إن مجال النقد عند مارون عبود أوسع من باب جهنم، لا يضيق عن أحد ولا يكبر عليه أحد، لقد نقد خلقًا كثيرًا كبارًا وصغارًا مشاهيرَ ومغمورين، نساءً ورجالًا، قُصّاصا وشعراء ومسرحيين بلغوا المئات، وكان أسلوبه في كل ذلك كراقصة الباليه رشيقة ثابتة واثقة محسوبة و باهرة، يشعر في داخله بانبهار القارئ بجمال ما يكتب، ولكن لا يدفعه ذلك لمجاوزة الحد، إنه ليس خفيفًا ككتاب الصحف.
ويبدو لي أن في مصر شيئًا ما، لم يُرضِه عنها، فقد نقدَها كثيرًا، وهذا هو يقول مبتدأ نقد العقاد:
"لا أدري لماذا يحل بنا الفزع الأكبر وينخلع قلبنا كلما ذكرنا أدباء مصر الفرعونية؟ أغولٌ هي؟ عجيب أمر مصر! كم تحب الألقاب، ألبَستْ شوقي خِلعة الإمارة ثم مالت على حافظ فأسمته شاعر النيل وعلى إثر ذلك لقب خليل مطران -عاش معظم حياته بمصر- بشاعر القطرين وعبد المحسن الكاظمي -آخر عشرين عاما من عمره كانت بمصر- شاعر العرب ولست أردد: ألقاب مملكة، فهؤلاء كانوا خير مافي الكنانة من سهام ولكن!"
وتحدث في موضع آخر عن أدباء مصر معدّدًا بعضهم، وأخذ ينقد مجمل إنتاجهم وأنه "كلما تقدمت السن بأحدهم شاخ فكرُه وقلت بضاعته وتبخرّت بحيراته وأنسلوا ذرية ضعافًا، فماذا يكون لو بلغوا أرذل العمر؟"وأخذ يقول ما ضرَّ العقاد لو انصرف للنثر وإلى أبحاث لا يتعداها، وما ضرَّ المازني لو انصرف لكذا، وما ضرَّ الرافعي لو انصرف لكذا، ولم يزل يقول: وما ضرَّ وما ضرَّ حتى حسبتُ أنه يضع مفرداتِ منهجٍ دراسي لأدباء مصر، وهذا يدلّك من ضمن ما يدلك عليه= قلة احتفال الرجل بالرموز الأدبية التي يعبدها الناس وعدم تهيبه منهم أبدًا.
لسلمى الجيوسي رأي لافت يقرب أن يكون تعليلًا لحدّة مارون تجاه مصر أنقله لك بتصرف وهو: "أن مصر كانت المركز الأدبي في الوطن العربي لعدة عقود، وكان عموم القرّاء في العالم العربي في فترة الأربعينات يفتقرون إلى الثقة بالنفس والقدرة على الحكم المستقل فيذعنون إلى المعايير الأدبية المصرية، وزاد الأمر قلقًا أن نصّب طه حسين عباسَ العقاد كأمير للشعراء، فلا بد أن مارون شعر بالخوف من تضليل خطى الشبّان وأصحاب المواهب وتشويه الذوق الأدبي بمثل هذا العمل"وهو كلام له وجاهته.
إليك نتفًا عجلى من تعابيره النقدية، ثم أطيل شيئًا في العقاد وطه فقد أوقف مارون كمية من حِبره لله عليهما:
نقد شاعرًا اسمه رزوق فرج رزوق فقال له: "أتريد أن أشبه لك هذا الشعر؟ لا تزعل ولا تحرد إنه أشبه بالكوسا والقرنبيط المسلوقين يعبي الكرش ولا يغذي، اسمع مني ودع هذا النمط!"
ومدح شعر أبي ريشة وشخصيته في شعره وأسلوبه مدحًا غير معتاد منه ثم نقد عليه إكثاره من (ما) الزائدة فقال: "إكثارك من ما الزائدة لا يعجبني، يا ابني نحن في عصر يقصّون فيه الزائدة فور شعورهم بها"أرأيت؟ ما ألطف هذا!
أتى إلى شعر نازك الملائكة المنثور فأثنى و قال عنها: "وهذه خنساء جديدة -ولكنها مثقفة- ولو يصح لي أن أن أتمثل بالنابغة لقلت اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولو لا ذاك البصير أبو ريشة لفضلتك على شعراء الموسم وليغضب علي ألف حسان".
نقد الرافعي والعقاد في رأيهما عن القصة في الأدب العربي فأتى بكلام متين عجيب حلّق فيه، وختمه بقوله: "وبعد فهذان رأيان لكاتبين كبيرين من أدبائنا، وشاعرين أيضًا، بل نموذجان من أدبنا العصري، واحد عتيق و آخر جديد، ثكلتني أمي رحمها الله إن كنت عرفت الجديد منهما."
يرى مارون في نزار أنه "رابع ثلاثة عبدوا اللحم وليس عندهم للروح شيء، وأنت يا نزار شاعر ٌشاعرْ أقولها وأثنيها وأثلثها، وابتهارك في تهافت النساء عليك يذكر بعمر بن أبي ربيعة، هو ذاك ولكنك من نوع آخر، كان عمر يشتهي اللحم والدم، وأنت إلى الثوب الأنيق أميل"ولكنه يعيب على نزار "أنه لا يعبأ بالوزن كثيرًا وإن كان وزّانًا في الأصل"واعتبره "إحدى قمم الشعر العربي الحديث"ونصحه أن يهتم بالوزن ولا يقلّد أحدًا، ورد عليه نزار قباني في مقال كان آية من الأدب بمعنييه، وإذا نزار في نثره كنزار في شِعره رقص وجمال، فانظره في رسائل مارون إن شئت، أو في نقدات عابر بعنوان (جانين والوجودية ومارون) إرجع إلى المقال، فإنه مما لا تصحّ الصلاة بدونه.
ونقَد شعر الصافي النجفي ورأى أن شعره "ينقصه كثير من الدم، فهو بحاجة إلى كثير من زيت السمك"أرأيت حلاوة الصورة؟ ثم يقول له مارون "أسألك ألا ترفع الكلفة بينك وبين اللغة -يقصد لحنه- وأما مقاصدك في الشعر فلا تُحلَّـل، لأنها كنِعم الله لا تحصى". وعلق على أبيات متغطرسة للصافي يذمّ فيها النقاد هي:
سـأشـكر نقـادي اللـئام لأننـي ركبـتُ علـيهم فـي طـريقـي إلى المـجـدِ
فإن قصروا في السير يومًا وخزتهم فساروا وساروا مسرعين من الحقد
فقال له: "إلى الأمام يا صديقي إنك ستجد مرعاك، أما ركوبك على النقاد فقد تغنيك عنه حمارة، إن هموم مجدك المتواضع لا تقتضيك أكثر من جحشة، فلا تطلب غيرها."أرأيت كيف يسخر بين جد ومزح؟
أما أمين نخلة فهو عند مارون عبود "شاعر وكاتب كبير، ومع ذلك يعتمد على الدعاية في ترويج بضاعته، فهو وسعيد عقل كلاهما يفوقان الأمريكان في الإعلان"، وينقل مارون تقديم شوقي لديوان نخلة بهذه الأبيات:
هـذا ولـي عـهـدي وقـيّـم الـشــعـر بعــدي
فكل مـن قال شعرًا في الناس عبد لعبدي
فيغلي الدم في دماغ مارون فيقول في كلام متباعد وصلتُه لك: "تُـرى من قال لشوقي أننا نعترف بولايته حتى ينصب ولي عهد؟ إن إمارة شوقي مهزلة سجلها التاريخ، لعنةُ الله على هذه الإمارة الجوفاء فهي سخافة بلقاء أسقطتنا من عيون المغاربة، وأشد الناس رقاعة وعتاهية شاعرٌ يحلم بها، فكل شيء يورَّث إلا العلم، هذا كلام رجل لا أجد له نعتًا ويبدو أن العُمر هو الذي أنطق شوقي في غير ساعة رضا بهذا الهذيان والهذر."
ويرى مارون أن "تعابير شوقي منبوشة من أضرحة القدماء فهو كالذي يعثرون عليه في مدافن جبيل والأقصر"، ولكن نقده الرصين المطول لشوقي كان في دراسته عن "أدب العرب"الذي "وضعه لمن لا تسعفه مروئته لقراءة المطولات"فارجع له إن شئت.
ينقد مارون أحمد قنديل الشاعرَ السعودي فقلاه على زيتٍ ذا نار هادئة، وإن شيّط صوت القلي أحيانًا، فيقول في نقده؛ "لقد رأيته عيانًا فإذا هو أنيق الملبس حديث الزيّ حسنُ السمت، ومع ذلك لم يأنف أن يقول:
مطرهفَّــًا هفا الجمال إليه وارتضاه مثاله المِطرابا
فبيتٌ مسكين كهذا، أوّله مطرهفّ وآخره مطراب، أي حظ يرجوه من الحياة الأدبية؟ ولقد رأيت أحمد قنديل بين شرّين، فهو إما يركُّ قولُه، وإما يحيي موؤودات اللغة!
والغريب أن ترى هذه التعاويذ الجاهلية في شعره ثم يقول غاضبًا للفن:
حرام عليكم أن تكونوا مصيبة على الفنّ يكفي الفنّ باقي المصائب
يظهر أن أذن الأستاذ بعيدة جدًا عن فمه"معرضًا بمخالفة عموم شعره لرأيه في هذا البيت.
ولعل قنديل هو الشاعر السعودي الوحيد الذي ذكره مارون.
كما علّق على قصيدة للجواهري ألقاها في حفل بلنان فقال: "ما هذا زاد ينقل من بلاد إلى بلاد، .. إن هو إلا محصول يستهلك في أرضه، علَّلْـنا أنفسنا بالسميد والترياق فما ظفرنا إلا بدبس وسويق، جئتنا صحفيًا يتنكر في ثوب شاعر"معرّضًا بشبَه شعره بكلام الصحفيين.
ثمة مقارنة بديعة في كتاب "دمقس وأرجوان"بين حافظ وشوقي؛ إذ يرى مارون فيها أن بداية شوقي كانت باردة ثم التهب شعره، على عكس حافظ الذي بدأ ملتهبًا ثم برد، فيقول: "كان قلب شوقي في ذلك الزمان خاليا من الهموم فلم يقل شعرًا حيًا تنبض له القلوب إذا استثنينا خدعوها، أما حافظ فكان منكوبا بأمانيه وآماله يقول الشعر غاضبًا حانقًا فنحسّ بما يحسّ"، ثم يذكر التغير الذي حصل لشوقي بالابتعاد عن العرش وتغيير العادات عليه مما ألهب شعره وخلق فيه الروح والحرارة: "ومن حسن حظ شوقي أن حصل له ما حصل من النكبة وإلا كان شعره حيث كان ولم تدب فيه الروح"ثم يتحدث عن العهد الأخير من شعر حافظ وأنه "عمل لاحقًا في المكتبة الوطنية يدخّن النارجيلة مترقبا الأهلة، تكفيه كالطغرائي مصّة الوشل، ولقد كانت إجادة شعره في الشكوى التي عافها في الكهولة وسكتَ إكراما لسواد عيون الجنيهات، أخرستْ صاحبَنا الجرايةُ فطلق الشكوى ثلاثًا".
أما ما وعدتك به من نقد مارون لطه والعقاد فهذا فهو مبتدأ بطه، فانظر رأي مارون في معالي الوزير الأزهري:
يرى مارون أن طه صاحبُ حكي، لسانُه خداع وهشّ المعرفة خيرُ زادِه ما قلد فيه المتمشرقين فيقول "إن طه محدِّثٌ أكثر منه مناظرٌ أو محاضر، يستفز مستمعيه بتعابيرٍ حلوة تهز الأيدي والأرجل حتى وإن كان أكثرهم لا يدري لماذا صفق، إنه في صناعة الكلام أقدُر المعاصرين على التخمير، فعجينه يرفخ ويطفطف، فتحسب المعجن يموّن البيت شهرًا حتى إذا مدّت الأيدي للزاد عرفت أن العيش هشّ مثل كرابيج حلب، يضلل القراء ويشغلهم في تعابيره التي يركب بعضها بعضا كالجراد، يشكّ ساعة يستحلي ويصدق ساعة يريد، ينفش الكلام نفشًا كأنه ينتقم من قراءه، و يعمل من الحبة قبة ثم لا يجزم بشيء، فهو يبني ويهدم كما كنا نعمل صغارًا في بناء العلالي والقصور حول بيوتنا"و حين علق طه على بيت المتنبي:
وأوضح آيات التهامي أنه أبوكم وأجدى ما لكم من مناقب
بقوله: وواضح أن أبهر آيات النبي التهامي هي القران لا أبوته للعلويين، فيعلق مارون: "أفلا يغتفر لي طه إساءة الظن؟ إن نضاله عن الله عز وجل ورسله عليهم السلام= يريبني جدا".
ثم يقول كلامًا في غاية الدقة عن قدرة طه حسن العلمية فيرى أن طه "يُحسن جرّ الخيط إذا استلمه (أرأيت دقة التشبيه؟)وهو أبدًا بحاجة إلى من يسلمه إياه، وبلغة أوضح: إن طه ماهر في التمهيد والتعبيد، أما أن يخطط طريقا فليس هذا شغله"، ونظر طه في قصائد جياد للمتنبي "فرأى بعد الجمع والضرب والطرح أن المتنبي لم يكن يستحق أكثر مما أخذ من مال الأمير، حتى خفتُ أن يقترح إقامة دعوى على تركة الشاعر، ولكنه رضي والحمد لله رأسا برأس ولم يشغل الحكومة المصرية في هذه الأزمة".
ثم عن تكوين طه المعرفي وأثر ذلك فيه قائلا: "إن طه أقدر على تاريخ الأدب منه على نقده، وقد يكون لنشأته وتكوينه العلمي أبلغ أثر في هذا، فالرجل معذور غير محجوج، نشأ نشأة مستمعٍ قصّاص، ومن نشأ هكذا كان في التاريخ أبرع منه في درس النصوص التي تحتاج إلى إطالة نظر، وقد وجد كلُّ كُـتّاب مصر سبيلهم في الكتابة، إلا طه فلم يزل كحاطب ليل لا يدري ماذا يريد! وأقصى أمانيه أن يذكره الناس، وإذا فاته المدح فلا بأس بالقدح المهم أن يذكر".
"أنا لا أنكر أن طه إنه دكتور و شيخ أزهري شرقًا و دكتور سربوني غربا، وشمالا جنوبا يعلم الله ماذا، وأمس حاز واحدة أخرى ويحوز أيضا، الله كريم، ولكنه لو نكح من هؤلاء الجامعيات ما طاب له مثنى وثلاث ورباع وخماس، يبقى خير ما عنده أنه شيخ أزهري يستطعم كلام العرب” ثم يضرب عن نقد طه و يختم بكل سخرية “ما لنا ولطه إن لديه حمّى من الشهرة يعاوده كل سنة”
ولكنه يعود فيستشهد ببعض آراءه ويعرّض ببعض آراءه الأخرى، وعلى طول ما يكتب كان طه حاضرًا ذما ومدحا واستشهادًا، وانظر حديث مارون عن المتنبي في الرؤوس، ففيه الشوط الطويل من نقد مارون له، وقد جمعت لك مما قال ما يصلح أن تشعل به نارًا.
أما نقده للعقادفكان غاية من الصراحة والقوة والسخرية، حمده على نقده هذا أحمد شوقي في رسالة ذات نمطٍ غريب بارد، حاول فيها وعظ مارون وإرشاده.
إن مارون لم يُقم أدنى وزن للعقاد وسمعته أثناء نقده فأحال شعره قاعًا صفصفا بضربة معلّم، ولم يكن للعقاد عندي شفقة فشعرُه يستحق ذلك، وكم من شاعر كالعقاد اليوم ولكن لا مارون له، وإليك ما فوّق من سِهام:
يرى مارون أن العقاد ممن "يرفعهم الله إلى أسفل في الشعر"ومشكلته تكمن في أن نفسه غير قابلة للشعر من الأصل! فهو "ذا نفس متحجرة لا يقطر مها شيء ولو ضربها جوبيتر بصواعقه"وأن دواوينه كلها "كدكاكين الضيعة فيها كل حوائج البيت"، ويعلق على كثرة العناوين في دواوينه بقوله "لا تعجب فالعقاد يريد أن يقول في كل فن ومطلب، والحياة قصيرة"، و شعر العقاد "نسلٌ معوّه يحتاج إلى وقف ذريةٍ ليعيش فليته يوصِ به"، ثم يعلق على ساخرًا على علة امتناع الشعر عن العقاد بقوله: "ومُنع الشعرُ على العقاد لعلتين قاتلتين: الركاكة وضعف الخيال، فلو صار العقاد مثل آرْجو له مئة عين مبصرة وركِب نسر حيقار ومركبة إيليا، وعلا صهوة البراق، فلن يبلغ سماء الوحي ولا يقارب آفاقها". أرأيت أكثر سخرية من هذا؟ ومع أن "النثر أطوع له من الشعر ونثره يدل على عقل عربي صحيح مفكر، إلا أن العقاد عنيد يظن النظم خصمًا سياسيًا لا بد له من قهره، فيظل ينظم عن سابق تصور وتصميم كما يعبر المحامون ويظل ينظم حتى يقتل الكثيرين من قرّاءه، فتحل عليه عقوبة المتعمد"، وعلق مارون على قول العقاد:
دليـل علـى أن الـكمـال محرّم إنـاث خلـقنا بـينهـا وذكـورُ
فمـا المرء في جسمٍ وروحٍ بكامل ولكن كل العالمين شطورُ
فقال: "أتقول لي لماذا ينظم الأستاذ؟ وأي فكرة يُخرج لنا؟ اللهمّ أين أنت؟ أأخرجت أبوينا من الجنة لتَنزِل بنا هذه الدواهي؟ إن لا يستحق لقب شاعر، لينتظر لعل الله يفتح عليه بشيء آخر."
ثم يأخذ في السخرية من إصرار العقاد على النظم مع سوء إنتاجه فيقول: "لا بأس لينظم العقاد فمن يدري ربما كان الشعر كالفحم يصير ألماسًا إذا طمر زمنًا طويلًا، فلينظم العقاد وليطمر دوايونه ولينتظر فالله كريم، انظم ولا تيأس من رحمة الله يا صديقي، ولولا تسمع مني وتسهر ليلة القدر لعل الفن يهبك من لدنه وليا، وإن كان تفكيرك خير من تعبيرك أما الشعر فليتك تسمع مني طلّقْه ثلاثًا فشعرك ليس من أبناء السلامة".
وبعدُ فهذا طرفٌ من نقد مارون عبود، الذي به تميز، وعنه حارب، وبسببه عانى وفقد وخسر وضاق، ولكنه لم يتراجع عن شيء قاله، ولقد طويت عنك الكثير مما قال، فلم أحدثك عن رأيه في الذوق الأدبي، ولا عن أثر الأديب في الحياة، ولا معركته مع إسماعيل أدهم المدافع عن فرعونية العقاد، ولم أصف لك قصته مع الراقصة التي خدعها ليحصل على حديث مجّاني، لم أذكر لك رأيه في الشعر وأوزانه وغنائيته وحكمه على الشعر المنثور، ورأيه في القصة والرواية والمسرحيات، لم أذكر لك رأيه في المستشرقين وحظهم من الأدب العربي وله فيهم رأيٌ غير هيّاب ولا متتلمذ، لم أحدثك عن رثائه الصافي الحزين الذي يبْشر الكبد، سواء في رثائه إلياس أبو شبكة أو محمد كرد علي أو عمر فاخوري أو الشاب الذي كان يلازمه فترة عمله في إحدى الصحف، إن رثاء مارون عذب صادق في حزنه لا زيف فيه ولا رسوم تقليد، لغة قلبٍ لا لغة قلم، ولم أحدثك عن مقارنته بين قصيدة أمين نخلة وقصيدة بشارة الخوري في رثاء أحمد شوقي، لم أذكر لك شيئًا من أحاديث القرية العذبة الحلوة، إن لدى مارون أضعاف هذا مما لا يتأتى نقله، لأنه ليس مما يمكن تقطيعه كالكيك، ولكنه كلوحة لو أريتك جزءًا منها لم تعرف أي رسمة هي.