو يرى

 

"أن الأدب أسهل وسيلة للجوع، والأديب إذا انصرف لأدبه فقط أدركه الفقر، وإذا خلط عملا آخر أضاعَ أدبه، وهو فوق ذلك بضاعتُه كلام، يعيش على الكلام ويموت على الكلام وكل ما يُـعمل له فهو من بضاعته تلك، ولكن هذا الشقاء حاجة الأديب التي لا بد له منها، وإذا لم يجدها شقيَ بعقله، على أن الشقاء والبؤس وحدهما لا يصنعان الفنان، لكن البائس إذا كان ذا قريحة يعمل شعرًا."

 

 

 

وأما نظرته للقدرة الأدبية فقد عوّل كثيرًا على الطبْع المساعد والقريحة المواتية والاستعداد الذاتي كأساس للإبداع وأرض خصبة له، ينبُت فيها أدبُها بإذن ربها، إن الفنّ عنده ذاتيّ الدافع وجدانيّ الحركة "وليس عملا يقوّم بالروزنامة بل عِيارُه القريحة و الإلهام وميزانُه النشاط الذهني والمؤثرات"، لذلك فإن "الفنَّ له ساعات وساعات، وبلفظ أدق: الفن له فلتات، فقد يحلّق الشاعر ويسفّ في موضوعين متشابهين وقد يؤتى سحر البيان في ليلة تعقُبها شهور وأعوام تعقم فيها القريحة، وهذه الفلتات والوثبات هي ما يصنع الشاعر والأديب، فإذا خلاه أدبه منها لم يكن شيئًا".

 

 

لذا فالمعوّل الأساس عنده يكون على الاستعداد الذاتي للأديب، ومن لم يساعده طبعٌ فلا يتعب نفسه "فمن يحاول أن ينتج من نفسه ما ليس فيها فإنما يدرك فشلا مخزيا"، لكنه لا يعتبر هذا الاستعداد كافيًا؛

 

"فإنه وإن كانت الشاعرية قريحة إلا أن إجادة السبك مِران، والفن يحتاج إلى مزاولة وعمل مستمر، فمع أن الموهبة هي الأساس لكنها لا تكفي إذ لابد من حجارة للبنيان والحجارة هي: الإرادة وبذل أقصى الجهد، فعلى الأديب أن يُعمِل إزميله ألف مرة في تمثاله قبل أن يعرضه، ولم يزل الهواة طاعنون الفنون بعدم تجويدهم ما ينتجون، لكن ما يهبه الفنان جزءا من حياته ويخلقه من نفسه يحيا إلى الأبد."

 

 

 

وإذا سألتَ مارون كيف السبيل أن يكون الشخص أديبًا وكاتبًا وشاعرًا؟ ما هي القواعد والأسس؟ قال لك:

 

"ليس هناك قواعد تعلمنا بالحصر كيف نخلق الأثر الفني، ولكن هناك شروطا لا يحيا الأدب بدون مراعاتها، وهذه الشروط لا تبلغ القصد إن لم يحز الشخص صفات داخلية تعجز عن إيجادها القوانين الموضوعة، فاعمل بباعك وذراعك فالفن لا يعرف المقاييس، الفن يُخلق خلقا، والفنان يخلقُ فنَّـه، وكل فن غير بكر ليس عندي بفن ولو أشبه الذكر الحكيم، ومعاذ الله أن يؤتى بسورة مثله، والفن الذي لا يكون هكذا لا يعيش، إن المقاييس لا تخلق الفنان ولكنها تهذب من خُلق فنّانا، ونصيحتي هي أن يكون الأديب قارئًا مدمنا لا يفرق بين قديم وحديث، فالفن الصحيح كالخمرة كلما عتقت جادت، فالمواهب المخبئة وراء ستر كثيف لا تتفتق إلا بالقراءة".

 

 

ويعتب مارون على تعليم المدارس والجامعات ونقدَها كثيرًا في كتاباته الاجتماعية، ولا يراها مؤهلة لصنع أديب أو شاعر

"فالمدارس تعلم القراءة والجامعة تدلّ على الدروب ولكن المدرسة لا تقرأ عنك والجامعة لا تجعلك أديبًا، فالأديب لا تخلقه الجامعات بمراسيمها، وما هذه الألقاب العلمية وغير العلمية إلا جلاجل تعلن قدوم القافلة أما ما تحمله القافلة وتنقله من وشْي وحلي وعطر وخمر فهذا تقرره الدنيا لا المدرسة، إن هذه الشهادات مهما كبرت ليست إلا مفتاح باب الثقافة والفن، فالمدارس والجامعات في حقيقتها لا تعلم إلا التقليد، وسرُّ الأدب: الخَـلْقُ الجديد"

 

 

ولا يرى مارون إطلاقًا بأن هناك قواعدَ للإبداع والفن وأن ما يُدرَّسُ في هذا الباب لا يبقى

 

"فإن  المدارس والجامعات تضع لك القواعدَ والنماذج َثم لا يحبوا الزمان حبوتين إلا وتصبح تلك النماذج رواسب وقوالب بالية، إن الفنّ ليس علمًا بأصول، ولكنه ذوق يُنمّى، كم أحزن لهؤلاء الطلبة مع الأساتذة: يُؤثِـرون شاعرا فيروِّضون تلاميذهم على نمطه وأسلوبه فيُخرجونهم مقلدين ويبتلونا بالسلّ الأدبي، إني أعلّم التلميذ ولكني لا أصيره كاتبًا ولا أديبًا"

 

 

ينقُد مارون كثيرًا تقليد الشعراء لبعضهم من قدامى أو محدثين عربًا أو غربًا، ويرى "أن شعرائنا وأدبائنا إما ملتفت إلى الغرب وإما متطلع إلى الوراء، فمن لم يفكر بعقل المتنبي والبهاء والبحتري فكّـر بعقل بودلير وغوته وغيرهم أمّا تطلعنا لنفوسنا فهذا لا نعيره اهتماما"

 

وهو يرى أن هذا “التقليد لا يمكن أن يكون فنًا أبدا، إن الفن يصيح برجاله دائما وأبدا: هاتوا الجديدَ الجديدَ الجديد، وهؤلاء المقلدون أعدائي، فأنا أنشقّ متى رأيت شاعرا بلا شخصية يقلد هذا ويحاكي ذاك” وينصح من أراد التميز أن يُولَد ويولِّدَ من ذاته ويقتحم مضايق الأدب “فإن الجدير بمن يريد السبْق والفرادة أن يشق الطريق بيديه ولا يسير على طريق عبّده سواه! فإن الطريق المعبدة وإن كانت أمانا وسلاما في الحياة، فهي الخطر كل الخطر  في الفن، فمن الخير لكل أديب أن يبني كوخا من طراز جديد على أن يبني قصرا مقلَّدًا” وهو يصرّ دائما على أن “التقليد أبدًا أقل من الأصل، فكثيرون قلدوا أسلوب الجاحظ ولكنهم قصّروا جميعا عن فنه الذي خلقتْه روحه وعبقريته، و الكثير من شعراء العرب نظموا تقليدا ومحاكاة فأخرجوا شعراً لا شعر فيه، لأن التبرج غير الحسن والجمال” ثم إن مارون في معرض دفعه للشعراء عن التقليد وحضِّهم على أن تستقل ذواتهم الأدبية وأن لا يذوبوا في نفوس الشعراء وشخصياتهم مهما كانت عظيمة= يخطب في الشباب “لا تقلدوا أحدًا و لا تفتشوا عن ذاتكم في وجودية سارتر فكلنا موجود على طريقته، فتشوا في زوايا أنفسكم عن أنفسكم، ما هذا؟ أين ثورات الشباب؟ دعوا الدراسات والمذكرات للخمسين والستين، أما العشرون والثلاثون للخلق والإبداع، إن  الفن كله في التعبير، وفوق التعبير شيء هو كل شيء: الشخصية

 

 

ثم يأخذ بكل لطف في تحريض الشباب على الغزل بجمال النساء في بلاده والاستلهام من كل ما حولنا من الحياة وليس حياة الماضي فيقول “إن كل ما حولنا يدعونا للاستلهام، فلماذا نزجّ أنفسنا كالخِلد في القديم؟ لقد خلّد القدماء طلولـَهم من جُلجل إلى الرقمتين، وقفّى من بعدهم على آثارهم فخلّدوا دير حنّا ودير سمعان ودير الشياطين، لقد خلّد السلفُ كل ما هب ودب حتى الضبّ والحرباء، ونحن في عصر أقل شيء فيه آية، لكننا لا نستوحيه شيئا!

 

 

أينكم عن مصايف لبنان؟ من مِنا لم يلتقّ بهند وفاطمة وهريرة في المصايف؟ أرأيتم كيف أدعو إلى المصايف مجانا وغيري يُعطى ويزاد، وأنا يؤخذ مني الذي لي

 

يرى مارون أن آفة الأدباء والشعراء هي قلة الصبر، واستعجالهم في إخراج إنتاجهم، لذلك يوصي الأدباء بالصبر والتريث وعدم الاستعجال و “أن يكون الأديب دائما أكبر من عمله، فإنّ نهاية الأديب تبدأ عندما يظن أنه وصل الذروة!”  ثم يخبرنا بحقيقة عميقة تهوّن على من ظن استحقاقه الشهرة ولم يحصل عليها  “أنه يجب أن تنقضي عدة سنين على الفنان ليُعرَف قدره فدِقـَّـة الفن لا تُفهم فورا وكل غرابة تدهَش وتُنبذ بادئ بدء، و الحياة لا تعطي شهادتها إلا عند انقضاء العمر” وإذا مات الفنان والأديب مغمورًا لا يذكره أحد، فإن مارون يتعزّى في ذلك “بأن الذي يكبر بعد الموت هو الأديب الحق والشاعر المبدع” ولقد صدق فكم من أدباء وشعراء اشتهروا بعد موتهم وأقبل الناس على كتبهم ودوواينهم! لكن من يبلغ كافكا والثبيتي؟ أيها الراحلون قريبًا .. هذا عليكم.

 

ويُغـِير مارون على الذين يُغربون في اللفظ ولا يعجبهم إلا الوحشي، فهو يرى أولًا أن “ليس في الأدب قديمٌ و جديد بل ممتع وطريف، فكم من قديم ينبض بالحياة، وكم من جديد مات ساعة خُلِق، ولا ينبغي أن نترك القديم بجملته، ففي القديم ما لا يعتق، و ليس في الدنيا جديد لا أثر للقديم فيه”  إن مارون ليس عدوًا للقديم إطلاقًا “إننا لا ندعوا إلى نبذ القديم وتركه بجملته، و لا ندعوا إلى بدعة أو فتنة بل إلى لسان الجاحظ والأصفهاني وفصحاء العرب مع نبذ ما بلي ورثّ، وتركِ تعابير عمّت حتى خمّت” فهو يرى أن اللغة انتقاء وكل عصر له ذوق لغوي خاص به، لذا فنحن “لا نحتاج من اللغة إلا المواد الأولية كالألفاظ والأصول أما الشكول فلكل عصر زيه” ثم يسأل مارون شعراء العرب ويُلحِف في المسألة “أن يهتموا كثيرا بالخلقَ و الإبداع ليس في الأغراض والمعاني فقط، بل في التعابير التي تتغذى من الحياة الحاضرة، فالتعابير صور أجيال مضت تفرضها علينا كتب الأدب ومعاجم اللغة، فلنقتبس منها ما لائم أذواقنا، ولندع التعابير الشائخة الهرمة” ويقول للأدباء بكل وضوح واختصار  “إن للغة قواعد ولها معجم ولكم ذوق ولسان وأذن وعقل، فليسِـرْ كلٌ على خيرة ذوقه وليُرِنا شخصيته لنقول له من هو.

 

 

ولا تعجب مارون كتُبُ الكليشيهات كما يسميها كصبح القلقشندي ونجدة الشرتوني ونجمة اليازجي؛لامتلائها بتعابير كالآثار التاريخية لا تتغير مع الزمن، وتطبعُ الأدباء بدمغة واحدة فإذا قرأت لواحد منهم استغنيت عن الآخرين لأن البئر الذي ينزعون منه واحد، إن مثل هذه الكتب عنده “مراعٍ لسوائم التقليد، وزرائب لشويهات النقل، وما قتل أدبنا وأفقده الحس بالشعور غير هذه الرواسم والكليشيهات” ويرى مارون في فكرة لم تعجب كثيرًا من أدباء عصره: أن النقّاد القدامى وعلماء العرب -إضافة لكتب الراوسم التي طبّعت التقليد- كانوا أحد أسباب عدم التجديد في الشعر العربي عبر تاريخه وأنهم ساهموا في تحجيم امتداد روح الإبداع “لقد أعجبت العربُ خطة شعرائهم فلم يميلوا عن طريقهم وألّـهوا أصنامهم الأدبية قرونًا” وأنهم هاجموا الشعراء المتأخرين لخروجهم عن نمط القديم “ألم يسمّوا الشعراء العباسيين: محدثين ومولدين؟ ولم يحتجوا بكلامهم! يا حبذا هؤلاء المولدون، ليتهم كثروا وملأوا الأرض.

 

هو يرى أن النحوَ إلى الإغراب والألفاظ الفظّة ناشيء من عجز الموهبة  “فإن من يعجز عن التفكير والإبداع يلجأ إلى الفصاحة الجوفاء ومن يفُته إبداع الجديد يكثر من اجترار القديم، وقاتل الله المجترّين إنهم لا يعدلون بقديد اللغة شيئًا، ولا يريدون إلا ألفاظًا أعقد من ذنب الضب” وينقل عن الجاحظ نقلا معترضًا على تقليد المعاصرين لأسلوبه فيقول بعد نقل الجاحظ “ما هذا أسلوبٌ ليقول لنا مقلده الشيخ مصطفى صادق الرافعي  (كنت أنت لها عاشقا وبها صبّا وفيها مدلها ثم كانت هي تحب رجلا غيرك وتصبو إليه وتفتتن به وقد احترقتْ عشقا له) كما أحترق أنا حين أقرأ هذا التقليد المقرف فتعجز إطفائية بيروت عن إخمادي! ويقولون عن هذا  الكاتب الرافعي  أنه يقرأ للجاحظ قبل شروعه في عمله الانشائي فهل عرف أسلوبَ الجاحظ من يكتب كما رأيت؟ لا .. الجاحظ يضع روحه فيما يكتب أما هؤلاء فما أدري ماذا يضعون” ولم يسلم الزيّات منه فقد سمّاه مارون “المصرولوجي” تشبيهاً بالجيولوجي الباحث في الأرض وهذا الزيات عنده “ينقّـب كالخِلد في تربة اللغة و يا ليته يخرج لنا تربة ناعمة بل حصى ورخفا، إنه لا يخرج من مقالع اللغة إلا المفردات الميتة كأنه يكتب بالمنجنيق.

 

 

يتعرض مارون في عدة مواضع من كتبه لمن يقيّم الكاتب والشاعر بحسب الموضوع الذي يتعرّض له ، فيرى “أن الموضوع في الأدب ليس مما يُسأل عنه متى أجاد الأديب فيه، والشعر والأدب لا يقاسان بأغراضهما وفنونهما بل بسمو الروح فيهما” ويضرب مثلا لذلك بالجاحظ في كتبه كلها “فما رأيت أتفه من مواضيع الجاحظ وما رأيت أبرع مما كتبه فيها” ويرى أنه لابد من ترك الحريّة للأديب يختار من المواضيع ماشاءته نفسه “فلا يمكن أن يُحمَل الأديب على تأدية رسالة بعينها، فالأديب يؤدي رسالته بينا يفكر أنها ليست هي، كما فعل المتنبي حين ادّعى الإمامة ثم رضي أخيرا بضيعة أو ولاية ولم ينل ذلك، فقد كانت الحياة تزجي ركابه في طريق الأدب الخالد وهو يحن إلى سلطان تافه” ولكنه لا يمنع على الأديب أن يؤيد قضية ما أو يدافع عنها ويدعوا لها “فللأديب كل الحق في أن يؤيد قضية إذا اندفع إليها عفوا أو كان مؤمنا بها، أما سابق الترصد والتصميم فهذا يكون في الجرائم لا في الأدب.

 

 

ثم يتعرّض لمواضيع الخير والشرّ في الأدب فيرى أن “الفن من حيث هو فن لا يعنيه الضلال والهدى، فالصورة الرائعة رائعة” وأن الأدب صورة من الحياة ونفس الشاعر  “وأي حرَج علينا إن درسنا الفن البذيء كما ندرس لاهوتيا جميع خطايا اللحم والدم لنتقي شرها؟! إن الشعر والأدب ليس صلاة ومن يعتقد غير هذا فليصلّ، ولكنه في لاهوتي من الهالكين ودعوته لا تستجاب” ثم يدفع بفكرة التزمّت الأخلاقي في الأدب لحدّها الأقصى فيقول “امحوا أيها الذين تهمكم الأخلاق في الفن ما لا ترضى عنه طهارتكم من آياته ثم قولوا أي الخسارتين أفدح؟” لا شك أنه لن يبقى حينها إلا أدب التصوف، ولا يكون الأدباء إلا وعّاظًا، وهو يرى أن الصدق في الفنّ ليس بمطلوب أصلًا، إضافة إلى أن الصدق في الفن ليس هو الصدق الذي يعرفه الناس فـ “إن ما يعني الفنَّ من الصدق غير ما يعني اللاهوتيين، إننا نُكبِرُ كذب هذا الفن إذا أشبه الصدق، فالكذب في الفنّ ضروري، فلا فنَّ في الدنيا صادق صدقا كاملا.

 

ولقد طبّق مارون نظريته هذه، في تفوّق أهمية الأسلوب على الموضوع  فنقد شاعرًا شابًا ذكر أبياتًا ركيكة محصّلها: لقاءُه مع فتاة ثم غشيانه لها ثم ندمها على الموافقة .. فيقول: ندِمتْ تلك الملاك الوديع، فيسخر  مارون: “أهذا كل ما عندك؟ وإذا كان هذا فعلـُك بالملاك فماذا كنت تفعل لو وقعت على جنيّة؟ وبعدُ .. فأين الابداع الفنّي لنغفر لك هذه الجناية؟

 

يرى مارون أهمية الاطلاع على الآداب الأجنبية وتنويع مصادر الخيال والمعرفة للأديب “فإن اتكالنا على عقبريتنا وحدها والتفاتنا دائما إلى الوراء لا ينفع، ولا يُخرِج إلا أدبا سُخن المهب يلفح الوجه، فلا بد من معرفة أدب القوم فالهجرة تهذب الأخلاق وتدمث الطباع واستلهامُ آداب أخرى كاستنشاق هواء جديد يكسب النشاط والعافية، على شرط أن لا نلهمس ما على موائدهم، فجديد الأدب المتشابه لا يعمر طويلا” وحين نقَد أحدَ الأدباء، مدح إجادته ثم قال له: “لا ينقصك إلا الغربة ليتك تقرأ روائع شعراء العالم، لا تتكل على مخيلتك وحدها وإن كانت قوية.

 

 

 

نماذج من فكر مالك بن نبي في "مشكلات الحضارة"

$
0
0

 

 

المفكر مالك بن نبي، من مواليد عام ١٩٠٥؛ أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، ولد في الجزائر خلال فترة الاحتلال الفرنسي، نشأ في منطقة ذات حضور فرنسي ضعيف نسبيًا، مما أتاح له فرصة تلقي الدروس في المسجد بالإضافة إلى مدرسته الفرنسية، أكمل دراسته في فرنسا وعاش فيها لفترة، ثم عاد إلى الجزائر وقضى فترة من حياته في القاهرة.

 

عمل مالك بن نبي في التعليم والسياسة، ثم تحول كليًا للعمل الفكري.

 

عدم محدودية نظر بن نبي ونضوجه الفكري جعلاه يربط ثقافته الإسلامية بالقضايا المجتمعية المحيطة به؛ لذا نجد أن أفكاره جمعت بين الفلسفة الإسلامية والغربية، وركزت دائمًا على البناء والنهضة.

مشكلات الحضارة هي الرابط بين كل مؤلفات بن نبي، إذ كان مهمومًا بإيجاد مخرج للأمة الإسلامية من المنحدر الذي تعيشه. غاص بن نبي عميقًا في المشكلة ونادى دائمًا بالرجوع لأصل الفكرة ومنبت الحضارة وهي الفترة النبوية.

 

 

في كتابه شروط النهضة تلمس بوضوح تأثر بن نبي بفكر ابن خلدون في مسألة اطراد الحضارة وذلك بمقياس القيم النفسية والاجتماعية، بأخذ النموذج الإسلامي؛ عندما قسمها إلى ثلاثة أقسام، تبدأ بتلبية الاحتياجات الروحية التي وفرتها الفكرة الدينية (الإيمان)، التي بدورها تعمل على تنظيم الغرائز في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة، وفي هذا تحرر من قانون الطبيعة المفطورة في جسده. يستدل على هذه المرحلة بالصحابي بلال بن رباح الذي كل ما زاد عذاب المشركون له زاد نداءه أحد أحد، وذلك عكس الطبيعة المادية التي توجب تخليه عن فكرته بازدياد الألم، ولكن هذا الصوت كان مصدره روحه المشبعة بالايمان.

 

يستعرض بن نبي القيم الاجتماعية المصاحبة للنمو النفسي الروحي والتي تمثلت في تدرج الأحكام متخذة النمو الأخلاقي ركيزة لتقبل الأحكام والتكاليف؛ تحريم الخمر وإنهاء العبودية مثلًا.

 

 

القسم الثاني في النموذج هو الاحتياجات العقلية التي تأتي تدرجًا وبناءً على الفترة الأولى، وتكون نتيجة التوسع والنضج في مجتمع الفكرة باكتمال شبكة روابطه الداخلية وامتدادها للخارج، والتي ستواجه بالضرورة منعطفًا جديدًا نسبة للتوسع ونشوء مشكلات محسوسة ملازمة له.

 

 

هنا يقول بن نبي أن هذه المرحلة في النموذج الإسلامي تمثل الدولة الأموية التي انعطفت بمنحنى لا يناسب الفكرة المبدئية، وهذا أدى بدوره إلى انخفاض الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية مما أدى إلى المرحلة الثالثة؛ انهيار الحضارة، وهي المرحلة التي تولد عنها الإنسان المسلوب حضاريًا الذي لا يساوي الإنسان الفطري، لأنه يمتلك روحًا انهزامية.

 

في ذات الكتاب وفي كتب أخرى (تأملات) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)؛ يبدأ من الإنسان في العالم الإسلامي بعد انتهاء حضارته، وسلسلة توارث الأجيال لأفكار متباينة وغريبة عن الفكرة الأولى، مما نتج عنه إنسان ضال لطريقه مشبع بما يسميها الأفكار الميتة.

 

هذه الأفكار الميتة المتولدة من الإرث الاجتماعي تجعل في الفرد والمجتمع القابلية للاستعمار، وهي خاصية التفكير بعقلية الآخر والذوبان فيه دون التفريق بين هويتنا وهوية الآخر، ودائمًا ما ركز بن نبي على القابلية للاستعمار أكثر من الآثار التي تركها الاستعمار، لأنه يرى أن الاستعمار الغربي رغم وجهه البغيض وتعطيله لبناء المشروع الحضاري الإسلامي إلا أن له إسهامات في بناء الحضارة اللازمة لحياة الفرد المادية، كما أن للغرب عمومًا دور في البحث العلمي ورفاهية البشرية، أما القابلية للاستعمار فهي أخطر، لأنها استعداد نفسي فردي ومجتمعي للتخلي عن المبادئ والقيم الخاصة والمميزة للمجتمع، وهو في جملة أفكاره لم ير مانعًا من التعاون مع الغرب على قاعدة الاحترام المتبادل.

 

 

لطالما كانت الأفكار مقدسة عند بن نبي؛ إذ أفرد مساحة لتوضيح قيمتها مقارنة بالأشياء؛ فيقول أن المجتمع المتخلف ليس موسوم حتمًا بنقص في الوسائل المادية (الأشياء)، وإنما بافتقاره للأفكار.

 

تحدث بإسهاب عن أنواع الأفكار الاجتماعية، السياسية، الثورية، المخذولة، الاقتصادية وتكلم عن علاقة الأفكار بازدواجية اللغة الناتجة عن الاستعمار وأثرها في البناء المعرفي الثقافي الموحد للعالم الإسلامي.
 

 

عزى مالك بن نبي التخلف الموجود في العالم الإسلامي للداخل أكثر من كونه نتاج سبب خارجي، وقال أنه ينبع من طبيعة تشكيل الشخصية التي امتلأت بالثقافة السلبية (إنسان مابعد الحضارة)، التي دائمًا ما تدعو للاستسهال وعدم الجدوى، مما أدى إلى ضعف القدرة التحليلية في فهم التعقيدات الحضارية وبنائها بما يسميه (الأفكار المميتة).

 

فكرته المحورية لنهضة أي مجتمع تتم في نفس الظروف التي شهدت ميلاده، مع الدعوة للحياة بعقلية الزمن الحاضر لا بعقلية الماضي وإنما البحث عن المقصد في مبدأ الفكرة، يضيف أن شروط النهضة ثلاثية المحور؛ بناء الإنسان بما يواكب عصره، المحافظة على المكان وإعطاء قيمة للزمن.

ركز بن نبي على الإنسان كقيمة فاعلة في البناء، وقال:

 

إذا تحرك الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ.

إن المسلم لا يفكر ليعمل وإنما يفكر ليقول.

 

 

وفي هذا تنبيه لقيمة التطبيق الفعلي للأفكار بدل مداولتها كقيمة خاملة. كما ركز على دور المجتمع في البناء وذلك بتوفير الوسائل التثقيفية والضمانات الأمنية والحقوق الضرورية والتي بضمان استمرارها يكون الفرد المستفيد فاعلًا؛ أي أن المسؤولية متكاملة.

 

أن تبدأ قراءة كتاب لمالك بن نبي فهذا يستدعي الانسحاب تجوالًا في كل ما كتب، وذلك للترابط بين كل الأفكار، فتتوقف عند المقاصد وتستمتع بقصص يلفت انتباهك لضرورة حكايتها في هذا الموقف، تدخل معه إلى دورات في علوم الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والتاريخ وعلم النفس، ليملأ قلبك اليقين والأمل بأن لكل هذا حل يعتمد على وعي الفرد والمجتمع بفكرة التوجيه التي هي قوة في الأساس وتوافق في السير ووحدة في الهدف .

 

همس بن نبي بعمق في وعي الأمة الإسلامية مظهرًا أمراضها، واضعًا لها وصفات العلاج، وقد قرأت عنه أنه في آخر حياته قال: سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس. في إشارة منه لتبني أفكاره مستقبلًا.

 

 

 

 

إرث ملعون: فريدريك سبوتس عن كلاوس مان

$
0
0

 

 

 

"إرث ملعون"هو عنوان السيرة الذاتية الجديدة التي كتبها فريدريك سبوتس عن حياة "كلاوس مان"، ومن الصفحة الأولى من الكتاب يبدأ سبوتس بسرد أوجه النّحس التي وسمت حياة مان. لقد كان منفيًا، كباقي الآلاف من المثقفين الذين نُفوا خارج ألمانيا عندما تولى هتلر السيطرة على الحكم عام 1933، مدمنًا على تعاطي المخدرات التي حاول مقاومتها لكن انتهى به الحال مستسلمًا لإغراء الكوكايين والمورفين. وفي الوقت الذي كانت المثليّة الجنسية فيه تعتبر جريمة وفضيحة تقريبًا في كل مكان؛ كان كلاوس مان مثليًا دون إحساسٍ بالذنب. لقد كان مان ذا نزعة للانتحار، كاشفا في مذكراته عن توقه للموت. حين ناداه الموتُ أخيرًا، وهو في فندق في مدينة كان سنة 1949، كان من المستحيل قول أيّ شياطينه كان مسؤولًا عن موته: من المحتمل أنّه مات منتحرًا، بجرعة مخدّرٍ زائدة، أو ببساطة استسلم جسده وروحه مذعنين لعقودٍ من سوء الحظ.

 

 

لكن النحس الأول الذي عانى منه كلاوس مان، الإرث الذي يعتبره سبوتس الأسوأ، هو كونه ابن "توماس مان". كونه من عائلة مان يعني أن كلاوس حظي بفرص يحسده عليها الجميع تقريبًا. نُشر له وهو لمّا يزل مراهقًا، وباتَ نجمًا في أوروبا في عشرينياته، كما أمضى كلّ حياته وسط النخبة الثقافيّة في أوروبا وأمريكا. لكن، وكما في الأسطورة الإغرقيّة، كانت الشهرة الأدبيّة متدلّية أمام أنفه فقط لتنتزع بعيدًا حين يحاول أن يقبض عليها. لقد كتبَ كتبًا كثيرة، قليلٌ منها حقّق النجاح، كما لم يفلح أبدًا في الاقتراب من منجز أبيه. حتّى اليوم، حين يُتعرّف على اسم كلاوس، فإن ذلك عائدٌ بالدرجة الأولى لكونه ابن أبيه.

 

 

عادة ما يتحول كاتب السيرة الغيريّة إمّا عدوًّا لصاحب السيرة أو إلى محامٍ يدافع عنه. سبوتس هنا يتبنّى النهج الأخير: كل مآسي كلاوس وفشله، وهي كثيرة، حدثت له لا بفعل عيوبه المُفجعة بل للتأثير المؤذي لوالده عليه. لا يوجد شك أنّ والد كلاوس، توماس مان، ترك وراءه ما يستحقُّ الاحتفاء به تمامًا كمعظم الكتّاب العظماء، من ]تشارلز[ ديكينز وحتّى ]صول[ بيلو.

 

 

خاف أولاد توماس مان الستة منه وكرهوه عمومًا، ويمكن أن تستشفّ جو العائلة من حقيقة تعارفهم عليه لا كوالدهم بل بكونه Der Zauberer - الساحر1، وهو اسمٌ غريب لشخصيّة قويّة تنأى بنفسها ]عن محيطها[.

 

نادرًا ما عبّر كلاوس عن مشاعره لأبيه بحريّة، لكنّه عبّر عن مشاعر الألم والنبذ في مذكراته:

 

 

"أشعر بقوّة وبمرارة بمشاعر البرود التي يكنّها الساحر لي. سواء كانت مشاعره مشفقة أم عدائية (أو بغرابة تامّة "منزعجًا"لوجود الصبي) هو لم يبدِ أي اهتمام، لم يهتمّ بي أبدًا بطريقة جديّة. فقدانه الاهتمام تجاه الجنس البشريّ عامّة يتبدّى بقوّة تجاهي."

 

 

 

ربما كانت الأمور لتكون أسهل على كلاوس فيما لو اختار، مثل بعض إخوانه، أن يسلك طريقًا في الموسيقى أو القانون، في أي حقلٍ بعيدٍ عن نطاق أبيه.

ولكن  كما يُظهر سبوتس، الشيء الوحيد الذي لم يداخل كلاوس فيه الشك أنّه وُلد ليكون كاتبًا. قامت جريدة بتعيينه كناقدٍ مسرحيّ وهو لمّا يزل في الثامنة عشرة، فلم يلتفت بعد هذا الحدث إلى الوراء.

 

 

لقد كتب بكثافة، حتّى في ظلّ ظروف صعبة: مسرحيّات، مذكّرات، روايات، سِيَر، وصحافة. أمّا اليوم، ففي الواقع لا نجد أيًا من أعماله معروفة خارج ألمانيا، باستثناء روايته "mephisto"، التي تصوّر حياة ممثل محترف تحت حكم الرايخ الثالث. لا يثير سبوتس لغطًا حول ما إذا كان يجب أن تأخذ الأمور مسارًا آخر: هو يقرّ بأنّ أعمال كلاوس طُبعت ب"التسرّع و"اللامبالاة". (من المثير الملاحظة، كيف شكّلت حياة كلاوس الأدبيّة صدىً لحياة جوليان، الابن غزير الإنتاج ]للروائي[ ناثانيال هوثورن، الذي ناقشنا مسيرته هناعامين من الآن).

 

 

لدى كلاوس نمط بارز ]في كتابته[ يتمثّل في أنّ أهم موضوعاته هو ذاته. كتب أول سيرة ذاتية في منتصف عشرينياته "صبيّ هذه الأوقات"، وبعد عشر سنوات كتب الثانية "نقطة التحول". وحتّى عندما كتب رواياتٍ تاريخيّة أبطالها شخصيات معروفة كتشايكوفسكي ولودفيغ ملك بافاريا، فإنّه كان مشغولًا بثيمات تتصل بتجربته الشخصية: المثليّة، الكآبة، العزلة، والتراجيديا. ولكن حتى لو كان كلاوس كاتبا يمتلك هبة أبيه، لم يكن ليحظى ببهجة الشهرة والنجاح كما والده، ببساطة لأنه وُلد في الزمان الخطأ.

 

 

خلال حرب فايمر، بات كلاوس وشقيقته إريكا – اللذان أطلقا على نفسيهما لقب توأم، على الرغم من وجود عامٍ يفصل بينهما – مشاهيرًا في الصحافة الشعبية، الشكرُ لمآثرهما داخل المسرح وخارجه. لو كان تلفزيون الواقع2موجودًا وقتها، فلا شكّ بأنهما كانا سيغدوان نجمين آنذاك. تحديدًا، كلاوس، الذي كتب بصراحة عن تجاربه مع الجنس والمخدرات، والذي، لعديدٍ من الألمان، غدا رمزًا لعبث الشباب، وجيل ما بعد الحرب العالمية الأولى. (بالطبع، التقط والده ذلك الملمح فيه في قصته العظيمة "اضطراب وحزن مبكر"– "Disorder and Early Sorrow").

 

 

كلّ هذا، مضافًا إليه عداءه المُعلن للسياسات النازيّة، عنى أنّ ألمانيا حالما تصير في قبضة هتلر ستُضحي مكانًا خطِرًا على كلاوس. قبل أن تنقضي ستة أسابيع، هرب كلاوس مع إريكا إلى باريس. توماس مان، كما شاء الحظ، كان خارج ألمانيا في ذلك الوقت وببساطة لم يعد إليها مجددًا. يعقد سبوتس مقارنة شفيفة بين طريقة كلٍّ من توماس وكلاوس في تدبّر شؤونهما خلال السنين الأولى لهجرتهما. توماس، في ظلّ قاعدة قرّاء كبيرة في الوطن، تردّد  في إعلان أي تصريح سياسيّ يمكن أن يدفع الرايخ الثالث ليحظر كتبه؛ هذا قبل ال1936، العام الذي هاجم فيه توماس هتلر بضراوة وخسر فيه جنسيته الألمانية. كلاوس، على خلاف أبيه، لم يكن لديه ما يخسره، فسارع إلى نقد ألمانيا النازيّة وعلى العلن. "في هذه الساعة"، كتب في رسالة مفتوحة إلى الشاعر غوتفريد بِن، "أيًا كان من يتردد فإنّه لن يظل واحدًا منًا".

 

 

بـ "واحد منّا"، كان كلاوس يقصد ألمانيا الحقيقيّة، أمّة ال Dichter und Denker، أي الشعراء والمفكّرين. لكنّه كلاوس هو من أُخرج من دائرة "واحدٍ منّا"من قبل غالبية الألمان –والكتّاب الألمان– الذين بقوا في الوطن.

 

 

الحياة في المنفى، حتّى على شخصٍ شهيرٍ ككلاوس، كانت مريرة. كتبه، المنشورة لدى دار émigré، باعت بضع مئات من النسخ فقط. أوصل كلاوس مجلّتين للحضيض، واحدة تصدر بالألمانيّة وأخرى بالإنجليزيّة؛ كانتا تملكان مساهمين مميّزين ومعايير أدبيّة عالية، لكنّهما استمرتا في التغطية بضعة مواضيع فقط بعد نشره مادّة في كلّ واحدة منهما.  جاءت لحظات على كلاوس كان معدمًا فيها، لا يملك مالًا يكفيه لشراء وجبة طعام.

 

 

فيما يخصّ حياته العاطفيّة، التي تمكّن سبوتس أن يعيد تركيبها مستعينًا بيوميّاته المفصّلة، فإنّها كانت مُحبطة ومليئة بالوحدة، سلسلة من المغازلات والعلاقات العابرة. وحتّى حين تخلّى عن أمل العيش ككاتب وقرّر التطوّع في العسكريّة الأمريكيّة، فإنّه قد رُفض. وصل الـFBI استنكار يتهم كلاوس بالشيوعيّة، وتطلّب الأمر تحقيقًا موسّعًا ومتطفلًا قبل أن يُمنح الجنسية الأمريكيّة ويتمكن من ارتداء الزي الرسمي.

 

 

 

يُظهر سبوتس، أنّه وخلال الحرب، استمتع كلاوس بآخر انفجارات المجد. لقد عمل خلال تلك الفترة كمراسلٍ لستارز آند سترايبس Stars and Stripes، معاشرًا أريستوقراطيّي إيطاليّا المتحرّرة، كما عمل على سيناريو فيلم لروبيرتو روسيلّيني. لكن بعد الحرب، عادت كلّ مشاكله: لا عمل، لا حب، لا مكان يُطلق عليه وطنًا. العودة لألمانيا لم تدخل حساباته – كان مقتنعًا أن الألمان لم يتعلموا شيئًا وما زالوا هيتلريّين في دواخلهم – كما أنّ العيش مع والديه في لوس أنجيلوس كان أفضل بشكلٍ طفيف. وقائع سنينه الأخيرة كانت أشبه برحلاتٍ عقيمة، أعمال لم تجزِل عليه، وكتب لم يتسنّى له إنهاءها.

 

 

يخلص سبوتس إلى أنّ "كلاوس ذو عقلٍ راجحٍ، موهوب، ذو خبرة، ودزينة أخرى من السمات المدهشة، لكنه بلا حظ". لعلّ كاتب سيرة آخر يخلص إلى نتائج مختلفة؛ الناس هم من يصنعون حظوظهم، حتّى درجة معيّنة كأقلّ تقدير، فبعض المهاجرين نجوا من تجارب أصعب من تجارب كلاوس. عمومًا وفي الوقت الذي مات فيه، لم يتفاجأ أحد ممّن عرفهم بموته. وهذا يسري على أمّه، التي كان لها كلمة الختام على حياة كلاوس مان المأساويّة: "كان ضروريًا أن أستعد لهذه اللحظة باستمرار، وقد كنت كذلك".

 

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

 

(1): في إشارة إلى رواية قصيرة نشرها توماس مان عام 1929 بعنوان "ماريو والساحر"– " Mario und der Zauberer"

(2): برامج تلفزيونيّة أشبه بالبرامج الوثائقيّة، لكنّها تركز على الترفيه أكثر من تقديم المعلومات. ظهرت في منتصف القرن العشرين لكنّها ازدهرت في تسعينياته وبداية الألفية الثالثة، ومن أشهرها مسلسل "Big Brothers".

 

 

 

 

ربّ إنّي وضعتها أنثى؛ رحلةٌ إلى فلسطين

$
0
0

 

 

"الغربة صباحها وحشة بلا رائحة قهوة، وليلها رسائل مقروءة، وقُبل منتظرة، وخطايا مُخبأة وضفائر مقصوصة، أنفاسٌ مرتعشة، عتاب، آهات، نصفها جنون، وجنونها عقل"
 

 

هكذا وصفت نردين أبو نبعة الغربة في ثنايا صفحات روايتها، تلك الغربة التي تمتص كل مابقي فيك من وهج النور والأمل، لتُلقي بك في غياهب الوحدة والبُعد والتهجير، في حكاية مريم، وجدتني، رأيتني، لامستُ جروحي التي تفتقت عن قلبي وعن صدري، طبطبتُ عليها بعد مواجهتي لها لأول مرةٍ منذ ستة أعوام ، ستةُ مضت من عمري لم أزر فيها مدينتي ولم أطأ تراب موطني.
في حكاية مريم، علمتُ أن الأنثى هي صانعة الرجال، صانعة الثورات؛ فكل أولئك الرجال قد خرجوا من أصلابهن، كانت عقيدتهم حب الوطن، عشقهم الشهادة ونور عيونهم قضيةٌ دافعوا عنها بملئ الرضا والحب واليقين.

 

 

أن تؤمن بقضيتك ووطنك، أن تتحد معها اتحاد الروح بالروح، اتحاد الدم بالتراب، أن تسهر لأجلها وتهدهدها، وتبايعها على ألا تشرك معها أي قضية أو حب، أن تؤرق مضجعك، أن تدثرها وتطمئنها بأنك على العهد والوعد باقٍ لن تحنث وإن خرجت تلك الروح مودعةً جسدك حال خوفها من فقدك، أمور تجعلك تشعر بإنسانيتك واستخلافك، أنك في هذا الكون أكبر من مجرد تابوتٍ يتحرك، أن تعي أنك حيّ وحيّ وحيّ.
الحرية ليست في العالم الذي نحيا به إن لم نعي معانيها؛ ما معنى أن تكون حرًا وجسدك مستعبد؟ ما معنى الحرية إن أنت قصصت جناحي روحك ومنعتها من التحليق إلى ما بعد الكون؟ ما فائدة الحرية إن أنت هجرتها وقطعت وصالك بها وكنت عبدًا لذاتك وجسدك وأهوائك وشهواتك؟

 

 

أحيانًا تكون الحرية في السجن، في المعتقل، في الزنازين المنتنة القذرة، يمكن أن تعلمك الصراصير والفئران في الزنزانة أكثر مما قد يعلمك إياه بشري.

 

 

من عاش شعور معتقل؟ من خَبُر أوابد السجن والسجانين؟ من أحس الألم والجمر المشتعل في صدره، من احمرت عيناه وانتفخت شوقا لقبلة أم، ابتسامة زوجة، وعبثية وبراءة ابن؟ من يستطيع احتمال ما يقاسيه معتقل قدم حريته المكذوبة التي كان يعيشها في العالم الخرجي فداء للوطن، ليعي الحرية الحقة والعالم الداخلي الروحي الأرحب والصلة بالله التي لا تنقطع ولا تنضب؟ 

 

قرأت الرواية في ثلاثة أيام متقطعة، شعرت خلالها أنني في رحلةٍ افتراضية تمنيت ألا أصل للمحطة الأخيرة فيها، لقد أكلت من خبز الطابون، واستنشقت الزيتون، شممت البرتقال، وارتديت الزي الفلسطيني ورفلت به وكأنني أميرة هذا الزمان، ذهبت إلى الحقول، وحُفرت في ذاكرة قلبي حكايات الأمهات الثكالى اللواتي وهبن أبناءهن لله بكل فخر، سمعت زغاريدهن الممتزجة بدمع القلب، وحملت بين يدي أشلاء من استشهدوا في النضال والذود عن وطنهم، كنت معهم في تخطيطهم للعمليات، لقد التحمت معهم وبأحداثهم، ارتويت من يقينهم بالله وتسليم أمورهم له.

 

ترجمت نردين كل ما يعتمل قلب مغتربٍ عن وطنه، وترجمت مشاعر كل فرد يؤمن بقضية أيّا كانت تلك القضية، أخبرتنا عما يعانيه المعتقل من شوق وحنين وظلم وذل وإهانة ، ذهبت بنا إلى ما بعد الحب واليقين والإيمان، داعبت الجفون الخجلى فانحدرت الدمعات، وأعادت إلى أرواحنا الممحلة المهترئة نورها ونضرتها، واستثارت مدامعًا في كل صفحة وفقرةٍ وحرف؛ إنها روايةٌ تأخذ قارئها إلى أرض فلسطين.

 

 

 

كيف تختار كتابك القادم؟

$
0
0

 

 

دائماً ما نقع ضحية حالة من الخمول بين إنهاء كتاب والبدء بآخر. قد تكون هذه الحالة  عابرة، وقد تستمر لأيام إذا كان الكتاب الذي تم إنهائه من العيار الثقيل. لكن للأسف كُلُّنا نصل إلى تلك اللحظة التي نلقي فيها نظرة على تلك الصفوف من الكتب على قائمة القراءة، ونقف أمام رفوف كتبنا، أو نتفقّد حسابنا على كندل (متجر لبيع الكتب الكترونياً)، أو نتنّقل في حسابنا على اوديبل Audible للكتب المسموعة، حينها نسأل أنفسنا ذاك السؤال المتكرر منذ زمن بعيد: ماهو الكتاب الذي علي قرائته؟

 

 

كنت أفكّر عندما وجدت نفسي في تلك اللحظة بالتحديد التي أقوم بها باختيار الكتاب التالي لقرائته بالطريقة الغريبة التي أنتقي فيها الكتاب. في بعض الأحيان أشعر وكأنه موعد غرامي، وأحياناً أخرى أشعر وكأنني أزور بوفيه مليء بالسلطات، وأحياناً أكتفي فقط بإختيار ما أُحب، في أوقات أخرى أجبر نفسي على الكتاب التالي، أجلس في تلك اللحظة العفوية المليئة بالجنون التي تحدث في حياتي عندما تتعلّق الأمور بالكتب فقط (أو الطعام لنكون صريحين).

 

 

لذا إليكم 4 طُرق لتحديد ما هو الكتاب التالي الذي عليكم قراءته:

 

 

 

1-طريقة شارلوت "طريقة الحجز المزدوج":

 

في يوم من الأيام، في مانهاتن، كان هناك 4 صديقات يلقين بالعالم خلفهن ويواعدن ويشققن طريقهن الخاص في العالم. إحداهن كان اسمها شارلوت، وشارلوت كانت تبحث عن حب حقيقي دون انفصال، وشعرت على كل حال أن الوقت ليس بصالحها، وبدأت بال"حجوزات المزدوجة": كانت تواعد رجلين في نفس الليلة!

 

في عالم الكتب، يمكن أحيانًا أن نُطبّق قاعدة الكتب المزدوجة (أو الثلاثية)؛ بمعنى حرفي أكبر: نحن نقرأ كتابين أو ثلاثة (أو، فليساعدني الله، أربعة) في نفس الوقت. نقرأ القليل من كتاب قبل أن نضع علامة ونبحر في الكتاب الآخر. والأمر العبقري هو أن تجد أثناء ذلك "الحب الحقيقي"؛ أي أن تنتهي بين يدي الكتاب الصحيح.

 

الفرق الوحيد عند إسقاط تجربة شارلوت على الكتب؛ أنك بينما تقوم بقراءة كتابين أو ثلاثة معًا، لن يقوم أحد بالحكم عليك أو إيذاء مشاعرك، على العكس من شارلوت.

 

 

 

2-الطريقة المعتدلة (Goldilocks):

 

كلُّنا نعرف قصة جولديلوكز والدبب الثلاثة؛ الفتاة المدعوة جولديلوكز استقّرت في كوخ صغير وجميل، وقد حاولت إخراج العصيدة والكراسي والأسّرة بحثاً عمّا يناسبها في كوخ الدببة.

 

طريقة جولديلوكز تُشرك طريقة أخرى: نحن نقوم بجمع مجموعة من الكتب المحتمل قراءتها، ونحدد اعتباطيًا حجم عيّنة لقياسها؛ صفحة واحدة؟ الجزء الأول؟ السطر الأول؟ ثم نقوم بالاطلاع على كل العيّنات، لنحدد أي منها هو الكتاب الذي سيقع عليه الاختيار.

 

 

 

3-طريقة رقائق النخالة ( The Bran Flakes Method):

 

إذا كان تتُّبع شغفك القرائي لا يعمل، فعليك  أن تستخدم طريقة رقائق النخالة.

رقائق النخالة، والبراعم، وبذور الشيا دائماً ما نسمع بأن هذه المواد جيّدة لصحتنا، مليئة بالألياف والفيتامينات، وهي من أفضل  أنواع الأغذية التي يفترض أننا بحاجة لها.

 

لذا فإن طريقة رقائق النخالة هي طريقة لإيجاد الكتاب الذي ليس جيّداً فحسب، بل هو جيّد لك بالتحديد. يمكن أن يكون من  الكُتب التي كان عليك قراءتها ولكنه لم يكن متوفّر أيام دراستك الجامعية، ممكن أن يكون ذلك الكتاب الضخم للفلسفة الذي اشتريته بدافع من بائع للكتب المستعملة، وممكن أن يكون ذاك الكتاب الكلاسيكي الثقيل الذي قطعت عهداً بإحضاره في يوم من الأيام. (كتاب أنا كارينينا. دائماً هناك على رفوف مكتبتي، يسألني متى ستقومين بقراءتي؟)

 

 

 

 

4-طريقة الحب في الصيف (The Summer Lovin’ Method):

 

الحُب في الصيف عابر، وعفوي، ومليء بالشغف والإثارة. هو لا يتعلّق بحب طويل الأمد أو بناء علاقة؛ هو يتعلّق بالشمس والرمال فحسب. 

طريقة الحب في الصيف تخاطب دومًا جانبك البرّي. هو يتعلّق بما لا تقوم بقرائته عادة.

 

طريقة الحب في الصيف لا تخاطب الاستدامة؛ هي فقط تمثّل التحليق بلا أجنحة أو ترتيب، والجلوس للاسترخاء، لمحض الاستمتاع، مهما كان يعني ذلك لك. لأن القلب يطلب ما يُريده.

 

 

 

 

ما هي الطريقة التي ستقوم باختيارها لقراءة كتابك المقبل؟

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.

 

8 كتب على كل شخص ذكي أن يقرأها

$
0
0

 

 

نيل ديجراس تايسون يختار ثمانية كتب يجب أن يقرأها كل شخص ذكي على هذا الكوكب؛ هذه القائمة تخبرك كيف "تكون نظرة عميقة لأكثر ما ساهم في صناعة تاريخ الغرب"؟

 

 

في كانون الثاني من عام 2011، اشترك نيل تايسون؛ العالم الأمريكي الشهير، المختص في علم الفلك، محترف سهام الكلام ومقدم العديد من البرامج التلفزيونية العلمية في سلسلة للأسئلة والأجوبة العامة على موقع ريدت reddit؛ "إسألني أي شيء".

 

 

أحد القراء سأل تايسون: "ما هي الكتب التي يجب أن يقرأها كل شخص ذكي على هذا الكوكب؟"

 

 

قدم تايسون ثمانية كتب أساسية، أتبع كلّ واحد منها بعبارة قصيرة وأحيانًا ساخرة، حول "كيف أثّرت محتويات هذه الكتب على سلوك الأشخاص الذين شكلو العالم الغربي"، إضافة إلى قائمة من الكتب التاريخية البارزة – التي تضم كتبًا لليو تولستوي، ألان تورينج، بريان اينو، ديفيد بووي، ستيوارد براند و كارل ساغان-.

 

 

فيما يلي قائمة الكتب الثمانية الأبرز التي على كلّ شخص ذكي قراءتها وفق تايسون:

 

 

1- الكتاب المقدس

عليك أن تقرأ الكتاب المقدس لتتعلّم أن يخبرك الآخرون بما عليك أن تفكر وتؤمن به أكثر سهولة من أن تستنبط ذلك بنفسك من خلال تفكيرك.

 

 

2- نظام العالم "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"لإسحق نيوتن

لتتعلم أن هذا الكون هو مكان يمكن فهمه والتعرف عليه.

 

 

3- أصل الأنواع لتشارلز داروين

لتتعلم عن صلة القرابة بيننا وبين أشكال الحياة الأخرى على الأرض.

 

 

4- رحلات جوليفير لجوناثان سويفت

لتتعلم عبر دروس ساخرة أخرى أن البشر في معظم الأحيان مجرد ياهوو (حصان متحضر) (عالم الأحصنة في قصة رحلات جوليفير حيث الخيول تحكم وتستخدم البشر في الاعمال اليومية).

 

 

5- عصر الأسباب لثوماس باين

لتتعلم كيف تعتبر قوة الأفكار المنطقية المصدر الأساسي للحرية في العالم.

 

 

6- ثروة الامم لآدم سميث

لتتعلم أن الرأس مالية هي اقتصاد الجشعين.

 

 

7- فن الحرب لسن تسو

لتتعلم أن عملية قتل البشر يمكن أن ترتقي لتعتبر فناً.

 

 

8- الأمير لميكافيلي

لتتعلم أن الأشخاص الذين لا يملكون السلطة والقوة سوف يبذلون وسعهم للحصول عليها، والأشخاص الذين يملكونها سوف يفعلون ما بوسعهم للحفاظ عليها.

 

 

 

أضاف تايسون:

 

 

"إذا قرأت كل الأعمال السابقة فسوف تستطيع تكوين نظرة عميقة عن أكثر ما ساهم في صناعة تاريخ العالم الغربي."

 

 

 

من الواضح أن التهميش المنظم للنظرة الأنثوية قد ساهم أيضًا في صناعة العالم الغربي. الشخص الذكي النمطي قد يفوته أيضًا على أقل تقدير قراءة النص التأسيسي "امرأة في القرن التاسع عشر"لمارغريت فولر، و"اللغز الأنثوي"لبيتي فريدان.  لكن مسألة التنوع بالطبع مسألة غير منتهية وأي قائمة يتم وضعها لن تكون ممثلة لكل البشرية بسبب التأثير النفسي لواضع هذه القائمة؛ لذا فإن خيارات تايسون تبقى ضرورية على الرغم من عدم التوازن الكروموسومي في وضعها.

 

 

آمل في هذه الأثناء أن نرى المزيد من قوائم الكتب المختارة من قبل عالمات أو فيلسوفات أو فنانات أو كاتبات بارزات لكتب من الماضي والحاضر.
 

 

حسب معلوماتي لم ينشر أحد قائمة كهذه بعد، إلا مذكرات سوزان سونتاغ التي تعتبر في جوهرها قائمة قراءة لمدى الحياة.

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

 


أولاد الغيتو؛ حكاية في مجابهة النسيان

$
0
0

 

 

 

لا يمكن لمعاناة الشعب الفلسطيني أن يجمعها كتاب واحد؛ فلكل مدينة قصة، ولكل قصة أكثر من رواية.

 

عندما تكون الحرب قائمة، وفي الأوقات التي يسيطر فيها الهلع والرعب على الموقف، لن تتوقع أن تجد في الناس القدرة أو الاستعداد لتوثيق معاناتهم، ولن يقوم الاحتلال طبعًا بتوثيق جرائمه وعدد ضحاياه؛ لذا يأتي هنا دور الأدب، ليجسد الصمت السائد بين صرخة الألم وضحكة المنتصر، يأتي الأدب ليوثق الكثير من الحكايات التي اعتمدت على النقل الشفوي، ويضمن لها –ولو نظريًا- مكانًا في ذاكرة العالم على المدى البعيد.

 

 

ها هو إلياس خوري، الروائي اللبناني، يجسد معاناة أهالي مدينة اللد بعد هجوم الجيش الإسرائيلي في تموز عام 1948 على المدينة، وإجبار أهلها على التعايش ضمن حصار قاتل، أو الفرار كي لا يتمكنوا من العودة إلى أراضيهم بعد ذلك.

 

 

جسد إلياس خوري في روايته أولاد الغيتو مأساة الشعب الفلسطيني في مدينة اللد عام 1948؛ عندما بقي في المدينة بضعة أشخاص حوصروا داخل سياج من الأسلاك الشائكة أقامه الإسرائيليون حول الحي المحيط بالمسجد والكنسية وبضعة بيوت هاجرها أهلها ومستشفى يفتقر للمقومات الأساسية للعلاج.

 

 

ليفرض جيش الاحتلال بعدها على هؤلاء المواطنين الذين أطلق عليهم سكان الغيتو عمليات تنظيف للشوارع التي امتلأت بجثث الضحايا، ونهب البيوت المجاورة وما يمكن نقله من الدكاكين والمحال التجارية لتحميله في شاحنات للجيش الإسرائيلي.

 

 

على مدار شهر كامل عمل عشرون شابًا من أهل الغيتو على إزالة الجثث المتفسخة ورميها في خندق كبير على شكل قبر جماعي، وفي اليوم الأخير أمرهم الضابط الإسرائيلي بجمع الجثث المتبقية وحرقها.

 

 

قدّم إلياس خوري في روايته أسلوبًا سرديًا فريدًا؛ إذ جاءت روايته على شكل روايتين لـ آدم دنون -وهو بطل الرواية-  يقع الجزء الأول منها  بتجسيد حياة شاعر الغزل الأموي وضاح اليمن، والذي لقي مصرعه نتيجة لعشقه لأم البنين زوجة الخليفة الأموي، والجزء الثاني من الرواية هو شذرات من طفولة آدم دنون وطبيعة حياته في اللد، والمعاناة التي عاشها أهل اللد في الغيتو.

 

 

تطرق إلياس خوري في روايته لمواضيع عدة تمد القارئ بفلسفته النادرة؛ فقد ربط الموت والحياة بطريقة لا يمكن وصفها، تطرق أيضًا لرواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) وربطها بقصة شاعر الغزل الأموي وضاح اليمن، كما تحدّث عن العلاقة بين صمت الضحية وصمت الجلاد؛ كيف يمكن أن يكون الجلاد هو نفسه الضحية، ومن هنا لا بد لنا أن نذكر قول "فرويد" : إن سلوك الإنسان مبرر في نظره.

 

لقد عمل خوري على حشد مجموعة من المتناقضات التي نواجهها في حياتنا اليومية، ونثرها في روايته أولاد الغيتو التي تستحق القراءة بلا شكّ. 

 

 

 

خطاب تسلّم إرنست همنغواي جائزة نوبل

$
0
0

 

 

"لا يمكن للمرء أن يكون وحيداً بما يكفي ليكتب!"

سوزان سونتاج

 

 

في الحقيقة، يبدو أن العزلة تشكّل محورًا روتينيًا يوميًا للعديد من الكتاب العظماء، بل قد تكون لعنة تحتاج نضالاً لا يوصف لاستخراج تعويذة الوحدة، والخروج من قبضتها في الوقت ذاته.

 

في أكتوبر 1954، نال أرنست همنغواي جائزة نوبل للآداب. لكن، في الحقيقة، لم يستطع همنغواي أن يستمتع بالجائزة كما يجب؛ بدايةً: أخبر الصحافة أن ( كارل ساندبرج، إسحاق دنيسين، بيرنارد بيرنسون) هم أجدر منه بالتكريم، ولكن بإمكانه أخذ المبلغ النقدي من الجائزة، ثم انتكس وتعافى مرتين جرّاء نجاته من حادثتين على التوالي لتحطم طائرتين كان سيموت على إثرهما، ليقرر بعدها ألا يسافر أبدًا إلى السويد.

 

 

عندما اختار همنغواي عدم الحضور لحفل جائزة نوبل في أستكهولم، ١٠/ تشرين الأول/ 1954؛ طلب من سفير الولايات المتحدة الأميركية في السويد آنذاك؛ جون سي، قراءة خطاب الجائزة، الذي وجد في سيرته الذاتية عام ١٩٧٤ ( همنغواي: الكاتب كفنان). فيما بعد قام همنغواي بتسجيل الخطاب بصوته.

 

 

 

فيما يلي نص خطاب استلام همنغواي لجائزة نوبل للأدب:

 

 

"دون أن أمتلك مهارة صياغة الخطب أو إلقاءها، وبلا صفات الخطابة أو هيمنة الخطباء، أريد أن أشكر المشرفين على جائزة نوبل على كرمهم.

 

لا يستطيع كاتب يعرف تمام المعرفة من هم الكتّاب العظماء الذين لم يتلقوا جائزة نوبل، إلا أن يقبلها بفائض من التواضع، ولا داعٍ لسرد أيٍ من هؤلاء الكتاب هنا، لأن كل واحد منا يملك قائمته الخاصة منهم بناءً على معرفته ووعيه.

 

إنه لمن المستحيل عليّ أن أطلب من سفير بلادنا أن يقرأ خطابًا كهذا، يفصح فيه الكاتب عن كل الأشياء التي تجول في قلبه. قد لا تكون الأشياء مدرَكة تمامًا عندما يكتبها أحدنا، وقد يحالفه الحظ أحيانًا ليحصل في النهاية على نتيجة واضحة؛ هذه التفاصيل إلى جانب الكيمياء التي يمتلكها الكاتب؛ هي ما ستجعله يستمر أو ستضعه طيّ النسيان.

 

الكتابة، في أفضل حالاتها، هي حياة في العزلة. ما تقوم به المنظمات المعنية بالكتّاب هو التخفيف من شعور الكاتب بالوحدة، لكنني لا أعتقد أنها تمنحه شيئًا لتحسين جودة كتاباته. يعيش الكاتب في مكانة اجتماعية مرموقة يتخلص من خلالها من وحدته، ولكنه بذلك قد يعرّض أعماله لخطر التردي في أغلب الأحيان. فالكاتب يكتب عندما يكون لوحده، وإذا كان كاتبًا جيدًا فعليه أن يواجه الأبدية أو انعدامها كلّ يوم.

 

كل كتاب يكتبه الكاتب الحقيقي هو بداية جديدة يحاول فيها تحقيق ما يصعب تحقيقه. يجب على الكاتب أن يحاول دائمًا القيام بشيء لم يسبق أن قام به أحد من قبل أو فشل الآخرون في تحقيقه، وعندها، وفي معظم الأحيان، ومع محالفة الحظ له، سوف يحقق النجاح.

 

كم كانت صناعة الأدب لتكون بسيطة لو كان كل ما علينا أن نقوم به هو إعادة صياغة الأدب الذي كتب بطريقة جيدة. لقد حظينا بكتّاب مرموقين في الماضي، لأنه كان عليهم دومًا أن يتخطّوا حدود قدراتهم، متجهين بشجاعة نحو الصعاب.

 

لقد تحدّثت مطولًا باسم الكتّاب. على الكاتب أن يكتب ما يريد قوله، لا أن يتحدث به. مرة أخرى؛ شكرًا جزيلًا لكم." 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

قراءة في مذكرات "أتغير"لليف أولمن

$
0
0

 

 

عرّف قاموس أكسفورد السيرة الذاتية كما يلي:"كتابة الشخص لتاريخه وقصة حياته بقلمه". والسيرة الذاتية هي استعراض الشخص لمحاطات حياته عبر تعاقبها الزمني، وهي مسار تكتب بها الشخصية بقلمها مراحل حياتها عبر تعاقبها الزمني، وتجاربها التي طوتها عبر السنين، ومستقبلها الملئ بالأمل وربما بالخوف. والسيرة الذاتية في مجملها هي وسيلة لكتابة الذات بكل تغيراتها، من هنا جاء كتاب"أتغير"للكاتبة والممثلة السينمائية النرويجية "ليف أولمن"، حكاية تسرد فيها حياتها الظاهرة والباطنة على حد سواء.

 

لم يكن الخوض في مسألة الأنا البعيدة عن أضواء الشهرة عند ليف أولمن صعبًا، بل كان نتيجة طموح جنحت له هذه الممثلة النرويجية التي خطفت أضواء الشهرة على الشاشة.

 

 

في مذكراتها "أتغير"؛ وقفت أولمن لمواجهة جمهورها بحقائق تكشفها لإبنتها إلين؛ فكتبت تقول لها:

 

 

"صورت أفلامًا في إنجلترا وفرنسا والدنمارك ورومانيا والسويد، ورافقتني إلين، زرنابقاعًا كثيرة من العالم، ولكن كان لدي بيتي الذي أحب وكتبي وإسطواناتي والأشجار الراتنجية في الخارج... قابلت أناس من كل الأنواع؛ مشهورون وحمقى، حكماء، فقراء وأثرياء".

 

 

 

حاولت هنا أولمن أن تكشف عن العلاقة المتبادلة بين شهرتها وحياتها الخاصة، أن تتحدث عن أشياء تحبها أكثر ربما من عالم النجومية.

 

ففي أول المذكرات كانت أولمن تستحضر تربتها الأصل؛ مكان ولادتها في طوكيو بمستشفى صغير عام 1938، كانت هذه هي الصورة الأولى التي كونت لدى القارئ الرغبة منذ البداية باكتشافها.

 

لقد سعت أولمن أن تخبر القارئ بظروف نشأتها بأدق التفاصيل حيث كتبت:

 

 

تتذكر أن إحدى الممرضات مالت عليها وهمست لها بنبرة اعتذار:
"يؤسفني أنها فتاة، هل تفضلين أن تخبري زوجك بنفسك؟"

 

 

وهو ما يدخل في إطار الكتابة الدقيقة لترجمة حياتها.

وفي هذه الحالة المحددة بالذات، كانت أولمن تنتقل بين صفحات كتابها للبحث عن الفكر والرغبة والعاطفة، ولتكشف أكثر عن الروابط القائمة بين تجربتها الذاتية والأسلوب الواقعي الذي تعبر به عن هذه التجربة، والذي سيمكن ابنتها إلين من فهم تجربة التغيير بحد ذاتها.

 

لذلك كتبت واشنطن بوست تعليقًا على الكتاب تقول فيه:

 

"هذا الكتاب يشكل نوعًا من الكتابة قائم بذاته. أحد الأشياء الخارقة في سيرة ليف أولمن الذاتية هو قلة اعتمادها على شهرة المؤلفة كمصدر للقوة".

 

 

كانت أولمن تذهب إلى التغيير دون اكتراث، فهو مخاطرة غير محسوبة بالنسبة لها، وهو تغيير شامل في كل نواحي الحياة بتسارع أحيانًا وببطئ أحيانًا أخرى، فبالرغم مما قد يصنعه التغيير عند الأعلام والمشهورين من تأثير على المجتمع لما يتمتعون به من قرب من قلوب الجمهور؛ فإن أولمن اكتفت بأن تتغير انطلاقًا من الأنا ومن ذاتها الإنسانية،ككائن بشري؛ كتبت عن الحب والعزلة، وعن كونها امرأة فقط؛ تقول:

 

 

"أحاول طوال الوقت أن أتغير، لأنني أعلم علم اليقين أن هناك أكثر بكثير من الأشياء التي كنت قريبة منها، أن أجد السكينة لأتمكن من الجلوس والإنصات إلى مايجري داخلي، دون مؤثر دخيل"

 

 

وبهذا اتبعت معايير العمل الإبداعية؛ حيث استطاعت التوفيق بين متطلبات الحقيقة ومتطلبات الفن، فتحملت عناء إبراز ذاتها الكاتبة في صورة أدبية جمالية أصبحت بمثابة صلة تقربها أكثر من ابنتها والآخرين.

 

هذه هي حياة أولمن، لقد قررت أن تصغي في النهاية لصوت ابنتها، وأن تمتلك مفاتيح التغيير في نواح عدة من مسيرة حياتها، ففي أواخر الكتاب، كانت رسالة التجديد الذاتي واضحة عندما قررت الوقوف على أنقاض طفولتها؛ فكتبت عبارتها الأخيرة:

 

"لعل ما أفتش عنه على الدوام هو مملكة الطفولة الضائعة"

 

 

 

وقد تخفي هذه العبارة أن هذه الكاتبة تكيفت مع تصورها عن التغيير وقدرتها على مواجهة الحياة، فاستطاعت بذلك المحافظة على أداء دورها المؤثر في الحياة بوجه عام، وبشكل أكبر من ذي قبل.
 

 

 

أفضل الاقتباسات الأدبية في سينما 2016

$
0
0

 

 

يبدو عام 2016، بعد انتهائه، باهتًا على المستوى السينمائي. كثير من الأفلام الممتدحة بشدة، والتي دخلت قوائم النقاد ﻷفضل أفلام العام، كانت لا تستحق الضجة المثارة حولها.

 

نحن هنا لسنا بصدد تقييم الموسم السينمائي برمته، بل جزء صغير منه، ذلك الذي يختص بالأفلام المقتبسة. ثمة عدد لا بأس من المواد الأدبية المنقولة إلى السينما، ولا تدّعي هذه القائمة الإحاطة بها، لذا ستظلّ قابلة للتحديث حتّى الانتهاء من أهم الأفلام المقتبسة (أو التي يقال أنها مهمّة)، وهنا نقدم لكم بضعًا منها؛ (مرتبة تصاعديًا حسب قوّتها):

 

 

 

9- Loving – جيف نيكولز

قدم جيف نيكولز فيلمين دفعة واحدة في 2016. وإذا كان فيلمه الأول لهذا العام Midnight special قد مرّ بلا ضجة كبيرة، فإن Loving فيلمه الثاني حصل على بعض منها، إذ كان أحد الأفلام المرشحة لسعفة كان الذهبية، ونال أبطاله (جويل إدغرتون وروث نيغا) عنه ترشيحين ﻷفضل ممثل/ممثلة عن دور رئيسي في الغولدن غلوب (وربما في الأوسكار كذلك؟).

 

يحكي الفيلم قصة حقيقية عن زواج ريتشارد عامل البناء الأبيض بميلدريد الفتاة سوداء البشرة، وهو الأمر الذي تحاربه ولاية فيرجينيا لخرقه قانون منع زواج مختلفي البشرة. لعل من الواجب القول أن قيمة هذا الفيلم ستنخفض أضعافًا جراء تلخيصها كما فعلت. فهو ليس فيلمًا آخر عن نيل الحقوق، ولو أن هذا جزءًا مما يفعله. كل شيء في Loving يسير بطيئًا، نحن حتى لا ندخل المحكمة لنرى كيف جرت الأمور. نيكولز أراده هكذا، فيلم عن وتيرة الحياة التي يعيشها من يسعى المجتمع لتحويلهم إلى أبطال. عن رغبة الزوجة في عيش هذا الحلم الأمريكي ورفض الزوج له، مفضلًا ألا يكون سوى ريتشارد البناء، الذي أحب ميلدرد وأنجب منها 4 أطفال، ولم يتبقى لديه من رجاء سوى حمايتهم وتأمين يومهم.

 

 

 

8- Zootopia – بايرون هوارد &ريتش مور &جاريد بوش

بعد Inside out الذي حصد كل جائزة ممكنة الموسم الفائت، تتقدم ديزني بZootopia وهو فيلم آخر يبدو أن الرهان عليه لن يخيب (حصد جائزة الغولدن غلوب لأفضل فيلم كرتوني). يقدم زوتوبيا قصة تقليدية في إطار جديد، فنحن نشاهد جودي هوبز، أرنبة تسعى لتصير أول شرطية من جنسها. بعد أن تصل لمرادها، وتنتقل للخدمة في مدينة زوتوبيا، تصطدم هناك بـ"الحياة الحقيقية"، الحياة المليئة باللامبالاة والفساد والكذب. وفي رحلة طويلة، على المستوى المادي والفكري، يمرر الفيلم أفكاره عن العنصرية ودور الميديا في توجيه الرأي العام وقدرة الفرد على توليد القيمة الأخلاقية. على ذلك، فإن زوتوبيا لا ينزلق نحو خطاب فكري بحت، بل يظل محافظًا على قدر من البهجة والطزاجة، يجعله صالحًا للصغار والكبار بنفس القدر.

 

 

 

7- Certain women – كيلي ريتشارد

تقدم كيلي ريتشارد بفيلمها المعتمد على قصص الكاتبة مايلي ميلوي فيلمًا جريئًا، لا يساوم، ولا يشبه إلا نفسه. 3 قصص لـ3 نساء تدور في بلدة أمريكية. يبدو لوهلة أن هذا كل شيء فلورا وجينا وإليزابيث لا يعرفن بعضهن، لكن المخرجة تعمد لوضع تفاصيل صغيرة جدًا، أبعد من مجرد معيشتهن في بلدة واحدة، تعمد من خلالها إلى إرجاء طرح الأسئلة، لأن الأسئلة الحقيقية (خيانة زوج جينا لها مع لورا مثلًا) سوف تدفع كل شيء لانفجار مناقض للهدوء الذي يتبناه الفيلم طابعًا له. يتخذ الفيلم رتمًا بطيئًا لا يتبدل بين القصص الثلاث، وربما يحتاج إلى صبر أثناء المشاهدة حتى يتمكّن المشاهد من التفاعل معه.

 

 

6- deadpool – تِم ميلر

للعام الثاني على التوالي، بعد Mad max، يأتي فيلم من عالم موسوم بالتجارية وبتغليب المؤثرات البصرية على حساب القيمة الفنية، ويقلب الطاولة على هذا الستيريوتايب. ديدبول يقدم قصة كوميك عن بطل خارق، فيلم مليء بالبهرجة، مليء بالمؤثرات البصرية، مليء بالكوميديا المجانية، لكنه يتمكن من أن يبني مساحته الخاصة، وصوته الأصيل الذي يبعده عن أي فيلم أبطال خارقين آخر. يهضم ريان رينولدز لباس ديدبول ويسخره بطريقة يبدو فيها أنه فعلًا امتداد لجلده. كما أن خطاب الديدبول الذي لا يدعي البطولة بل الانتقام، والتوقيت الملائم لرمي النكات، وأسباب أخرى، كلها تجعل ديدبول فيلمًا مغايرًا، وربما يسهم في تغيير نظر المشاهد تجاه هذه الفئة من الأفلام، ولو قليلًا.

 

 

 

5- Genius – مايكل غراندج

يركز الفيلم المقتبس عن كتاب إيه سكوت بيرغ على ماكس بيركينز، محرّر روايات كلّ من إف سكوت فيتزجيرالد وإرنست هيمنغواي، وعلى علاقته بالروائي الأمريكي توماس وولف تحديدًا. خلال ساعة و44 دقيقة، هي مدة الفيلم، نحن نطالع بيركينز، المحرّر الذي ينذر حياته لقراءة المخطوطات، شطب الفقرات الزائدة، والدفاع عن خياراته أمام كتّاب يعتدون بما يكتبون. تجدر الإشارة إلى أنّ الفيلم يفترق عن الكتاب المقتبس بشيء مهم، في الفيلم يبدو بيركينز متحمسًا لرواية وولف الأولى (you can’t go home again) منذ البداية، بينما في الكتاب لم يعجب فيها منذ القراءة الأولى، بل بعد نصيحة أحد أصدقائه بإعادة النظر في المخطوطة.

يقدّم كلًّا من كولين فيرث (بدور ماكس بيركينز هادئ الطبع) وجود لو (بدور توماس وولف صاخب الطبع) أداءات مرضية لمستوى الحدث، إذ يبدو كلّ منهما مرآة تنعكس عليها ردّات فعل الآخر، مولّدة موجة من الحوارات المثرية حول ما يجب أن يكون عليه العمل الأدبي وما لا يجب. وربّما مشكلة الفيلم الوحيدة أنّه يعطي صورة رومانسيّة عن مهنة التحرير. فليس كلّ المحرّرين يحظون بفرصة العمل على مخطوطة لهيمنغواي أو فيتزجيرالد، لكنّه مع ذلك يقدّم تجربة مهمّة عن حال النشر الأدبي الذي نفتقده هذه الأيام.

 

 

 

4- Nocturnal Animals – توم فورد

يقتبس توم فورد في فيلمه الثاني هذا رواية لأوستن رايت، محيلًا إياها إلى واحدٍ من أجمل أفلام العام الفائت. فيلم ثريللر، يذكّر ببعض من أجزائه بكلاسيكيّات ديفيد لينش (Blue Velvet مثلًا). في حكاية مزدوجة، نشاهد قصّتين متوازيتين، الأولى بطلتها سوزان (إيمي آدامز) وطليقها إدوارد (جيك جيلينهال). يبعث إدوارد لسوزان روايته التي أخذ الفيلم عنوانها، ويهديها إياها. ثمّ ندخل، تزامنًا مع قراءة سوزان للرواية، عالم الرواية نفسه. في الرواية ثمّة عائلة من أب (جيك جيلينهال أيضًا بدور توني هيدجينز) وامرأته وابنته، ينطلقون في رحلة طويلة في السيارة، ووسط مكان معزول يبتزّهم مجموعة من الشبان قصد التسلية.

يزاوج الفيلم بين الحكايتين ببراعة كبيرة. فنحن نطالع رواية تحبس الأنفاس، مزعجة لأقصى حدّ، تدفع سوزان للاعتراف ببراعة زوجها السابق في الكتابة، زوجها نفسه الذي لم تؤمن بإمكاناته حين كانا معًا. ثمّة إشارات داخل رواية إدوارد لا يمكن إغفالها لعلاقته بسوزان، فمن خلال حكاية بالغة العنف، يستطيع إدوارد أن يتغلّب على ضعفه الذي وسم حياته، ليتمكن من مواجهة سوزان بما لم يواجهها به منذ تسعة عشر عامًا.

 

 

 

3- Hunt for the wilder people – تايكا وايتيتي

يقدّم تايكا وايتيتي، المخرج النيوزلندي، واحدًا من أظرف أفلام العام. في فيلمه الأخير، المعتمد على كتاب لباري كرامب، يقدّم وايتيتي حكاية ريكي الفتى اليتيم، الذي نبذته دار الأيتام، ولم تشأ أي عائلة تبنيه، سوى بيلّا (والتي عارض زوجها هيك قرارها هذا).

فجأة، ودون سابق إنذار، تموت بيلّا تاركة ريكي مع هيك الذي يكرهه. يذهب هيك وريكي في رحلة للغابة، تنتهي بكسر قدم هيك، ليغيبا عن المنزل فترة طويلة. هنا يأخذ الفيلم انعطافته الكبرى. إذ نشهد رحلة لرأب الصدع بين رجل مسنّ يكره ابنه المتبنّى، توازيها رحلتهما للتحرّر من السلطة بمفهومها الأشمل (ممثلة بالدولة). يعجب كلّا من هيك وريكي هذا الضياع في أدغال نيوزيلندا، فيقرران العيش على هواهما، فتلاحقهما الحكومة بتهمة الغياب عن المنزل (!).

 

 

 

2- Elle – بول فيرهوفن

بعد 10 أعوام من الغياب، يعود المخرج الهولندي بول فيرهوفن باقتباس سينمائي عن رواية لفيليب ديجان بعنوان "هي". من العنوان يعلن الفيلم عن هويّته، فهو لا يهتمّ بأحدٍ سواها، أي بميشيل ليبلان (إيزابيل أوبير)، وبعالمها الداخليّ. ميشيل تتعرّض للاغتصاب في مشهد عصيب على المشاهد في بداية الفيلم، لكنّها بدلًا من الانهيار والعودة صوب عالمها الداخلي، تواصل حياتها كأنّ شيئًا لم يحدث، لا تخبر الشرطة، لا تخبر أي صديق، كأن شيئًا لم يحدث. ثمّ نراها شيئًا فشيء، تحاول استثارة أحاسيس من حولها، حتّى توقع أحدهم في شركها لتعرف هويّة مغتصبها. "هي"فيلم يحبس الأنفاس وإن كان يبدو أنّ قصّته بحاجة لرويّة أكثر في التعاطي معها، لكنّ ميشيل لا تترك لنا مجالًا، نحن ننزلق مع قراراتها، نتبناها دون أن نشعر، حتّى ليبدو أنّ واحدًا من الأشياء التي أرادها المخرج هو أن يشرك المتفرّج في المعضلة الأخلاقيّة التي زجّ بطلته فيها، أن يتواطأ معها فلا تصير غريبة عليه، كلّ هذا بأداء بديع لإيزابيل أوبير يصعب وصفه بالكلمات، توّجت عنه باستحقاق بجائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثّلة عن دور رئيسي، رغم أنّ الفيلم ناطق بالفرنسيّة.

 

 

 

1- Arrival – دوني فيلينوف

ربّما هذا أفضل أفلام المخرج الكندي دوني فيلينوف قاطبة. ينقل فيلينوف قصّة خيال علمي لتيد تشيانغ تحت مسمّى "Story of your life"، عن فضائيين يغزون كوكب الأرض، لكنّه غزو بالمعنى العام، إذ لا نرى اجتياحًا من أيّ نوع. فقط نشاهد مركبات بيضاويّة الشكل، عموديّة الوِقفة (على عكس الشكل الأفقي والدائري التقليدي للمركبات الفضائية)، تحطّ في 12 مكانًا على سطح الأرض. هنا، تستعين الأف بي آي بلويز بانكس (إيمي آدامز)، عالمة اللسانيّات لتتواصل مع الفضائيّين في محاولة لمعرفة سبب غزوهم/زيارتهم لكوكب الأرض.

 

يضع فيلينوف أبطاله في مواقف غريبة على الدوام، هم دائمًا في مواجهة لخارج غريبٍ عليهم، لكن يبدو أنّه لا يوجّه الأسئلة لفهم الخارج بقدر ما يحاول أن يفهم دواخل شخصيّاته؛ فالخارج يقول عنّا أكثر ممّا يقول عن نفسه. الفضائيّون هنا حجّة، أو خدعة إن شئت، يلهينا بها المخرج عن شخصيّته الرئيسة. لكنّ الفيلم لا يحتفظ بهذه الحالة من الغموض كثيرًا، ففي نهاية الفيلم يكشف رسالته بطريقة مدرسيّة، إن تغاضينا عنها، ربّما يمكننا القول، أنّ الفيلم خلق حالة أصيلة، تضطلع فيها إيمي آدامز بدورٍ مذهل، لعلّها ستنال عنه ترشيحها الأوسكاري السادس. 

 

 

 

عرض كتاب "الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان"

$
0
0

 

 

الدكتور محمد عبدالله دراز؛ من الأفذاذ الذين جمعوا بين الثقافة القرانية والإسلامية والثقافة الغربية، توفي عام ١٩٥٨، يعتبر من أعلام المسلمين في القرن العشرين.

 

 

يُعد كتابه الدين (بحوث ممهدة لدراسات الأديان) من الكتب العميقة، فهو عبارة عن مجموعة مباحث أبدع الكاتب في استعراض مقدرته التحليلية فيها، فخرج الكتاب ككلٍ متصل؛ أكثر ما يميّزه معالجة مفهوم الدين بصورته العامة لا بصورة مخصوصة لدين محدد، بحيادية ومنهجية منضبطة.

 

 

يبيّن الدكتور دراز في مقدمة الكتاب أن الحديث عن العقائد البشرية في جوهره شأن قديم، معاصر لاختلاف الناس في مللهم، إذ يوضح أن العصر الإغريقي والذي يُعتبر الأكثر تدوينًا من العهود القديمة تخرّج فلاسفته من حضارات الشرق والحضارة المصرية بوجه أدق، لكنهم كانوا باحثين ومجددين. أشار أيضا إلى وجود روما المادي في اليونان، إذ لم يتأثروا بهذه العلوم الفلسفية إلاّ بعد أن دونها العرب، وانشغلوا بالصراع بين المسيحية التي أقرها الإمبراطور قسطنطين دينًا رسميًا وبين بعض العقائد الجديدة التي بدأت تظهر.

 

 

 

الكتاب عبارة عن خمس بحوث  في حوالي ١٩٠ صفحة، لا تجد بينها انفصال وإنما استطراد وارتباط؛ ففي البحث الأول تناول تحديد معنى الدين قائلًا: أن المدخل للمميزات والمشخصات عند تفسير حقيقة معينة يتطلب بداية معرفة عناصرها العامة ومقدماتها الكلية وهذا يعني أن الدين حقيقة موجودة تتطلب تفسير  لكل مسلك من مسالكه .

 

 

تناول بداية المعنى المعجمي لكلمة الدين، بالنظر إلى اشتقاق وتصريف الكلمة في اللغة العربية، فهي تعني:

  • دانه: أي ملكه،حكمه،ساسه،دبرّه
  • دان له: أي أطاعه وخضع له
  • دان به: أي اعتقده ،اعتاده وتخلق به

 

 

وأوضح أن وراء الاختلاف الظاهر صلة تامة في جوهر المعنى، وجملة القول أن الدين عند العرب يشير لعلاقة بين طرفين يُعَظِّم أحدهما الآخر ويخضع له .

 

بالانتقال إلى البيان الاصطلاحي للكلمة، استعرض دراز جملة من التعريفات والأقوال لمعنى الدين مفنداً ومحللاً، حتى خرج بتعريف مركب وفيه يقول: (إن الدين هو الاعتقاد بوجود ذات أو ذوات غيبية علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان. اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة)، ويسوق الاعتبارات لاعتماده هذا التعريف بأنه يشمل الأديان جميعها وفيه خروج للإنسان من فكرة خضوعه للرغبات والشهوات، أو خضوعه للقوانين الطبيعية، كما أن التعريف يؤكد أن التدين يكون لذات أو ذوات غيبية أو روحية، وهذا يشمل الديانات التي توجهت للأشخاص والأحجار والأشجار حيث كان الغرض حلول معان فيها وليس المقصود الذوات المجردة، وأخرج السحرة والكهنة في التعريف وذلك بكلمة علوية، أي تملك تصرفها وليس العكس، كما أخرج الديانات التي لا تؤمن بمبدأ الألوهية مثل بعض فلسفات الشرق.

 

 

نخلص إلى أن الدين خضوع طوعي اختياري ممزوج بالمحبة والإجلال، قوي يملأ النفس أملاً، يدفعها للسعي وبذل الفعل وليس خضوعاً جبرياً عاجزاً يائسًا.

 

 

في البحث الثاني انتقل دراز إلى علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب المتداخلة مع الأديان؛ حيث أفرد مساحة لعلاقة الدين والأخلاق وتناولها من جانبيها النظري التجريدي والذي يدرس العلاقة كما يجب أن تكون، والجانب الواقعي العملي وهو الجانب الذي عليه كانت. من الناحية النظرية وصفهما كشجرتان متجاورتان منفصلتان نشأةً، ما تلبث أغصانهما أن تتشابك، أما من المنظور العملي فهو لا يرى صلة بينهما؛ فمن الناحية الفردية يبدأ النزوع الأخلاقي أولا مع عمر التمييز، بينما النزوع الديني التأملي يأتي لاحقًا، وإذا أخذنا الناحية الاجتماعية للأخلاق؛ فلا تستوي عند قاعدة معينة، فبعض الديانات ليس لها دور وينطوي المتدين على نفسه وبعض المجتمعات قوام أخلاقها؛ والخلاصة أن الدين والأخلاق لا يكون بينهما إلاّ تشابه موضوعي مع اختلاف البواعث والأهداف.

 

 

في البحث الثاني يطرح العلاقة بين الدين والفلسفة، وينتقد مقولات أن الفلسفة إجمالاً تعتمد على البرهان العقلي، موضحاً أن بينها تناقض وتعارض، والحق المطلق يؤيد بعضه بعضًا.

 

 

يرى دراز أن بعض المذاهب الفلسفية تتباين تمامًا مع الدين خاصة المادية منها، وبعضها يتوافق في بعض الجوانب؛ في نهاية التحليلات يخلص إلى إن غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي وغاية الدين حكمة عملية حتى في جانبه النظري وأقصى مطالب الفلسفة المعرفة دون تحديد موقف، أما الدين فغايته الإيمان ومعرفة الواجب للعمل به وإكمال النفوس بتحقيقه.

 

 

الجانب الأخير في هذا البحث يطرح علاقة الدين بسائر العلوم، والذي بعد استعراض وتحليل الصدامات التاريخية بينهما يصل إلى إنه إذا كان الدين حقاً والعلم حقاً وجب أن يتصادقا ويتناصرا، أما إذا تكاذبا وتخاذلا فإن أحدهما لا محالة يكون باطلاً وضلالًا.

 

 

اهتم دراز في البحث الثالث بنزعة التدين ومدى أصالتها في الفطرة، مستعرضًا ماضيها، سائرًا عبر منبعها في نفوس الأفراد ودورها في المجتمع، وصولاً إلى مستقبلها وكيف تكون أمام تحديات التقدم الفكري والعلمي.

 

البحث الرابع أكثرها إثارة؛ إذ يتناول نشأة العقيدة الألوهية حيث سرد كل المذاهب الطبيعية بشعبيتها الطبيعية والطبيعية الشاذة العنيفة والمذاهب الروحية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، في صورة موسوعية جميلة، وأجملها ختامًا في أنها تشترك في نظرتها لنشأة العقيدة الإلهية بأن الإنسان وصل إليها بنفسه عن طريق عوامل إنسانية، سواء أكانت تلك العوامل من نوع الملاحظات الفردية أم من التأثيرات والضرورات الاجتماعية اللاشعورية، وفي الطرف المقابل استعرض المذهب التعليمي الذي يقول بأن الأديان لم يسر إليها الإنسان، بل سارت هي إليه، وإن الناس لم يعرفوا ربهم بنور العقل بل بنور الوحي.

 

 

الختام هو البحث الخامس، والذي هو بحث أعده الدكتور للمشاركة في الندوة العالمية للأديان، وفيه تناول موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها؛ الأديان هنا يعني بها الأديان السماوية.

 

يرى دراز أنه لا يجوز السؤال عن علاقة الشيء بنفسه، مستند إلى القران، مستعرض الآيات التي أجمعت على أن دين كل أنبياء الله هو الاسلام، الذي عرّفه بأنه التوجه إلى الله رب العالمين في خضوع خالص لا يشوبه شرك وفي إيمان واثق مطمئن بكل ماجاء من عنده على أيّ لسان في أيّ زمان أو مكان، دون تمرد على حكمه ودون تمييز شخصي أو طائفي أو عنصري بين كتاب وكتاب، أو بين رسول ورسول.

 

 

يختم الكتاب بالحديث عن العلاقة بين الإسلام بكونه الرسالة المحمدية وعلاقته مع اليهودية والمسيحية، وذلك بالنظر إلى التشريع من خلالها؛ حيث نجد أن كل شريعة حافظت على الأسس الثابتة من السابقة وزادت عليها ما شاء الله زيادته؛ فهكذا هي الخطوات متصاعدة واللبنات متراكمة في بنيان الدين والأخلاق وسياسة المجتمع، وكانت مهمة اللبنة الأخيرة أن أكملت البنيان وملأت الفراغ؛ موضحاً أن علاقة الإسلام هي مثل اليد الممدودة لمصافحة أتباع كل ملة ونحلة في سبيل التعاون على إقامة العدل ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك وحماية الحرمات أن تنتهك.

 

 

تجدر الإشارة إلى أن أسلوب الكتاب بديع من حيث البلاغة اللغوية ومن حيث مبدأ التعليم التحليلي لا التلقيني.

 

 

 

البحر الأبيض المتوسط في الأدب

$
0
0

 

 

يعتبر البحر واحدًا من الموضوعات الأدبية المميزة؛ فهو المحور لآلافِ القصائد و المسرح للعديد من القصص والروايات. رؤية البحر تستدعي الزمن وتجارب الحياة، وأمواجه بحركتها وعدم استقرارها جعلت منه رمزاً للقلوب الإنسانية المتغيرة وحال الوجود المتقلب.

 

 

تأمٌّل البحر كتأمِّل الفرد لنفسه وللآخرين، ومشهد الأفق عند الشاطئ وهو يواجهنا بالمجهول ألهمَ العديد من الكُتاب بين حضارات البحر الأبيض المتوسط وبخاصة الأبطال الإغريق الذين عملوا بالملاحة؛ لذا فإن مآثرهم البطولية الخالدة كانت مرتبطة برحلاتهم البحرية.

 

تحدي البحّارة هذا لعناصر الطبيعة هو دليل على أن البحر يرمز أيضًا للعداء الإلهي.

 

 

إن السفر عبر المتوسط هو كمسيرة أدبية؛ فمن المستحيل الإبحار في مياهه والتنقل بين  سواحله دون أن تمتلئ نفسك بالأدب!

 

ففي "رباعية الإسكندرية"مثلاً لمؤلفها لورانس داريل يمكننا سماع خطوات جاستينفي شوارع هذه المدينة المصرية، وقد كتب داريل من صقلية قائلاً: "كم أنا محظوظ لأنه تمكَّن لي العيش في منطقة البحر الأبيض المتوسط وتأمّل الشمس والقمر معًا في السماء لفتراتٍ طويلة."

 

 

أما خابيير ريبيرتي فقد رأى بأن المتوسط -من بين جميع البحار- يمتلك روحًا أسطوريةً شعريةً وسريةً.
جوزيف كونراد بدوره قال: "إن المحظوظين هم الذين قاموا برحلات المغامرات من أمثال أوليسيس، و لمثل هذه الرحلات ليس هنالك من بحرٍ أفضل من البحر الأبيض المتوسط.""

 

 

هذا وقد أعاد كازانزاكيس وإيليتس وسفريس إحياء الأدب الكلاسيكي في جزر بحر إيجة، أما  في الضفة الأخرى فيصدحُ نشيد أمين معلوف جاعلنا نشتم رائحة القاهرة بينما يكون ألبرت كامو نازلاً إلى وهران يذكرنا بحدود النفس البشرية في روايته "الغريب".  

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.

 

 

حكاية حطام عشق في رواية "ظلال العشق"

$
0
0

 

 

رواية ظلال العشق للكاتبة التركية غول شاه إليلك بانق، رواية جميلة عن فتاة في السابعة عشر، دفعها الفضول والصدفة إلى فتح صندوق خشبيّ موارب في بيتها أثناء بحثها عن النبيذ الأحمر، لتجده فارغ إلّا من كتابٍ واحدٍ!

 

بين صفحاته القديمة وجدت رسالة بخط يد والدتها؛ "مقتطفات من رسالة والدة إيجة: أسماء قراطاي."

 

 

"هذه قصّة حبّ، حطامُ حبٍّ، أحيانًا ختامُها يكون سريعًا وأحيانًا صعب بما لا يُصدّق، كان ختامُ قصتنا معروف منذ البداية، أنتم ألا تستسلمون لسحر الحبِّ مع معرفتكم ختامَه، شاعرين بمرارتَه؟

 كنتُ أعلمُ. كنتُ أعلمُ منذ الوهلة الأولى أنه قدري، كنتُ أشعرُ منذ الشهقةِ الأولى بأنَّ ذلك القدرَ سيهل عليّ، ولكنْ إذا كان الهلاكُ بين ذراعيه والموتُ على صدره فأهلًا ومرحبًا. كنتُ في أمسّ الحاجة إلى التشبّت بهذا الأمل الأخير، موقنةً أنه نهايتي، كان القدرُ قد أراد لنا الاكتواءَ، لكنْ في دروبٍ مختلفة. كنتُ دائمًا على مقربة منه، وبعيدة عنه في الوقت ذاته. في اللحظات التي دنا فيها من قلبي كان قد تأخّر كثيرًا. ماضينا، أمسنا لم يسعهما أن يجمعانا في غدٍ مشترك. الأمسُ لم يسعفنا بغير يومين من الغد؛ لقد هُزمنا أمام الدهر."

 

 

 عندما تصفحت إيجة الكتاب علمت أنه هدية من المؤلف لوالدتها لكنها لم تجد فيه ما يشير إلى دار النشر أو عدد النسخ، فقط عنوانه؛ "الليالي المظلمة"الذي طُبع بأحرف كحلية غامقة.

 

كان الكتاب موقع من شخص ما إلى والدتها يطلب منها الصفح: "إني أعلمُ أنّ كتابًا لا يمحو الحقائق المُرّة، لكن حاولي واقرأي الكتاب رجاءً".

 

 

تكتشف "إيجة"بعد قراءتها للكتاب وترابط الأحداث المتداخلة في الرواية أنها سيرة حياة والدتها التي رفضت الزواج من "المطرب برْك"الذي أولاها حُبًّا واهتمامًا وعشقًا من نوعٍ خاص منذُ أن التقى بها، وكان العون والسند لوالدتها بعد رحيل والدها.

 

إيجة التي كانت تحبُّ والدها وتفتقده بعمق، لم تفهم سبب طلبه من أمها أن تسامحه وهو على فراش الموت، ولماذا رفضت والدتها أن تسامحه واكتفت برعايته إلى أن فارق الحياة.

 

تُسهب الكاتبة في تعرية النفس المكلومة بالجراح، فوراء كل ابتسامة باهته جرح غائر، ووراء كل وجهٍ عبوس نفس محطمة من غدرِ زوج وحبيب، فلا تستطيع الأيام أن تمحو ذلك الألم المخفي في الصدر.

 

عند بعض النساء تجد السرّ مُحاط بسياجٍ من جدران وحديد، وعند بعضهنّ الآخر بقطران أسود يقطرُ على القلب صنوفًا من الألم والشتات؛ فتختنقُ الأنفاس والروح برمادِ البراكين المندلعة من الجوف المنهك بالمآسي والذكريات القاسية. تُصهرها بشتّى أصناف العذاب.

 

ولبعض الرجال أيضًا سرّ يكبّلهُ بقيدٍ من الألمِ والمتاهات، فيحيط نفسه بهالة من القسوةِ والخيانة والأكاذيب، فلا يستطيع البوح بذلك السرّ، ولا يستطيع أن يتحرّر من تلك القيود الذي تكبّلهُ؛ ما يقوده في نهاية المطاف إلى تدمير نفسهُ وحياتهُ وعشقهُ الأبدي.

 

 

 

تتحدّث الرواية عن قصة حُب جمعت بين روحين، وما تعانياه من عذابٍ بعد الفراق؛ ليبدأ جلد الذات والهروب من حلّ المشكلة أو محاولة فهم الطرف الآخر.

 

 

هي قصة عشق كبّل عاشقين ضاعا في متاهات الغدر والكذب والخيانة والهروب من المواجهة؛ فبدلاً من أن يكون الحُب جسرًا شفافاً لعبور الحياة بكلِّ ثقةٍ وأمان، يصبح جحيمًا أبديًا يُبعثر ذوات العاشقين بمآسٍ تقرأها بين سطور الرواية.

 

 

تنتصر الكاتبة في روايتها للمرأة والرجل؛ إذ قدّمت نصًّا مأساويًا لجميع الأطراف وجعلت الحكم للقارئ في فهم رسالتها.

 

 

 

"هل الوحدة تقتل الإنسان يا أمي؟

بالنسبةِ للبعض الوحدة أفضل صديق، الوحدة كشفٌ جديدٌ للنفس لمَنْ يعرف كيف يصغي إلى صوتها؛ بعضهم يصلُ إلى أمانيه بإرشادٍ من الوحدة، وبالنسبةِ للبعض الوحدة أكبر عدو؛ إذا سمحتِ للوحدة أن تستولي عليك فلن تعودي ثانية إلى ما كنتِ عليه، تأكلك يومًا بيوم وتقضي عليك، وإن انتهت وحدتك يومًا فأنت تصبحين شخصاً آخر." 

 

 

 

 

 


موت الكلاسيكيات: لماذا يندثر الأدب؟

$
0
0

 

 

لماذا تستمر بعض كلاسيكيّات الأدب بإدهاش القارئ بينما يبقي البعض الآخر على الأرفف يجمع الغبار؟

 

 

تفوق جيوسيبي فيردي ( مؤلف موسيقي إيطالي) في مدحه لرواية المخطوبون (1827) لألساندرو مانزوني حيث قال بأنها كانت بمثابة "هدية للإنسانية."

 

 

هذا الكم من المديح لم يحدث حتى في عصرنا الحالي الذي يتصف بالمديح المبالغ به للكتب، لم يكن فيردي هو الوحيد الذي مدح الرواية، فقد مدحها الكثيرون، لكنه تفوق بمدحه على الجميع، كون مازوني يحتل المرتبة الثانية بعد دانتي في التاريخ الأدبي الإيطالي.

 

 

نظيرا مازوني؛ غوته وستندال احتفلا بعبقريته، بينما قال الناقد جورج لوكاس أن "المخطوبون"كانت لوحة عالمية كاملة لايطاليا لدرجة أنها أرهقت موضوع الرواية التاريخية. رواية مازوني متواجدة بقوة ومنتشرة في جميع أرجاء إيطاليا، وقد علّق أمبيرتو إيكو بقوله: "كل الإيطاليين تقريبًا يكرهونها لأنهم أجبروا على قراءتها في المدرسة."

 

 

في عام 1860، عيّن مازوني عضوًا في مجلس الشيوخ من قبل الحكومة الإيطالية. كما كرّس فيردي عمله الموسيقي "قدّاس الموتى"لمازوني في ذكري وفاته الأولى.

 

 

إذا لماذا يهتم قلة من الناس خارج إيطاليا بأعمال مازوني، أو بالأحرى لماذا يهتمون أكثر بكثير بكتب أخرى كتبت في نفس الفترة تقريبًا وتتمحور حول نفس موضوع؟

 

فمثلًا؛ كتاب كارلو كولودي هو أحد أكثر الكتب مبيعًا على الإطلاق، إذ يحكي قصة دمية تحلم بأن تصبح فتى حقيقي.

 

 

أظهرت الباحثة سوزان ستيوارت شتاينبرغ أن بينوكيو، في نضاله لتأكيد فرديته ضد الرغبات المسيطرة للعالم الخارجي، مثل الطفل الإيطالي النموذجي في الدولة التي شكلت حديثًا: ظهر الكتاب لأول مرة بعد عشرين عامًا من التوحيد.

 

 

هذا يتشابه مع مازوني في روايته "المخطوبون"، التي تحكي بدورها قصة شخصيتين فقيرتين إيطاليتين تقليديتين، هما رينزو ولوتشيا اللذان يعانيان لكي يتزوجا ويبنيا حياة كريمة معًا في ظل عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية، الاحتلال الأجنبي وسيطرة الكنيسة.

 

 

لكن هنا يصل التشابه إلى نهايته: رواية مازوني تروّج الإيمان المسيحي الذي تتم مكافأة أتباعه المستسلمين لحكمة الرب. في قصة كولودي، بالإضافة إلى استكشاف محنة الإيطاليين في أمتهم حديثة الولادة، يفسر كيف يتعلم الأطفال شق طريقهم في مجتمع الكبار.

 

 

إرث مازوني قويّ جدًا في إيطاليا، لدرجة أن كتابه سيبقى يُقرأ دائمًا هناك. لكن يختلف الحال  خارج إيطاليا؛ فالقراء الفضوليون للمعرفة عن دمية كولودي المنحوسة ذاتهم من المرجح ألا يغيروا رأيهم أبدًا بعالم مازوني المسيحي البحت.

 

هذا التباين بين كتاب كلاسيكي دائم الشهرة وآخر بالكاد يُقرأ؛ يبيّن أن المفتاح لديمومة شهرة العمل هو المصطلح الخطير: العالمية. لكننا نتحفظ ببعض الشكوك تجاه هذا المصطلح، لأن الكلمة تؤول إلى تعزيز مجموعة ما على حساب الأخرى، ما يفترض أن ينطبق على كل شيء في كثير من الأحيان لا ينطبق إلا على مجموعة معينة، تستمر في الحديث عن الآخرين.

 

 

مع هذا ما زالت تلعب عناصر وتجارب معيّنة دورًا أساسيًا في حياتنا: الوقوع في الحب، السعي وراء حلم ما، والانتقال أيضًا؛ مثلما انتقل بينوكيو من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة.

الكتب الكلاسيكية التي تبقى تُقرَأ هي الكتب التي تظل مواقفها ومواضيعها ذات صلة مع مرور الوقت؛ تلك هي المعجزة التفسيرية التي تتميز بالشفافية التي تجعلنا نشعر كما لو أن القصص والقصائد و المسرحيات كتبت لنا.

 

 

كتب بيرسي بيش شيلي مدافعًا عن الشعر، أن الأدب العظيم هو"نافورة تفيض للأبد بماء الحكمة والبهجة، وبعد أن يرهق شخص واحد وزمن واحد كل فيضانها الإلهي، ينجح واحد تلو الآخر وتتكون علاقات جديدة". فهم شيلي بأن بعض الأعمال لديها قدرة سحرية لمقاومة الانغلاق؛ تقرؤنا كما نقرؤها تمامًا، برفع الحجاب عما هو مهم وجوهري في حياتنا الفردية خاصة و عصرنا عامة. كل كتاب عظيم هو "البذرة الأولى التي تحتوي على جميع شجر البلوط المحتمل"،  المعنى الذي نستنتجه من الأدب يتغير مع الوقت، مع أن الكلمات الموجودة في الصفحة تبقي كما هي.

 

 

أحيانًا نبحث عن معنى غير موجود حقًا، على الأقل ليس بالطريقة التي يعنيها الكاتب.

 

 

في 1756؛ صرح فولتير "لا أحد يقرأ لدانتي بعد اليوم"، وبالفعل عصر التنوير لم يكن لديه وقت لرموز دانتي الدينية والعقيدة المسيحية. أوشك دانتي على سلك طريق المخطوبون لمانزوني: رواية كلاسيكية كانت في يوم من الأيام محبوبة ويطلع عليها باحترام لكن اليوم نادرًا ما تقرأ.

 

 

بعد ذلك أتى الرومانسيون، وأعادوا اكتشاف دانتي محتفين بشخصيته الفردية و بطولته؛ تلك الصفات التي أقرها في (الجحيم) عاد ليرفضها في( الجنة). لكن هذا لم يعن شيء للرومانسيين الذين أخطؤوا قراءة دانتي بطريقة إبداعية وبهذا جعلوا منه الجوهرة الأدبية التي هو عليها اليوم.  

 

 

اشتهر عن مازوني إعلانه أن "المخطوبون"قد تصل فقط "لخمسة وعشرين قارئ"، لتصبح فيما بعد كنز وطني.

 

 

عدم قدرته على جذب جمهور غير إيطالي لم تكن نتيجة لقلة جودة الرواية، بل لطبيعته، تساؤلاته وأفكاره التي ببساطة لا تروق للجمهور العصري. ليس هناك عمل فني بإمكانه توقع المستقبل، لكن يتفوق البعض في استقطاب قراء من كافة الأنواع والأزمان.

 

 

فشل مازوني في ذلك بينما آخرون مثل كولودي ينجحون. رواية مانزوني مفعمة بالإيمان المسيحي الذي هو على خلاف مع عالم علماني بشكل متزايد. بينما يركز كولودي على المعاناة الداخلية للأطفال في أرض الكبار.

 

دافع وليام إدوارد بورغاردت دو بويز (عالم اجتماع وناشط سياسي أميركي من أصول إفريقية) عن ضرورة تعليم الفنون الليبرالية للأمريكيين الأفارقة المحررين مؤخرًا، قائلًا: "لم تظهر ملامح الوجع أو الخجل على وجه شكسبير وأنا أجلس معه."

 

 

قرون تباعد دو بويز عن شكسبير، لكنه بالرغم من ذلك وجد فسحة عالمية في مسرحيات شكسبير مثل هاملت وماكبث؛ حيث يمكنه أن يستكشف إنسانيته المشتركة معها، واستنتج أن أعظم دفاع للكتب الكلاسيكية هو أن نظل نقرؤها ونسمح لها بقراءتنا.

 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.

 

 

هل يمكنك أن تصنع قصة قصيرة من عناوين الكتب؟

$
0
0

 

 

 

هل يمكنك أن تصنع قصة قصيرة بتركيب عناوين وأسماء كتب بجانب بعضها البعض؟

يبدو ذلك ممكنًا!

أصدقاء انكتاب على تويتر أبدعوا في صنع قصصهم الخاصة من عناوين الكتب، نورد لكم أبرزها في هذا المقال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وأنتم، هل يمكنكم فعل ذلك؟ ننتظر إبداعاتكم!

 

 

 

 

مارون عبود: نماذج نقدية

$
0
0

 

 

إن مجال النقد عند مارون عبود أوسع من باب جهنم، لا يضيق عن أحد ولا يكبر عليه أحد، لقد نقد خلقًا كثيرًا كبارًا وصغارًا مشاهيرَ ومغمورين، نساءً ورجالًا، قُصّاصا وشعراء ومسرحيين بلغوا المئات، وكان أسلوبه في كل ذلك كراقصة الباليه رشيقة ثابتة واثقة محسوبة و باهرة، يشعر في داخله بانبهار القارئ بجمال ما يكتب، ولكن لا يدفعه ذلك لمجاوزة الحد، إنه ليس خفيفًا ككتاب الصحف.

 

 

ويبدو لي أن في مصر شيئًا ما، لم يُرضِه عنها، فقد نقدَها كثيرًا، وهذا هو يقول مبتدأ نقد العقاد:

 

 

"لا أدري لماذا يحل بنا الفزع الأكبر وينخلع قلبنا كلما ذكرنا أدباء مصر الفرعونية؟ أغولٌ هي؟  عجيب أمر مصر! كم تحب الألقاب، ألبَستْ شوقي خِلعة الإمارة ثم مالت على حافظ فأسمته شاعر النيل وعلى إثر ذلك لقب خليل مطران -عاش معظم حياته بمصر- بشاعر القطرين وعبد المحسن الكاظمي -آخر عشرين عاما من عمره كانت بمصر-  شاعر العرب ولست أردد: ألقاب مملكة، فهؤلاء كانوا خير مافي الكنانة من سهام ولكن!"

 

 

 

وتحدث في موضع آخر عن أدباء مصر معدّدًا بعضهم، وأخذ ينقد مجمل إنتاجهم وأنه "كلما تقدمت السن بأحدهم شاخ فكرُه وقلت بضاعته وتبخرّت بحيراته وأنسلوا ذرية ضعافًا، فماذا يكون لو بلغوا أرذل العمر؟"وأخذ يقول ما ضرَّ العقاد لو انصرف للنثر وإلى أبحاث لا يتعداها، وما ضرَّ المازني لو انصرف لكذا، وما ضرَّ الرافعي لو انصرف لكذا، ولم يزل يقول: وما ضرَّ وما ضرَّ حتى حسبتُ أنه يضع مفرداتِ منهجٍ دراسي لأدباء مصر، وهذا يدلّك من ضمن ما يدلك عليه= قلة احتفال الرجل بالرموز الأدبية التي يعبدها الناس وعدم تهيبه منهم أبدًا.

 

 

لسلمى الجيوسي رأي لافت يقرب أن يكون تعليلًا لحدّة مارون تجاه مصر أنقله لك بتصرف وهو: "أن مصر كانت المركز الأدبي في الوطن العربي لعدة عقود، وكان عموم القرّاء في العالم العربي في فترة الأربعينات يفتقرون إلى الثقة بالنفس والقدرة على الحكم المستقل فيذعنون إلى المعايير الأدبية المصرية، وزاد الأمر قلقًا أن نصّب طه حسين عباسَ العقاد كأمير للشعراء، فلا بد أن مارون شعر بالخوف من تضليل خطى الشبّان وأصحاب المواهب وتشويه الذوق الأدبي بمثل هذا العمل"وهو كلام له وجاهته.

 

 

 إليك نتفًا عجلى من تعابيره النقدية، ثم أطيل شيئًا في العقاد وطه فقد أوقف مارون كمية من حِبره لله عليهما:

 

 

نقد شاعرًا اسمه رزوق فرج رزوق فقال له: "أتريد أن أشبه لك هذا الشعر؟ لا تزعل ولا تحرد إنه أشبه بالكوسا والقرنبيط المسلوقين يعبي الكرش ولا يغذي، اسمع مني ودع هذا النمط!"

 

 

ومدح شعر أبي ريشة وشخصيته في شعره وأسلوبه مدحًا غير معتاد منه ثم نقد عليه إكثاره من (ما) الزائدة فقال: "إكثارك من ما الزائدة لا يعجبني، يا ابني نحن في عصر يقصّون فيه الزائدة فور شعورهم بها"أرأيت؟ ما ألطف هذا!

 

 

أتى إلى شعر نازك الملائكة المنثور فأثنى و قال عنها: "وهذه خنساء جديدة -ولكنها مثقفة-  ولو يصح لي أن أن أتمثل بالنابغة لقلت اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولو لا ذاك البصير أبو ريشة لفضلتك على شعراء الموسم وليغضب علي ألف حسان".

 

 

نقد الرافعي والعقاد في رأيهما عن القصة في الأدب العربي فأتى بكلام متين عجيب حلّق فيه، وختمه بقوله: "وبعد فهذان رأيان لكاتبين كبيرين من أدبائنا، وشاعرين أيضًا، بل نموذجان من أدبنا العصري، واحد عتيق و آخر جديد، ثكلتني أمي رحمها الله إن كنت عرفت الجديد منهما."

 

 

يرى مارون في نزار أنه "رابع ثلاثة عبدوا اللحم وليس عندهم للروح شيء، وأنت يا نزار شاعر ٌشاعرْ أقولها وأثنيها وأثلثها، وابتهارك في تهافت النساء عليك يذكر بعمر بن أبي ربيعة، هو ذاك ولكنك من نوع آخر، كان عمر يشتهي اللحم والدم، وأنت إلى الثوب الأنيق أميل"ولكنه يعيب على نزار "أنه لا يعبأ بالوزن كثيرًا وإن كان وزّانًا في الأصل"واعتبره "إحدى قمم الشعر العربي الحديث"ونصحه أن يهتم بالوزن ولا يقلّد أحدًا، ورد عليه نزار قباني في مقال كان آية من الأدب بمعنييه، وإذا نزار في نثره كنزار في شِعره رقص وجمال، فانظره في رسائل مارون إن شئت، أو في نقدات عابر بعنوان (جانين والوجودية ومارون) إرجع إلى المقال، فإنه مما لا تصحّ الصلاة بدونه.

 

 

 

ونقَد شعر الصافي النجفي ورأى أن شعره "ينقصه كثير من الدم، فهو بحاجة إلى كثير من زيت السمك"أرأيت حلاوة الصورة؟ ثم يقول له مارون "أسألك ألا ترفع الكلفة بينك وبين اللغة -يقصد لحنه- وأما مقاصدك في الشعر فلا تُحلَّـل، لأنها كنِعم الله لا تحصى". وعلق على أبيات متغطرسة للصافي يذمّ فيها النقاد هي:

سـأشـكر نقـادي اللـئام لأننـي ركبـتُ علـيهم فـي طـريقـي إلى المـجـدِ

فإن قصروا في السير يومًا وخزتهم فساروا وساروا مسرعين من الحقد

 

 

 

فقال له: "إلى الأمام يا صديقي إنك ستجد مرعاك، أما ركوبك على النقاد فقد تغنيك عنه حمارة، إن هموم مجدك المتواضع لا تقتضيك أكثر من جحشة، فلا تطلب غيرها."أرأيت كيف يسخر بين جد ومزح؟

 

 

 

أما أمين نخلة  فهو عند مارون عبود "شاعر وكاتب كبير، ومع ذلك يعتمد على الدعاية في ترويج بضاعته، فهو وسعيد عقل كلاهما يفوقان الأمريكان في الإعلان"، وينقل مارون تقديم شوقي لديوان نخلة بهذه الأبيات:

هـذا ولـي عـهـدي وقـيّـم الـشــعـر بعــدي

فكل مـن قال شعرًا في الناس عبد لعبدي

 

 

 

فيغلي الدم في دماغ مارون فيقول في كلام متباعد وصلتُه لك: "تُـرى من قال لشوقي أننا نعترف بولايته حتى ينصب ولي عهد؟ إن إمارة شوقي مهزلة سجلها التاريخ، لعنةُ الله على هذه الإمارة الجوفاء فهي سخافة بلقاء أسقطتنا من عيون المغاربة، وأشد الناس رقاعة وعتاهية شاعرٌ يحلم بها، فكل شيء يورَّث إلا العلم، هذا كلام رجل لا أجد له نعتًا ويبدو أن العُمر هو الذي أنطق شوقي في غير ساعة رضا بهذا الهذيان والهذر."

 

 

 

ويرى مارون أن "تعابير شوقي منبوشة من أضرحة القدماء فهو كالذي يعثرون عليه في مدافن جبيل والأقصر"، ولكن نقده الرصين المطول لشوقي كان في دراسته عن "أدب العرب"الذي "وضعه لمن لا تسعفه مروئته لقراءة المطولات"فارجع له إن شئت.

 

 

ينقد مارون أحمد قنديل الشاعرَ السعودي فقلاه على زيتٍ ذا نار هادئة، وإن شيّط صوت القلي أحيانًا، فيقول في نقده؛ "لقد رأيته عيانًا فإذا هو أنيق الملبس حديث الزيّ حسنُ السمت، ومع ذلك لم يأنف أن يقول:

مطرهفَّــًا هفا الجمال إليه وارتضاه مثاله المِطرابا

فبيتٌ مسكين كهذا، أوّله مطرهفّ وآخره مطراب، أي حظ يرجوه من الحياة الأدبية؟ ولقد رأيت أحمد قنديل بين شرّين، فهو إما يركُّ قولُه، وإما يحيي موؤودات اللغة!

والغريب أن ترى هذه التعاويذ الجاهلية في شعره ثم يقول غاضبًا للفن:

حرام عليكم أن تكونوا مصيبة على الفنّ يكفي الفنّ باقي المصائب

يظهر أن أذن الأستاذ بعيدة جدًا عن فمه"معرضًا بمخالفة عموم شعره لرأيه في هذا البيت.

ولعل قنديل هو الشاعر السعودي الوحيد الذي ذكره مارون.

 

 

 

كما علّق على قصيدة للجواهري ألقاها في حفل بلنان فقال: "ما هذا زاد ينقل من بلاد إلى بلاد، .. إن هو إلا محصول يستهلك في أرضه، علَّلْـنا أنفسنا بالسميد والترياق فما ظفرنا إلا بدبس وسويق، جئتنا صحفيًا يتنكر في ثوب شاعر"معرّضًا بشبَه شعره بكلام الصحفيين.

 

 

 

ثمة مقارنة بديعة في كتاب "دمقس وأرجوان"بين حافظ وشوقي؛ إذ يرى مارون فيها أن بداية شوقي كانت باردة ثم التهب شعره، على عكس حافظ الذي بدأ ملتهبًا ثم برد، فيقول: "كان قلب شوقي في ذلك الزمان خاليا من الهموم فلم يقل شعرًا حيًا تنبض له القلوب إذا استثنينا خدعوها، أما حافظ فكان منكوبا بأمانيه وآماله يقول الشعر غاضبًا حانقًا فنحسّ بما يحسّ"، ثم يذكر التغير الذي حصل لشوقي بالابتعاد عن العرش وتغيير العادات عليه مما ألهب شعره وخلق فيه الروح والحرارة: "ومن حسن حظ شوقي أن حصل له ما حصل من النكبة وإلا كان شعره حيث كان ولم تدب فيه الروح"ثم يتحدث عن العهد الأخير من شعر حافظ وأنه "عمل لاحقًا  في المكتبة الوطنية يدخّن النارجيلة مترقبا الأهلة، تكفيه كالطغرائي مصّة الوشل، ولقد كانت إجادة شعره في الشكوى التي عافها في الكهولة وسكتَ إكراما لسواد عيون الجنيهات، أخرستْ صاحبَنا  الجرايةُ فطلق الشكوى ثلاثًا".

 

 

 

أما ما وعدتك به من نقد مارون لطه والعقاد فهذا فهو مبتدأ بطه، فانظر رأي مارون في معالي الوزير الأزهري:

 

 

يرى مارون أن طه  صاحبُ حكي، لسانُه خداع وهشّ المعرفة خيرُ زادِه ما قلد فيه المتمشرقين فيقول "إن طه محدِّثٌ أكثر منه مناظرٌ أو محاضر، يستفز مستمعيه بتعابيرٍ حلوة تهز الأيدي والأرجل حتى وإن كان أكثرهم لا يدري لماذا صفق، إنه في صناعة الكلام أقدُر المعاصرين على التخمير، فعجينه يرفخ ويطفطف، فتحسب المعجن يموّن البيت شهرًا حتى إذا مدّت الأيدي للزاد عرفت أن العيش هشّ مثل كرابيج حلب، يضلل القراء ويشغلهم في تعابيره التي يركب بعضها بعضا كالجراد، يشكّ ساعة يستحلي ويصدق ساعة يريد، ينفش الكلام نفشًا كأنه ينتقم من قراءه، و يعمل من الحبة قبة ثم لا يجزم بشيء، فهو يبني ويهدم كما كنا نعمل صغارًا في بناء العلالي والقصور حول بيوتنا"و حين علق طه على بيت المتنبي:

 

 وأوضح آيات التهامي أنه أبوكم وأجدى ما لكم من مناقب

 

بقوله: وواضح أن أبهر آيات النبي التهامي هي القران لا أبوته للعلويين، فيعلق مارون: "أفلا يغتفر لي طه إساءة الظن؟ إن نضاله عن الله عز وجل ورسله عليهم السلام= يريبني جدا".

 

 

ثم يقول كلامًا في غاية الدقة عن قدرة طه حسن العلمية فيرى أن طه "يُحسن جرّ الخيط إذا استلمه (أرأيت دقة التشبيه؟)وهو أبدًا بحاجة إلى من يسلمه إياه، وبلغة أوضح: إن طه ماهر في التمهيد والتعبيد، أما أن يخطط طريقا فليس هذا شغله"، ونظر طه في قصائد جياد للمتنبي "فرأى بعد الجمع والضرب والطرح أن المتنبي لم يكن يستحق أكثر مما أخذ من مال الأمير، حتى خفتُ أن يقترح إقامة دعوى على تركة الشاعر، ولكنه رضي والحمد لله رأسا برأس ولم يشغل الحكومة المصرية في هذه الأزمة".

 

 

 

 

ثم عن تكوين طه المعرفي وأثر ذلك فيه قائلا: "إن طه أقدر على تاريخ الأدب منه على نقده، وقد يكون لنشأته وتكوينه العلمي أبلغ أثر في هذا، فالرجل معذور غير محجوج، نشأ نشأة مستمعٍ قصّاص، ومن نشأ هكذا كان في التاريخ أبرع منه في درس النصوص التي تحتاج إلى إطالة نظر، وقد وجد كلُّ كُـتّاب مصر سبيلهم في الكتابة، إلا طه فلم يزل كحاطب ليل لا يدري ماذا يريد! وأقصى أمانيه أن يذكره الناس، وإذا فاته المدح فلا بأس بالقدح المهم أن يذكر".

 

"أنا لا أنكر أن طه إنه دكتور و شيخ أزهري شرقًا و دكتور سربوني غربا، وشمالا جنوبا يعلم الله ماذا، وأمس حاز واحدة أخرى ويحوز أيضا، الله كريم، ولكنه لو نكح من هؤلاء الجامعيات ما طاب له مثنى وثلاث ورباع وخماس، يبقى خير ما عنده أنه شيخ أزهري يستطعم كلام العرب” ثم يضرب عن نقد طه و يختم بكل سخرية “ما لنا ولطه إن لديه حمّى من الشهرة يعاوده كل سنة

ولكنه يعود فيستشهد ببعض آراءه ويعرّض ببعض آراءه الأخرى، وعلى طول ما يكتب كان طه حاضرًا ذما ومدحا واستشهادًا، وانظر حديث مارون عن المتنبي في الرؤوس، ففيه الشوط الطويل من نقد مارون له، وقد جمعت لك مما قال ما يصلح أن تشعل به نارًا.

 

 

 

أما نقده للعقادفكان غاية من الصراحة والقوة والسخرية، حمده على نقده هذا أحمد شوقي في رسالة ذات نمطٍ غريب بارد، حاول فيها وعظ مارون وإرشاده.

 

إن مارون لم يُقم أدنى وزن للعقاد وسمعته أثناء نقده فأحال شعره قاعًا صفصفا بضربة معلّم، ولم يكن للعقاد عندي شفقة فشعرُه يستحق ذلك، وكم من شاعر كالعقاد اليوم ولكن لا مارون له، وإليك ما فوّق من سِهام:

 

 

يرى مارون أن العقاد ممن "يرفعهم الله إلى أسفل في الشعر"ومشكلته تكمن في أن نفسه غير قابلة للشعر من الأصل! فهو "ذا نفس متحجرة لا يقطر مها شيء ولو ضربها جوبيتر بصواعقه"وأن دواوينه كلها "كدكاكين الضيعة فيها كل حوائج البيت"، ويعلق على كثرة العناوين في دواوينه بقوله "لا تعجب فالعقاد يريد أن يقول في كل فن ومطلب، والحياة قصيرة"، و شعر العقاد "نسلٌ معوّه يحتاج إلى وقف ذريةٍ ليعيش فليته يوصِ به"، ثم يعلق على ساخرًا على علة امتناع الشعر عن العقاد بقوله: "ومُنع الشعرُ على العقاد  لعلتين قاتلتين: الركاكة وضعف الخيال، فلو صار العقاد مثل آرْجو له مئة عين مبصرة وركِب نسر حيقار ومركبة إيليا، وعلا صهوة البراق، فلن يبلغ سماء الوحي ولا يقارب آفاقها". أرأيت أكثر سخرية من هذا؟ ومع أن "النثر أطوع له من الشعر ونثره يدل على عقل عربي صحيح مفكر، إلا أن العقاد عنيد يظن النظم خصمًا سياسيًا لا بد له من قهره، فيظل ينظم عن سابق تصور وتصميم كما يعبر المحامون ويظل ينظم حتى يقتل الكثيرين من قرّاءه، فتحل عليه عقوبة المتعمد"، وعلق مارون على قول العقاد:

 

دليـل علـى أن الـكمـال محرّم إنـاث خلـقنا بـينهـا وذكـورُ

فمـا المرء في جسمٍ وروحٍ بكامل ولكن كل العالمين شطورُ

 

فقال: "أتقول لي لماذا ينظم الأستاذ؟ وأي فكرة يُخرج لنا؟ اللهمّ أين أنت؟ أأخرجت أبوينا من الجنة لتَنزِل بنا هذه الدواهي؟ إن لا يستحق لقب شاعر، لينتظر لعل الله يفتح عليه بشيء آخر."

 

 

ثم يأخذ في السخرية من إصرار العقاد على النظم مع سوء إنتاجه فيقول: "لا بأس لينظم العقاد فمن يدري ربما كان الشعر كالفحم يصير ألماسًا إذا طمر زمنًا طويلًا، فلينظم العقاد وليطمر دوايونه ولينتظر فالله كريم، انظم ولا تيأس من رحمة الله يا صديقي، ولولا تسمع مني وتسهر ليلة القدر لعل الفن يهبك من لدنه وليا، وإن كان تفكيرك خير من تعبيرك أما الشعر فليتك تسمع مني طلّقْه ثلاثًا فشعرك ليس من أبناء السلامة".

 

 

وبعدُ فهذا طرفٌ من نقد مارون عبود، الذي به تميز، وعنه حارب، وبسببه عانى وفقد وخسر وضاق، ولكنه لم يتراجع عن شيء قاله، ولقد طويت عنك الكثير مما قال، فلم أحدثك عن رأيه في الذوق الأدبي، ولا عن أثر الأديب في الحياة، ولا معركته مع إسماعيل أدهم المدافع عن فرعونية العقاد، ولم أصف لك قصته مع الراقصة التي خدعها ليحصل على حديث مجّاني، لم أذكر لك رأيه في الشعر وأوزانه وغنائيته وحكمه على الشعر المنثور، ورأيه في القصة والرواية والمسرحيات، لم أذكر لك رأيه في المستشرقين وحظهم من الأدب العربي وله فيهم رأيٌ غير هيّاب ولا متتلمذ، لم أحدثك عن رثائه الصافي الحزين الذي يبْشر الكبد، سواء في رثائه إلياس أبو شبكة أو محمد كرد علي أو عمر فاخوري أو الشاب الذي كان يلازمه فترة عمله في إحدى الصحف، إن رثاء مارون عذب صادق في حزنه لا زيف فيه ولا رسوم تقليد، لغة قلبٍ لا لغة قلم، ولم أحدثك عن مقارنته بين قصيدة أمين نخلة وقصيدة بشارة الخوري في رثاء أحمد شوقي، لم أذكر لك شيئًا من أحاديث القرية العذبة الحلوة، إن لدى مارون أضعاف هذا مما لا يتأتى نقله، لأنه ليس مما يمكن تقطيعه كالكيك، ولكنه كلوحة لو أريتك جزءًا منها لم تعرف أي رسمة هي.

 

 

 

انقلاب المعبد؛ استفهام الثابت وتفكيك المتغيّر

$
0
0

 

 

قراءة أخرى مع عبد الرزاق الجبران، هذه المرة تناشد تغييرًا في المنهج وثورة ميثودولوجية في قراءة التراث (الفقهي، الفلسفي)؛ استفهامًا للتابث وتفكيكًا للمتغير.

 

 

يمكن تحديد الكتاب في تلاثة اتجاهات أساسية :
 

 

أولا: ضرورة الارتداد على المعبد وعلى المعرفة الدينية التقليديةاللذين أسسا لنسخة مزورة من الإسلام؛ حيث فقد معناه الأول ليدخل الإنسان في دروب التيه والاستلاب بفعل التدخلات الأيديولوجية، المذهبية والطائفية. المعبد ينادي باسم الله في أبواقه ويذبح الإنسان في وجوده، ثم أن البنية المعرفية انعدم فيها كلام الله والنبي [خاصة في التأويلات] لتقترب من تصور الدين الكهنوتي وتشكيلاته في المعابد والمدارس الدينية والكواليس السياسية، مما أفضى إلى إرباك كبير حجب الحياة عن الإنسان والانسان عن الحياة.

 

 

لذا وجب أولًا الارتداد والانقلاب على هذه البنيات والمفاهيم والأسماء، انقلابا يأخذ مقياس "وصال المعنى"واستخلاف الجمال وسؤال القيمة، بدل قياس المعارف.

 

 

أما بالنسبة لمسألة التجديد حسب الكاتب أو الطرح المعرفي الراهن والمعاصر من قبيل فلسفة الدين، فلسفة الفقه، الكلام الجديد مع الاتجاهات التنويرية؛ فهي بمثابة عناوين كاذبة، مضللة، خالية من المعنى والجدية، تنتمي إلى نفس النكهة القديمة، لتغدو خدعة في التجديد الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالانقلاب أولًا على تلك العلوم [الكلاسيكية منها والمعاصرة] لأنها لا تمس سوى السطح .
 

 

 

ثانيا : انقلاب المنظومة الإسلامية
هذا الاتجاه يروم مساءلة بعض الثوابت الدينية في التشريع، وقبل ذلك تأمل الحركة الانقلابية اتخاذ مسار تسريح معرفة الكاهن واستبدالها بأسسس دينية أخرى، [لأن المشكل في أصل البنية المعرفية التي أسس لها تاريخيًا باسم الدين] من جهة وتأسيس وجودية تتخلى عن اسم الدين لأجل روحه وجوهره، نابعة من فلسفة الحياة وسؤال المعنى، بل منطق القلب والقيمة الذين كانا سجينين باسم معرفة عقلية ودين نصي .
 

 

حسب الكاتب فإن مسألة "لا اجتهاد قبال النص"قدّمت تأويلًا كهنوتيًا خادمًا لرجال الدين في مآربهم العرفية، المذهبية والقبلية؛ لذا قدم خطوة "الخروج إلى النص"؛ أي النص الإنساني الوجودي المحكوم بدلالة فلسفة الحياة وبقيمة المعاش الذي يستحيل تزويره عكس ما حدث مع النص الإلهي.

 

 

كما انتقد فكرة مقاصد الدين لدى الشاطبي القائمة على عناصر رياضية قياسية تعبدية فارغة من محددات وجودية إنسانية؛ كمفهوم "العدل"، وعرج على ضعف منهج الاستقراء المعتمد لديه بسبب تغطية جانب وإغفال جوانب ومجالات أخرى.

 

 

الغريب في الأمر أنها بقيت مرجعًا تراثيًا خالصًا، لم يطلها التفحيص والنقد حتى لدى المتنورين والمجددين. الاقتراح الذي أورده الكاتب يكمن في "فقه الجمال"باعتباره أساسًا لا يمكن تجاوزه كما حدث مع العدل.

 

 

شملت المقاربة النقدية جملة من العناصر ذات طابع تراثي تقليدي مثل :
- مسألة الحلال و الحرام
- منهج تفسير القرآن
- جدلية العقل و القلب

 

والتي قدم بصددها بديلًا يستمد مشروعيته من الوجود الإنساني، القيمي، المستفهم لسؤال المعنى. ويمكن أن نذكر منها :
- متلازمة الجميل و القبيح
- توحيد العلوم
- أسس صوفية للتشريع
 

 

 

يشكل "الفقه الوجودي"ركيزة هامة في بناء هذا الانقلاب وفي تحديد مسار الوجودية الإسلامية؛ بحيث يرفض مناهج التفسير العقلي تحت ذريعة أن الدين لا يمكن تفسيره بشكل كلي بطريقة عقلية، بل لا يستطيع العقل الوصول إلى مستويات [الجمال، القيمة، الأخلاق= الدين] باعتباره مادي طبيعي، ليقدم الفرصة للقلب والوجدان للوصول إلى تلك المستويات عبر وصال المعنى وبرهان اللغة .
 

 

ثالثًا: الوجودية الدينية

في هذا المحور يتوقف المؤلف مع تجربة إصلاحية يعتبرها نموذجية تستحق الاقتداء مع المفكر و الفيلسوف "سورين كيركغارد"المتمرد على الكهنوت المسيحي. ليتسائل بعدها عن فكرة "تعبئة الوجودية"؛ إذ رفع اللبس الذي يرافق الوجودية كحالة إنسانوية معاشة تبتعد عن أهواء الانتماء والتصنيف المدرسي وتعترف بالتقاطع القيمي وسيرة الاسم [كيرككارد وليس كانط/ أبي ذر وليس ابن سينا/ غاندي وليس ملا صدر[.

 

تشتغل هذه الحالة {الوجودية} وفق تحول اللاهوت الصوري التجريدي إلى لاهوت وجودي قائم على تحقق الإنسان في القيم المودوعة من الله فيه لا في كتب الفقهاء، كما تعتمد على لبنات أخرى مثل :
- الصورة المباشرة للوجود
- فلسفة المعنى والقيمة
- عدمية الإنسان كموضوع للدراسة
- أحقية الوجدان (فقه القلب)

-الصلة بالله (المطلق)

 

أما في المسار الإسلامي الفلسفي التقليدي، فقد تعرضت الوجودية لتسجين مفاهيمي ولهامشية المبحث، بل عرفت انتكاسة أخرى أثناء المزاوجة المعرفية بينها وبين الأنطولوجيا.

 

عمومًا الكتاب هو قراءة لبعض الزوايا في التراث التشريعي الإسلامي المرتبطة بالحياة الوجودية للإنسان، تعتمد النقد والبديل وتحاول أن تستعين بمنظار وجودي يختلف في قراءته للدين مع القراءات المعهودة، بل يرفض فكرة التجديد.

 

 

بغض النظر عن اتفاقنا مع الجبران من عدمه، فالكتاب يبني أسئلة مقلقة معرفيًا ووجدانيًا، تدفع للبحث والقراءة.

 

 

يجدر تسجيل أن الكاتب توصل لجهاز مفاهيمي محكم، استطاع من خلاله أن يوضح أفكاره، كما فقد السيطرة أحيانًا على الضبط المنهجي للكتابة العلمية؛ من عشوائية في توثيق المصادر والمراجع.

 

 

 

جريمة في رام الله؛ نافذة على عالم مغلق

$
0
0

 

 

إن نقطة القوة في أعمال عبّاد يحيى هي الرمزية التي تفتح في النص منافذ لما يمكن أن نصفه بطبقات المعنى. قد نبالغ أحيانًا في محاولة تحويل كل شيء إلى رمز له بعد إيحائي، لكن هناك أسباباً حقيقية تدفعنا لذلك؛ فعباد يكتب بذكاء.

 

عمل عبّاد يحيى الأخير؛ "جريمة في رام الله"هو أكثر أعماله نضجًا من ناحية بنائية وفنية، أكثرها تماسكًا وأقدرها على أسر القارىء من بدايته حتى نهايته. اقرأ أيضًا: 5 كتب ممنوعة هي الأكثر شهرة!

 

 

 

"جريمة في رام الله"على سلاستها، إلا أنها رواية شائكة موضوعًا ودلالة، فالبناء الروائي الذي قد يبدو انسيابيًا رغم معالجته لاضطرابات عميقة، لا شك أنه بناء معقد في جوهره؛ إذ استطاع أن يحمل كل هذا الثقل ثم يحافظ على جمالية السرد. اقرأ أيضًا: عباد يحيى في ثاني خطواته.. رواية القسم 14.

 

 

ما يميز عمل عباد يحيى هو المعنى المركب الذي استطاع تشكيله من خلال الدلالات اللغوية والرموز، من أكثرها وضوحًا حتى أصغر التفاصيل. إنه عمل يحيلك إلى قضايا كثيرة ومعانٍ متراكمة، ويصبح فيه ما لم تقله الشخصيات بنفس أهمية ما قد قيل، وما يغيب عن المشهد لا يقل سطوة عما يحدث فيه.

 

 

بطرح ثيمات في غاية الإشكالية، مثل قضية المثلية، فإن الرواية تواجه بوضوح ثقافة المجتمع القائمة على العلاقة الثنائية بين الأضداد، ليضعه –أي المجتمع- أمام علاقة من نوع آخر؛ (علاقة بين الأشباه) تذيب المعنى السائد أو المعروف. اقرأ أيضًا: أولاد الغيتو؛ حكاية في مجابهة النسيان.

 

 

يكشف العنوان؛ "جريمة في رام الله"للقارىء أن هناك جريمة ما سوف تحدث، لكنه أيضًا عنوان مخادع، من حيث أن الجريمة بحد ذاتها ليست هي الموضوع، فهي تكتسب أهميتها بسبب ما تحدثه من تغيير في حياة شخوص الرواية، لكنها كحدث يكتنفه الكثير من اللبس والغموض؛ بدءًا من قلة ما نعرفه عن الضحية وصديقها، إلى انعدام الشكوك حول هوية القاتل ومجهولية الأسباب، وانعطاف الأحداث بسرعة باتجاهات مختلفة؛ كل هذا يجعل الجريمة حدثًا غير قابل للتطور، وتكمن أهميته الوحيدة في أثره الكبير على حياة الأبطال، قد نعتقد أن مصائرهم تتلاقى نتيجة جريمة عبثية، لكن، من وجهة نظر أخرى، فإن ما يجمع هذه الشخصيات هو كونهم ضحايا المكان والمنظومة والحالة والأمر الواقع، والجريمة المرتكبة بحقهم أكبر وأكثر خطرًا، ولعلها الفكرة نفسها التي توصل إليها نور بعد سجنه وتعذيبه، فيقول:

 

 

"أتأكد أنني لم أكن متهمًا في جريمة القتل، بل بأكثر الجرائم شيوعًا، محاولة أن أكون أنا"

 

 

 

ولربما كان العنوان "جريمة في رام الله"كذلك لا يشير إلى جريمة القتل، بل إلى جريمة أخرى أكبر وأكثر خطورة. اقرأ أيضًا: رؤية مارون عبود للأدب والأديب والكتابة الأدبية.

 

 

تقع أحداث الرواية في مدينة رام الله، المكان البطل في الرواية، بل تكاد تنحصر في جزء منه، وهي بذلك غارقة في المحلية، فالقرى التي جاء منها أبطال الرواية تبقى تحت اسم "القرية"، رام الله وحدها تكتسب حيوية على حساب كل شيء، وكأنه ليس لسواها وجود بالنسبة لهؤلاء الأبطال؛ رام الله عالمهم المنغلق والمتوحد، المنفصل لدرجة تعتقد معها أنه غير موجود وغير حقيقي، لأنه لا يشبه شيئًا مألوفًا.

 

 

 

هذا العالم الذي يسمح لهم بأن يكونوا هم، هؤلاء الأشخاص في فرادتهم، الذين وجدوا في رام الله منفذًا نحو حياة مختلفة؛ كان المكان نفسه الذي سحقهم لحظة ضعفهم. اقرأ أيضًا: لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات؟

 

 

 

تدور الرواية على لسان ثلاث شخصيات رئيسية: رؤوف، نور ووسام. رؤوف ونور يروي كل منهما حكايته رواية ذاتية، يخبر الواحد منهما قصته كما اختبرها، بأدق تفاصيلها، فيما يعرف بالراوي الحاضر، في حين أن حكاية وسام يرويها راوٍ خارجي، أو ما يعرف بالراوي الشاهد.

 

 

هذا الفرق في نوع الرواة يمكن أن نعزوه إلى طبيعة قصة كل شخصية، حين يروي كل من رؤوف ونور تجاربهما الشخصية ولحظات في غاية الخصوصية، تلك التي لا يختبرها الإنسان إلا مع نفسه، وبالتالي فالراوي الحاضر أو الرواية الذاتية تنقل للقارىء الإحساس بخصوصية التجربة. اقرأ أيضًا: المؤمن الصادق: أن تتحرر من الحرية.

 

أما وسام، الذي رويت قصته على لسان راوٍ شاهد أو خارجي، فهذا من شأنه أن يجعله يبدو عاجزًا تمامًا عن السيطرة على مصيره. يروي الصوت الخارجي حكايته الأليمة أو يرسم قدره المحتوم.

 

لكن الأهم من ذلك، أن عباد يحيى استطاع أن يخلق شخصيات ناضجة تتمايز بأصواتها وحديثها وعباراتها.

 

 

ليس غريبًا على عباد يحيى تناول موضوعات إشكالية، فهذا ما ميّز أعماله السابقة أيضًا، ولا توظيفه لأدوات معرفية من علم الاجتماع لتفكيك ظواهر وقضايا اجتماعية وإنسانية غريب أيضًا. هناك قدر من الاشتغال الذي نلمسه في أعمال عباد والذي أتى أفضل ثماره في العمل الأخير؛ العناية التي ترفع العمل الأدبي إلى مرتبة جديدة، حيث يكون قادرًا على إعادة تعريف المفاهيم والأشياء؛ فالعمل الذي لا يفتح نافذة جديدة على المشهد لن يستطيع أن يعيد أو يساهم في إعادة قراءته، أو تشكيل فهم ومعانٍ جديدة.

 

 

 

اقرأ أيضًا:

5 كُتّاب شباب يعدون بالكثير

لماذا تتغيّب مشاهد الولادة عن الأدب؟

ككاتب يجب عليك أن تفهم

لماذا رفض ت. س. إليوت نشر رواية "مزرعة الحيوان"لأورويل؟

 

 

 

 

 

Viewing all 248 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>