Quantcast
Channel: Inkitab Feeds
Viewing all 248 articles
Browse latest View live

10 بطلات من الأدب الروسي عليك معرفتهنّ

$
0
0

 

 

لماذا هنّ حكيمات لدرجة أنهنّ لا يتوقعن نهايات سعيدة لحكاياتهنّ؟

 

 

ألهم العرض الأخير لفيلم الحرب والسلم على شاشة البي بي سي الكثيرين من مشاهدي التلفاز ليزيلوا الغبار عن نسختهم القديمة من تحفة تولستوي ويجربوا قراءتها مرة أخرى. قد يكون الجريئون منهم، والذين أغراهم تألق ناتاشا رستوفا، مقتنعين بما فيه الكفاية ليتعمقوا في العالم الواسع للأدب الروسي بحثاً عن شخصيات أخريات جديرات بالذكر. من أين نبدأ؟ لا داعي للبحث. سنقدّم هنا كبار الشخصيات من بطلات الأدب الروسي.

 

 

جميعنا يعلم أن جميع البطلات السعيدات متشابهات، لكن لكل بطلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة. ومع ذلك، تعتبر الشخصيات السعيدة في الأدب الرّوسي نادرة الوجود. في الواقع، تتشابه البطلات الروسيات بكونهن يملن لجعل الأمور أصعب عليهن. وهذا جيد، لأن جمالهن كشخصيات أدبية مستمد بشكل كبير من قدرتهن على المعاناة من أقدارهن المأساوية، ومن نزعتهن الروسية.

 

راوي روايتي الأولى  “Back to Moscow”  يجد نفسه في موسكو، يعمل أو يتظاهر بأنه يعمل على إتمام رسالة الدكتوراه في بطلات الأدب الروسي. ينتقل الراوي بين النساء الحقيقيات اللاتي يلاقيهن عن طريق استرجاع الدروس الذي تعلمها خلال قراءته للأعمال الكلاسيكية الروسية. ولكنه سرعان ما يكتشف بأن روسيا لم تعد البلاد التي وصفها تولستوي أو تشيخوف. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، يجد بأن موسكو ما هي إلا مدينة فوضوية تشهد تحولات سريعة وعميقة حيث أن النساء نادراً ما يتصرفن حسب ما تقوله الكتب.

 

 

الأمر الأكثر أهمية والذي يجب علينا دائماً تذكره عن الشخصيات النسائية الروسية هو أن حكاياتهن لا تدور حول التغلب على المصاعب ليعيشن حياة سعيدة إلى الأبد. رجوعًا إلى قيم الأوصياء الروسيين المكرّمين، فالبطلات الروسيات يعلمن أن هناك ما هو أكثر أهمية من السعادة في الحياة.

 

 

تاتيانا لارينا، يفغيني اونيغين

في البداية، كانت هناك تاتيانا، حوّاء الأدب الروسي. ليس فقط لأنها من أوائل الشخصيات الروسيّات، ولكن لأن بوشكين يحتل منزلة إلهية فريدة من نوعها في قلوب الروسيين. أي روسي كفؤ قادر على إلقاء قصائد كاملة لبوشكين الملقب بـ "أبي الأدب الروسي الحديث" (وحتى بعد قدحين من الشراب، الكثير منهم قادر على إلقاء قصائد له). تعتبر يفغيني اونيغين تحفة بوشكين الأدبية، ولكن في الواقع لا تتحدث عن شخصية اونيغين بل عن تاتيانا، تلك الفتاة البريئة التي تعيش في إحدى المقاطعات والتي تقع في حبّ شاب عكسها تماماً وهو اونيغين، الشاب الذي أفسدته القيم الأوروبية الحديثة، حيث أنه شخص ساخر يحب الاستمتاع بالحياة. تجسّد تاتيانا جوهر ونقاء الروح الروسية الغامضة بما في ذلك الميل إلى التضحية بالنفس وازدراء السعادة المتمثل باحتفائها برفضها الرجل الذي تحب.

 

 

آنا كارنينا

على عكس تاتيانا في عمل بوشكين التي تقاوم إغراءات الهروب مع عشيقها اونيغين، تقرّر آنا في عمل تولستوي ترك زوجها وابنها حتى تتمكن من الهروب مع فرونسكي. إنها فتاة درامية بعض الشيء، حيث أنها ماهرة تحديداً في اختيار كافة الخيارات الخاطئة والتي ستضطر في المقابل إلى دفع ثمنها غالياً. ولكن خطأها الأساسي لا يتمثل بكونها على علاقة عاطفية مع رجل آخر أو بهجر ابنها الوحيد. إنما تتمثل خطيئة آنا والتي هي مصدر مصيرها المأساوي بمحاولتها الأنانية لإشباع رغباتها العاطفية والجنسية، حيث أنها نسيت الحكمة وراء التضحية بالنفس التي قامت بها تاتيانا: قد يكون الضوء في نهاية النفق مجرد قطار قادم!

 

 

سونيا مارميلادوفا، الجريمة والعقاب

في الجريمة والعقاب لفيودور دوستويفسكي، تقف سونيا لمواجهة رسكولينكوف، فهي عكسه تماماً. تضطر سونيا لأن تكون عاهرة وقديسة في نفس الوقت، وتتقبل وجودها كطريق طويل من المعاناة. بعد أن تكتشف الجرائم التي اقترفها رسكولينكوف، لا تتخلى عنه بل تأخذ على عاتقها إنقاذ روحه، بما في ذلك وفي مشهد لا ينسى، تقوم بمضايقة رسكولينكوف بتلاوة الكتاب المقدّس وقراءة قصة بعث عازر من الموت. إن سونيا قادرة على مسامحة رسكولينكوف لأنها تعتقد بأن الجميع متساوون عند الله، وأن الله يغفر، وهي  خير فرصة للقتلة النادمين.

 

 

ناتاليا رستوفا، الحرب والسلم

ناتاليا هي فتاة أحلام الجميع، فهي إنسانة ذكية ومرحة وعفوية. تبدو تاتيانا في عمل بوشكين فائقة الخيال والتوقعات، أما ناتاليا في عمل تولستوي فهي حقيقية وواقعية. ويعود ذلك جزئياً بالإضافة إلى صفاتها العديدة إلى أنها متقلبة المزاج وساذجة وذات شخصية لعوبة بطريقتها الخاصة في القرن التاسع عشر. في رواية الحرب والسلم، تلعب ناتاليا في البداية دور الفتاة المراهقة الجذابة التي تنضح بالفرح والنشاط. ولكن مع مرور الفصول وتقدم أحداث الرواية، تتعلم الدروس التي أعدتها لها الحياة، لترويض قلبها المتقلّب والتحلي بالكمال والحكمة. وعلى خلاف ما اعتدنا أن نتوقع من البطلات الروسيّات، فهذه المرأة لا تزال تبتسم حتى بعد مرور أكثر من ألف صفحة.

 

 

ايرينا بروزوروفا، الأخوات الثلاث

في بداية مسرحية تشيخوف "الأخوات الثلاث"، تكون الأخت الصغرى ايرينا مبهجة وطموحة. بينما يشعر أخواتها الأكبر سنًّا بالضجر من الحياة في المقاطعات، ويكنّ دائمات التذمر ومتقلبات المزاج. إن روح ايرينا الساذجة مليئة بالتفاؤل اللانهائي، حيث تحلم بالعودة إلى موسكو يومًا ما، إلى حيث تؤمن أنها ستجد الحب الحقيقي وأن جميعهم سيكونون سعداء. ولكن عندما تتلاشى فكرة العودة إلى موسكو وتدرك ايرينا بأنها ستظل عالقة في قريتها، لا يتبقى لديها خيار آخر سوى فقدان تألقها وبهجتها. من خلال ايرينا وأخواتها في المسرحية، يبين تشيخوف أن الحياة ما هي إلا سلسلة طويلة من اللحظات المملة، والتي قد تتخللها من وقت إلى آخر دفعات صغيرة من الفرح. كإيرينا، جميعنا نقضي الوقت مشتتين بأفكار لا علاقة لها بما حولنا، نحلم بمستقبل أفضل ولكننا نتقبّل تدريجيًا فكرة أن وجودنا ليس مهمًا كما نعتقد.

 

 

ليزا كاليتينا، بيت النبلاء

في رواية بيت النبلاء، نجح تورغينيف في استخدام البطلة الروسيّة المثاليّة. ليزا هي فتاة ساذجة ونقيّة القلب، حيث تجد نفسها محتارة بين رجلين تقدما لخطبتها: ضابط وسيم ومرح، ومسنّ متزوج تعيس. هل تستطيع تخمين من ستختار؟ إن اختيار ليزا لزوجها المستقبلي يخبرنا الكثير عن الروح الرّوسية الغامضة، فهي بالتأكيد تختار التّعاسة. كما أنّه يخبرنا بأنّ خيار السعي وراء الحزن السوداوي في الحياة هو مقبول كأي خيار آخر. وفي نهاية القصّة، تتخلّى ليزا عن الحب وتلتحق بالدير لتصبح راهبة تعتنق حياة مليئة بالتضحية والحرمان. تقول ليزا كتوضيح لحالتها: "لم تُكتب لي السعادة، حتى ولو كنت متأملة بوجود السعادة في حياتي يومًا ما، كان قلبي حزينًا دائمًا"يا لها من طفلة!

 

 

مارغريتا، المعلم ومارغريتا

في رواية المعلم ومارغريتا والتي تعتبر آخر إصدار أضيف لأعمال المؤلّف بولغاكوف، مارغريتا هي بطلة غريبة الأطوار حسب ما تم وصفها في العمل. تلعب مارغريتا في بداية الرواية دور امرأة متزوجة تعيسة، والتي تصبح فيما بعد عشيقة المعلم ومصدر إلهامه، ثم تتحول لاحقًا إلى ساحرة تحلّق بالمكنسة. تعتبر مارغريتا مصدر الطاقة للمعلم وهي المداوية والعشيقة والمنقذة له، تمامًا كما فعلت سونيا لراسكونيف. عندما يقع المعلم في ورطة، تصبح مارغريتا الملكة في حفل الشيطان لأجل مساعدته بدافع العشق، ثم تجتمع هي وعشيقها بعد فراق طويل وإن لم يكن لقاءهما في هذا العالم تحديدًا.

 

 

أولغا سمنوفا، “The Darling”

في القصة القصيرة “The Darling”، يروي أنطون تشيخوف قصة أولغا سمنوفا، الشخصيّة ذات الروح اللطيفة والمحبوبة. هي إنسانة بسيطة، وكما قيل لنا، بأنّها تعيش لتحبّ. أولغا المسكينة تجد نفسها وحيدة بعدما أصبحت أرملة مرّتين. ومع عدم وجود رجل إلى جانبها لتقدّم له الحبّ، ليس لديها شيء لتعيش من أجله وتختار الانسحاب والابتعاد عن العزلة برفقة قطتها. في تحليل نقدي لقصة “The Darling”، كتب تولستوي ساخرًا من المرأة البسيطة بأن تشيخوف قام بالصدفة بابتكار شخصية محبوبة. توجه تولستوي إلى نقطة أخرى بأنه قام بتوبيخ تشيخوف لقساوته على أولغا، وذلك من خلال الحكم على عقلها وليس على روحها. فبالنسبة إلى تولستوي، تجسّد أولغا قدرة المرأة الروسية على الحب بلا حدود، وهي فضيلة يجهلها الرّجال. أة

 

 

مدام أدينتسوفا، الآباء والبنون

في رواية الآباء والبنون (Fathers and Children) لتورغينيف (أحيانًا تترجم خطئًا إلى Fathers and Sons)، مدام أدينتسوفا وكما يوحي اسمها في روسيا هي امرأة وحيدة، أو على الأقل وفقًا للمعايير السائدة في الوقت الذي عاشت فيه. حتى لو تم ابتكارها كشخصية شاذة، فمدام أدينتسوفا كبيرة في السن إلا أنها حافظت على صحتها وشخصيتها كما هي، مما جعل منها رياديّة بين بطلات أدبية أخريات. وعلى خلاف الشخصيات النسائية الأخريات في الرواية واللاتي يستسلمن إلى ما يفرضه المجتمع عليهن، فمدام أدينتسوفا، والتي ليست فقط أرملة بل يتيمة الأم وليس لها أولاد، تختار وبعناد أن تدوم استقلاليتها وترفض فرصتها الوحيدة في إيجاد الحب الحقيقي، مما يذكّرنا بتاتيانا في عمل بوشكين.

 

 

ناستاسيا فيليبوفنا، الأبله

بطلة رواية الأبله، ناستاسيا فيليبوفنا، هي دراسة قائمة بذاتها في تعقيدات أدب دوستويفسكي. ناستاسيا هي امرأة يتم استغلالها وتعتبر ضحية جمالها الاستثنائي. تيتّمت عندما كانت طفلة صغيرة وقام بتربيتها رجل لتصبح فيما بعد عشيقته. ولكن في محاولاتها المتجددة للهروب من مصيرها، وبينما تحاول أن تصبح نسختها الخاصة من المرأة الجذّابة والذّكية، لا تستطيع ناستاسيا المكلومة الهروب من إحساسها بالذنب والذي يسرق سعادتها عندما تقوم باتخاذ قرارات في حياتها. وحسب تقاليد البطلات الروسيّات الأخريات، تقدّم الحياة لناستاسيا خيارات عدّة، أغلبها على شكل رجال. ولاحترام هذا التقليد، لن تكون قادرة على اتخاذ القرارات والخيارات المناسبة، وتختار الاستسلام أمام قوة مصيرها. وفي نهاية الأمر، تسمح لنفسها بالانسياق نحو نهايتها المأساوية. 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

 


روايات المنفلوطي: خطاب أخلاقي من الأدب الفرنسي

$
0
0

 

 

ولد مصطفى لطفي المنفلوطي في بلدة منفلوط بمصر، أدخل إلى الكتاب وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بالأزهر حيث تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده؛ نشأ يكتب ويقرأ، حفظ كل كتب الأدب؛ فقرأ للجاحظ وابن المفقع وبديع الزمان الهمداني، قال عنه العقاد: "لقد كان المنفلوطي أحد أولئك القلائل الذين أدخلوا "المعنى والقصد"في الإنشاء العربي، بعد أن أذهب من كل معنى، وضل به الكاتبون عن كل قصة".

 

 

خلقت الكتابة السردية عند المنفلوطي مفهوم النص الأدبي المعاصر، حيث استطاع خلق تطابق بين ذاته كمؤلف وبين القارئ كمتلقي، عبر أساليب جمالية وفنية عكسها الأسلوب الإنشائي الذي صاغ به روايات الأدب الفرنسي المترجمة، فوصفه حسن الزيات في كتاب تاريخ الأدب العربي، حيث قال: "كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه، فهو مؤلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر."

 

 

"وما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق، والهواء المتردد الذي يهب الإنسان حياته وقوته".

 

 

 

ماجدولين هي المرأة التي كانت قصتها في رواية "تحت ظلال الزيزفون"؛ تدور فصول الرواية حول قصة حب نشأت بين فتاة قروية وشاب غني؛ هذا الأخير الذي رفض الزواج بدافع المال والثروة، فيهاجر ليعيش حياة الفقراء في غرفة بالإيجار في بيت ماجدولين. بلغة متفردة يسرد المنفلوطي هذه القصة، فيجرّ القارئ للبحث عن مدلولاتها الأخلاقية، متجاوزًا بها البعد المتعوي والترفيهي، ومستدعيًا فيها المغزى الأخلاقي عبر قصة ماجدولين وستيف؛ فالحياة الرغيدة تتطلب التمسك بمفهوم الحب النقي، أما الثروة فليست  بالطريقة الأمثل للبحث عن الهناء دائمًا في هذه الحياة.

 

 

 

"لأن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أن السعادة من الطريق الذي ألفوه واعتادوه؛ فهم لا يصدقون أن قومًا فقراء متقشفين يعيشون في أرض قفرة جرداء منقطعة عن العالم بأجمعه قد استطاعوا أن يكونوا سعداء من طريقة الفضيلة والبساطة."

 

 

 

رواية "بول وفرجيني"أو"الفضيلة"هي من الروايات التي راهن بها المنفلوطي على الطابع الوظيفي الاجتماعي الذي يؤذيه في تعريبه لروايات الأدب الفرنسي، عبر عوالم من الصفاء  والجمال، سرد فيها قصة بول وفرجيني؛ عائلاتان نزحتا إلى الطبيعة، فقاومتا تداعيات الاستعمار وحقبته، وبساطة الحياة في جزيرة فقيرة، عبر تمسكهما بالفضيلة كمنهج حياة.

 

 

قال عن الرواية الكاتب الفرنسي شاتوبريان: "إن السحر الذي يشعع من سطور هذا الكتاب ليس غير عظة تتلألأ في ثناياها، تحكي تألق القمر فوق عزلة مزدانة بالزهور."

 

تعود مصطفى لطفي المنفلوطي في كتاباته على تتبع مسالك الإبداع لتقديم خطاب إنساني من أجل إصلاح المجتمع؛ خطاب انطلق من ذاته ووجدانه نحو الوجدان العام.

 

 

عبر تلاقح معرفيّ عرّب المنفلوطي روايات الأخلاق والإنسان المهمش من الأدب الفرنسي، حيث دعا إلى أخذ ما هو أخلاقي وما يشمل الإصلاح العام للمؤسسات الاجتماعية من العادات الغربية والمجتمع الغربي إلى العالم العربي عموما ومصر خصوصًا.

 

 

"سلام عليك أيها الولد الطيب الكريم الذي لا ينال الناس بشر ولا يعتقد في الناس شرًا، ولا يضمر إلا الوفاء والإخلاص حتى لكلبه وشاته والكوخ الذي يؤويه، والظل الذي يفئ عليه".

 

 

 

 

التحوُّل فجأة من الصداقة إلى الحب: رسائل سارتر إلى سيمون دي بوفوار

$
0
0

 

 

"أنا أحترفُ حُبِّي لكِ وأحوِّله لداخلي كجزء مُتأصِّل مني."

 

 

كمُعجب برسائل الحُب المُذهلة، خاصَّة تلك التي بين الأزواج الذين يُمثِّلون القوى الفكريَّة والإبداعيَّة في التاريخ؛ مثل تلك بين فريدا كالو ودييغو ريفيرا، فرجينيا وولف وفيتا ساكفيل-ويست، جورجيا أوكييف وألفريد ستيغليتس، تشارلز وراي إيمز، وهنري ميلر وأنيس نين، كنت سعيدًا بإيجاد جوهرة من الفيسلوف الوجودي الفرنسي، الأسطورة، الروائي والناشط السياسي جان بول سارتر (21 حُزيران 1905 – 15 نيسان 1980) للكاتبة الفرنسيَّة المُحتفى بها والمفُكِّرة واضعة نظريَّة الحركة النسويَّة سيمون دي بوفوار (9 كانون الثاني 1908 – 14 نيسان 1986). اقرأ أيضًا: لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات الرومانسيَّة؟

 

 

 

في هذه الرسائل الجميلة من ربيع عام 1929، والتي وُجِدت في المجموعة الرائعة شاهد على حياتي: رسائل جان بول سارتر لسيمون دي بوفوار، 1926 – 1939، يكتُب جان بول ذو الأربعة والعشرين عامًا لسيمون دي بوفوار ذات الواحد والعشرين عامًا، -والتي ستُصبح سيِّدة في كتابة رسائل الانفصال-، في فجر قصَّتِهما الغراميَّة، بعد أن طلب الزواج منها ورفضته، وبدلًا من هذا تابع الاثنان علاقتهما المفتوحة الشهيرة التي دامت مدى حياتيهما. اقرأ أيضًا: حكاية حطام عشق في رواية "ظلال العشق".

 

 

 

فتاتي الصغيرة العزيزة،

 

لوقت طويل انتظرتُ أن أكتب لكِ، في المساء بعد واحدة من تلك النُزهات مع الأصدقاء التي سأصفها عن قريب في "هزيمة"، ذاك النوع حيث يكون العالم لنا، وقد أردتُ أن أُحضر لكِ فرحة المُنتصر وأضعها تحت قدميكِ كما فعلوا في عهد ملك الشمس، ولكنَّني عندما أتعبُ من الصراخ أذهب دائمًا للنوم، واليوم أنا أقوم بهذا لأشعر بلذَّة لا تعرفينها بعد، لذَّة التحوُّل فجأة من الصداقة للحُب، من القوَّة للرقَّة؛ هذه الليلة أُحبِّكِ بطريقة لم تعرفيها بي بعد، فأنا لستُ مُتعبًا من السفر ولا ملفوف برغبتي بحضورك، أنا أحترف حُبِّي لكِ وأحوِّلُه داخلي كجزء مُتأصِّل منِّي؛ يحدُث هذا أكثر بكثير مما أعترف به لكِ ولكن نادرًا وأنا أكتبُ إليكِ، حاولي أن تفهميني؛ أنا أُحبِّكِ بينما أنتبه للأشياء الخارجيَّة، أحببتكِ ببساطة في تولوز، والليلة أُحبُّكِ كمساء ربيعي، أُحبُّكِ والنافذة مفتوحة، فأنتِ لي والأشياء لي ولكنَّ حُبِّي لكِ يُعدِّل الأشياء حولي وتُعدِّل الأشياء حولي حُبِّي لكِ. اقرأ أيضًا: محاضرات حول الحب والعدالة.

 

 

فتاتي الصغيرة العزيزة، أخبرتكِ ما ينقُصكِ في الصداقة، ولكن الآن وقتُ نصيحة عمليَّة أكثر، ألا تستطيعين إيجاد صديقة امرأة؟ كيف بإمكان تولتوز ألا تحتوي على امرأة مُفكِّرة واحدة تستحقكِ؟ ولكن ليس عليكِ أن تُحبيها، فأنتِ للأسف دائمًا مُستعِدَّة لتُعطي حُبَّك وهو أسهل ما يُمكن أخذه منك، وأنا لا أتحدَّث عن حُبِّكِ لي، والذي يتخطَى ذلك، ولكنَّكِ مُبذِّرة بمحبَّتكِ الثانويَّة، مثل تلك الليلة في تيافيريز عندما أحببتِ الفلَّاح الذي كان ينزل التل في الظلام مُصفِّرًا والذي اتضح أنَّه كان أنا. حاولي أن تعرفي الشعور الخالي من الرِّقة الذي يأتي من أن تكونا شخصين، إنَّ الأمر صعب لأنَّ كُل الصداقات حتى تلك التي بين رجلين بدم أحمر فيها لحظات من الحُب، فعلي أن أواسي صديقي الحزين فقط لأحبَّه، إنَّه شعور يضعُف بسهولة ويُشوَّه، ولكنَّكِ قادرة أن تشعري به ويجبُ عليكِ أن تُجربيه، ومع هذا ورُغم شعورك بكراهيَّة الناس، أتتخيَّلين كم ستكون تجربة جميلة أن تبحثي في تولوز عن امرأة تستحقك ولا تقعين في حُبِّها؟ لا تلتفتي للجانب الجسدي أو الاجتماعي للموقف، وابحثي عن الصدق وإن لم تجدي شيئًا فحوِّلي لهنري بون والذي لا تُحبينه بعد الآن إلى صديق. [...] اقرأ أيضًا: أصل الحب في كتاب "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف".

 

أُحبُّكِ بكل قلبي وروحي.

 

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

اقرأ أيضًا:

الحب، قدرٌ يتربص خلف الباب

 

15 هدية مبتكرة لمحبي القراءة

قراءة الذات في الأدب والسينما

لماذا تتغيّب مشاهد الولادة عن الأدب؟

 

 

 

 

التوازن الصعب بين الحميمية والاستقلالية: جبران عن سرِّ دوام الحُبّ

$
0
0

 

 

 

"أحِبّا بعضكما، لكن لا تُقيِّدا المحبّةَ بالقيود، لِتكُن المحبّة بَحرًا متموِّجًا بين شواطئ نفسَيكما."

 

"ما نفع الوقوع في الحب إذا لم يحرك ما في داخلكم؟"سألت ماري مكارثي صديقتها هانا أريندت خلال تراسلهما عن الحب. هذا السؤال يدور في الأذهان لأنه يتطرق إلى نقطة أساسية في الحب، أصدقه وأكثره قوة.

 

دائمًا ما يغيرنا الحب، يشفينا من أمراضنا الموجعة، يرفعنا إلى الأعلى، نحو أقصى قدراتنا الإنسانية. وكما كتب الرئيس السابق للولايات المتحدة باراك أوباما في تأملاته عما علمته أمه عن الحب، يسمح لنا الحب "أن نخترق عزلتنا وإن حالفنا الحظ نتحول أخيرًا إلى شيء أكثر قوة."اقرأ أيضًا: التحوُّل فجأة من الصداقة إلى الحب: رسائل سارتر إلى سيمون دي بوفوار.

 

 

لكن في الأيدولوجية الرومانسية المبنية عليها اعتقاداتنا الحديثة عن الحب، قوة العلاقة تؤخذ إلى أبعد ما يمكن بحيث يحاول كل من الطرفين الذوبان في شخصية الآخر، وهنا يعود الحب هشًا، فعندما يشترك الحبيبان معًا بشكل كامل، وبقرب، يصبح هذا الالتحام واعتمادهما على بعضهما كالشلل، وتتغير هذه القوة الكلسية لتصبح معرضة للكسر في حال النمو.

 

في أسمى أنواع الحب تتواجد العلاقة التبادلية بالأفكار والمشاعر، مع فردية واستقلالية تامة، وكلا العاملين يتغيران بسلاسة ومرونة. اقرأ أيضًا: لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات الرومانسيَّة؟

 

الفيلسوف مارتن هايدغر صور ذلك بطريقة رائعة في رسائل الحب لهانا:

 

"لماذا يكون الحب غني بالمقارنة مع كافة التجارب الإنسانية المحتملة، وعبئ بمذاق حلو لمن هم مأسورون في شباكه؟ لأننا نصبح ما نحب ولكن نبقي أنفسنا."

 

 

 

يستكشف جبران خليل جبران (6 يناير 1883-  10 ابريل 1931) الشاعر والفيلسوف والرسام اللبناني، برؤية غير مألوفة وبدقة شعرية هذا التوازن الصعب بين الحميمية والاستقلالية في نص من تحفته الفنية؛ النبي- 1923. اقرأ أيضًا: حكاية حطام عشق في رواية "ظلال العشق".

 

 

كنصيحة، لسر بقاء الحب بين الأزواج، يقول جبران:

 

"ولكن فليكن بين وجودكم معًا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم.

أحبوا بعضكم بعضًا ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموجًا بين شواطئ نفوسكم.

ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه ولكن لا تشربوا من كأس واحدة، أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه ولكن لا تأكلوا من رغيف واحد.

غنوا، ارقصوا معًا، كونوا فرحين أبدًا، ولكن فليكن كل منكم على حده؛ كما أن أوتار القيثارة يقوم كل منها وحده ولكنها جميعا تخرج نغمًا واحدًا.

ليعط كل منكم قلبه لرفيقه، ولكن حذار أن يكون هذا العطاء لأجل الحفظ؛ لأن يد الحياة وحدها تستطيع أن تحتفظ بقلوبكم.

قفوا معًا، ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا، لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها."

 

 

 

يمكنك -عزيزي القارئ- الاطلاع على عدة أعمال في هذا السياق، منها:

فيرجينيا وولف في ما يجعل الحب يبقي، الفيلسوف آلان باديو في كيف نقع ونبقي في الحب، آنا دوستويفسكي في السر لزواج سعيد، ماري أوليفر في كيف أن الخلافات تجعل الأزواج أقرب معًا، وجوزيف كامبل في العامل الوحيد الأكثر أهمية في الحفاظ على العلاقات الرومانسية، وأيضًا يمكنك زيارة جبران مجددًا في المجنون.

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

اقرأ أيضًا:

أصل الحب في كتاب "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف"

الحب، قدرٌ يتربص خلف الباب

مذهلات توجب قراءة "الحب في زمن الكوليرا"

"عيناها"..رحلة نحو الرواية الإيرانية

 

 

 

 

 

جريمة، في رام الله وما حولها

$
0
0

 

 

 

ها أنا ذا إذًا، سأكتب عن رواية لم أقرأها!

 

كنت على سفر حين قرأت الأخبار المتعلقة بانزعاج السلطة الفلسطينية من رواية للكاتب عبّاد يحيى، وهو -لمن قرأ رواياته الثلاثة السابقة- قد يعدّ من أفضل الكتّاب الشباب في جيله وأكثرهم تجديدًا وابتكارًا في فنّ الرواية.

 

 

قرأت له قبل سنوات "رام الله الشقراء"، وهي رواية كانت كفيلة بإضاءة مساحة كبيرة من الوعي لديّ بشأن المجتمع الفلسطيني في رام الله وإشكالات التحوّل والهويّة والحداثة فيها. كنت أثناء القراءة متخفّفًا كقارئ من أعباء أسلوب السرد الروائي التقليدي وحبكاته المتوقّعة.

 

 

حدث معي ذلك من الصفحة الأولى التي قال فيها عبّاد: "يكفي أن تضغط "Print Out"على أرشيف مراسلاتك في فيسبوك لتكون لديك "رواية"ما"!

 

 

لقد كانت الرواية بالفعل سلسلة من مراسلات بين صحفي فلسطيني شاب في رام الله وفتاة فلسطينية تدرس في مجال الصحّة العامّة. تحدّثت الرواية عن الوجود الأشقر المتزايد في رام الله وعن كلّ تلك الأشياء التي "تحاك مع الأجانب"، وهو كلّ شيء تقريبًا في هذه المدينة.

 

 

لم أتردّد في شراء رواية "القسم 14"التي صدرت عن المركز الثقافي العربي، وهي رواية صغيرة أيضًا ولكنها تنجح، بأسلوب ومضمون جديد، في تسليط الضوء على زاوية مختلفة من عالم "الدكتاتور"العقيد، ذلك العالم الذي تتداخل فيه تعقيدات السلطة وهويّة العسكريّ والمدني وتضخّم "الفحولة"في المجتمع العربي عمومًا.

 

 

لم أنته من قراءة "هاتف عمومي"ثالث روايات عبّاد بعد، مع أنّها على رفوف مكتبتي إلى جانب روايتيه الأوليين منذ فترة، وحال سفري وانتقالي من مكان إلى آخر من إتمامها، كما حال دون أن أقتني "جريمة في الله".

 

 

ما واجهه عبّاد يحيى في الأيّام الماضية لم يعدّ سرًّا، كما أنّه ليس أمرًا يحدث لأوّل مرّة مع روائي أو شاعر في ضيعتنا العربية. ولكنّ ما حصل يكشف عن أمر مريع فينا وبين ظهرانينا، في فقاعاتنا التي تدّعي صنعة الثقافة والأدب.

 

 

لم أقرأ الرواية، ولكنّي لم أتردّد لحظة في التعبير عن موقف رافضٍ من بلطجة السلطة وأغلبيّتها ضدّ كاتب شابّ يحترم صنعته وقضيّته. هذا ما تعلّمته في السنوات الخمس الأخيرة من الثورات والشهداء في عالمنا العربيّ، وهذا هو الدَّين الذي سأحرص على أدائه دومًا.

 

 

أن تقف، لا مع الكلمة وحريّة الكتابة فحسب، بل أن تتخذ موقفًا ثابتًا رافضًا للبلطجة الرسميّة والشعبيّة (بتحريض السلطة) ضد الفرد.

 

 

في الأيّام الماضية، سقطت الكثير من الأقنعة. هوس الآخرين بعفاف المجتمع حين يتعلّق الأمر برواية أو قصيدة ما، شيء مثير للضحك والغضب في آنٍ معًا. الحجّة الأخلاقيّة دائماً "مرهبة"للوهلة الأولى، لأنّها صلبة وقطعيّة، ولكنّها ليست صحيحة ولا نهائيّة بالضرورة حين يكون موضوع النقاش عملًا أدبيًّا ميدان التعامل معه هو الكلمة والحوار، لا الترهيب والمصادرة والتشهير.

 

 

قبل يومين، وأنا في المطار أنتظر رحلة تأخرت ساعتين، تناقشت مع مجموعة من المعارف والأصدقاء عن أمر الرواية ومنعها؛ كان الرأي القاطع لدى كثير منهم هو أنّه لابدّ من مصادرة الرواية وتغريم كاتبها غرامة كبيرة. لم أدر بداية إن كانت نقطة مخالفتي لهم ستحرّك شيئًا في بحر موقفهم القطعي تجاه الأمر.

 

 

فاجأني أيضًا أنّ خمسة أعوام من الثورات العربيّة وسقوط ثلاثة أنظمة في منطقتنا لم تتمكّن من طرد "شيطان"السلطة والاستبداد التي استطاعت "الحلول"فينا، أو في كثيرين منّا.

 

 

كيف لمن آمن بالثورة أن يقف مع سلطة تريد مصادرة كتاب ومعاقبة صاحبه وناشره، وقارئه لو أمكن. كيف لمن وقف يومًا مع حقّ الشعوب بالتحرّر أن يتردّد لحظة في الدفاع عن حقّ الآخرين في الوجود والكلمة، اتّفق معها أم لم يتفق.

 

 

كثيرًا ما كنّا نسمع الآخرين يتندّرون على ما حصل مع نجيب محفوظ حين طعنه شخص بعد منع النظام في مصر نشر روايته "أولاد حارتنا"، وتبيّن أثناء المحاكمة أنّ ذلك الرجل لم يقرأ الرواية. والأمر ذاته يتكرّر بصورة مكبّرة ازداد عفنها وانتفاخها. الكاتب يتلقّى تهديدات بالاعتقال والإيذاء والملاحقة على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعيّ، في تعاضد غرائبي مع السلطة التي ضيّعت البلاد والعباد. كثير من الكتّاب والمثقّفين الشباب وبعض كبار المثقفين عبّروا عن تضامنهم مع عبّاد يحيى، لكن الذي حدث يتطلّب وقفة أكبر وقدرة على تحمّل المسؤولية أمام طغيان أدوات السلطة التي ترغب في تصفية حساباتها باستخدام مقصلة "الأخلاق"وحجّة الحفاظ على "طهارة"المجتمع.

 

 

إنّها جريمة في رام الله، وما حولها.

رواية جريمة في رام الله وما حولها

$
0
0

 

 

 

ها أنا ذا إذًا، سأكتب عن رواية لم أقرأها!

 

كنت على سفر حين قرأت الأخبار المتعلقة بانزعاج السلطة الفلسطينية من رواية للكاتب عبّاد يحيى، وهو -لمن قرأ رواياته الثلاثة السابقة- قد يعدّ من أفضل الكتّاب الشباب في جيله وأكثرهم تجديدًا وابتكارًا في فنّ الرواية.

 

 

قرأت له قبل سنوات "رام الله الشقراء"، وهي رواية كانت كفيلة بإضاءة مساحة كبيرة من الوعي لديّ بشأن المجتمع الفلسطيني في رام الله وإشكالات التحوّل والهويّة والحداثة فيها. كنت أثناء القراءة متخفّفًا كقارئ من أعباء أسلوب السرد الروائي التقليدي وحبكاته المتوقّعة.

 

 

حدث معي ذلك من الصفحة الأولى التي قال فيها عبّاد: "يكفي أن تضغط "Print Out"على أرشيف مراسلاتك في فيسبوك لتكون لديك "رواية"ما"!

 

 

لقد كانت الرواية بالفعل سلسلة من مراسلات بين صحفي فلسطيني شاب في رام الله وفتاة فلسطينية تدرس في مجال الصحّة العامّة. تحدّثت الرواية عن الوجود الأشقر المتزايد في رام الله وعن كلّ تلك الأشياء التي "تحاك مع الأجانب"، وهو كلّ شيء تقريبًا في هذه المدينة.

 

 

لم أتردّد في شراء رواية "القسم 14"التي صدرت عن المركز الثقافي العربي، وهي رواية صغيرة أيضًا ولكنها تنجح، بأسلوب ومضمون جديد، في تسليط الضوء على زاوية مختلفة من عالم "الدكتاتور"العقيد، ذلك العالم الذي تتداخل فيه تعقيدات السلطة وهويّة العسكريّ والمدني وتضخّم "الفحولة"في المجتمع العربي عمومًا.

 

 

لم أنته من قراءة "هاتف عمومي"ثالث روايات عبّاد بعد، مع أنّها على رفوف مكتبتي إلى جانب روايتيه الأوليين منذ فترة، وحال سفري وانتقالي من مكان إلى آخر من إتمامها، كما حال دون أن أقتني "جريمة في الله".

 

ما واجهه عبّاد يحيى في الأيّام الماضية بخصوص رواية جريمة في رام الله لم يعدّ سرًّا، كما أنّه ليس أمرًا يحدث لأوّل مرّة مع روائي أو شاعر في ضيعتنا العربية. ولكنّ ما حصل يكشف عن أمر مريع فينا وبين ظهرانينا، في فقاعاتنا التي تدّعي صنعة الثقافة والأدب.

اقرأ أيضاً: جريمة في رام الله؛ نافذة على عالم مغلق

 

لم أقرأ الرواية، ولكنّي لم أتردّد لحظة في التعبير عن موقف رافضٍ من بلطجة السلطة وأغلبيّتها ضدّ كاتب شابّ يحترم صنعته وقضيّته. هذا ما تعلّمته في السنوات الخمس الأخيرة من الثورات والشهداء في عالمنا العربيّ، وهذا هو الدَّين الذي سأحرص على أدائه دومًا.

 

أن تقف، لا مع الكلمة وحريّة الكتابة فحسب، بل أن تتخذ موقفًا ثابتًا رافضًا للبلطجة الرسميّة والشعبيّة (بتحريض السلطة) ضد الفرد.

 

 

في الأيّام الماضية، سقطت الكثير من الأقنعة. هوس الآخرين بعفاف المجتمع حين يتعلّق الأمر برواية أو قصيدة ما، شيء مثير للضحك والغضب في آنٍ معًا. الحجّة الأخلاقيّة دائماً "مرهبة"للوهلة الأولى، لأنّها صلبة وقطعيّة، ولكنّها ليست صحيحة ولا نهائيّة بالضرورة حين يكون موضوع النقاش عملًا أدبيًّا ميدان التعامل معه هو الكلمة والحوار، لا الترهيب والمصادرة والتشهير.

 

 

قبل يومين، وأنا في المطار أنتظر رحلة تأخرت ساعتين، تناقشت مع مجموعة من المعارف والأصدقاء عن أمر رواية جريمة في رام الله ومنعها؛ كان الرأي القاطع لدى كثير منهم هو أنّه لابدّ من مصادرة الرواية وتغريم كاتبها غرامة كبيرة. لم أدر بداية إن كانت نقطة مخالفتي لهم ستحرّك شيئًا في بحر موقفهم القطعي تجاه الأمر.

 

فاجأني أيضًا أنّ خمسة أعوام من الثورات العربيّة وسقوط ثلاثة أنظمة في منطقتنا لم تتمكّن من طرد "شيطان"السلطة والاستبداد التي استطاعت "الحلول"فينا، أو في كثيرين منّا.

 

 

كيف لمن آمن بالثورة أن يقف مع سلطة تريد مصادرة كتاب ومعاقبة صاحبه وناشره، وقارئه لو أمكن. كيف لمن وقف يومًا مع حقّ الشعوب بالتحرّر أن يتردّد لحظة في الدفاع عن حقّ الآخرين في الوجود والكلمة، اتّفق معها أم لم يتفق.

 

 

كثيرًا ما كنّا نسمع الآخرين يتندّرون على ما حصل مع نجيب محفوظ حين طعنه شخص بعد منع النظام في مصر نشر روايته "أولاد حارتنا"، وتبيّن أثناء المحاكمة أنّ ذلك الرجل لم يقرأ الرواية. والأمر ذاته يتكرّر بصورة مكبّرة ازداد عفنها وانتفاخها. الكاتب يتلقّى تهديدات بالاعتقال والإيذاء والملاحقة على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعيّ، في تعاضد غرائبي مع السلطة التي ضيّعت البلاد والعباد. كثير من الكتّاب والمثقّفين الشباب وبعض كبار المثقفين عبّروا عن تضامنهم مع عبّاد يحيى، لكن الذي حدث يتطلّب وقفة أكبر وقدرة على تحمّل المسؤولية أمام طغيان أدوات السلطة التي ترغب في تصفية حساباتها باستخدام مقصلة "الأخلاق"وحجّة الحفاظ على "طهارة"المجتمع.

 

 

إنّها جريمة في رام الله، وما حولها.

فن المُراجعة: معظم ما تكتبه يجب حذفه

$
0
0

 

 

تشارلز جونسن: كيف تنحت قصة؟ 

 

"يجب أن يكون في الخيال أساس نظري لأدق التفاصيل؛ حتى القفاز الواحد يجب أن يمتلك نظريته."

 بروسبير ميريميه

 

 

"الكتاب الكلاسيكي هو كتاب لا يجدر إعادة صياغته مرة أخرى"

فان دورن

 

 

 

ذات مرة قال لي مُدقق كتاباتي لأكثر من 30 سنة، الراحل جون جارندر، قصة حول المراجعة تنطبق عليّ، حيث قال أنه بينما كان يقدم بعض القراءات ضمن برنامج سؤال وجواب، رفعت إحدى الحاضرات يدها و قالت: "هل تعرف أنيّ أُحب كتاباتك لكنني أظن أن شخصيتك لا تروق لي"، كان رد جارندر لا يُنسى حيث قال:

 

 

"أنت مُصيبة بانطباعك، هذا لأني أُقدم نفسي بشكل جيد عندما أكتب، أما الآن وبينما أتحدث إليكم بشكل مباشر وبالعلن لا أستطيع مراجعة كلامي، لو أني تفوهت بكلام خاطئ أو غير صحيح بالمُجمل أو فيه شيء من التَحامل قد يسبب الأذى لأحدهم لا يمكنني التراجع عم ما تفوهت به، واعتمادي على مراجعة كلامي وتصححيه يقع على الحضور، لكن عندما أكتب يمكنني مراجعة ما أفكر به مرارًا و تكرارًا حتى أصوغه بشكل مُناسب."

 

 

 

أعتقد أن جارندر أحاط بالعملية الإبداعية بكل حيثياتها؛ فكثير من نسمع أن 90% من الكتابة الجيدة هو نتاج إعادة الكتابة. كما أن الكتابة الجيدة تُشبه التفكير الجيد؛ فنحن نُريد من نتاجنا الأدبي كالرواية أو القصة أو حتى المقال أن يعكس أفضل ما في  أفكارنا ومشاعرنا وتقنيات الكتابة التي نتبع.

 

 

عندما قمت بتأليف أول مشروع كتابيّ لي، سمحت لكل ما اعتراني من مشاعر وأفكار أن يخرج على المُسودة و بشكل عشوائي. لثقتي بموهبتي تركت كل ما خرج مني من أفكار ومشاعر بحالة فوضى حتى نضبت مني الكلمات. لا بأس أن تكون المسودة الأولية عبارة كارثة؛ فأنا عند الكتابة لا أضع رقابة على نفسي. عندما يكون لدي مسودة أولية يمكني أن أقرر فيما إذا كانت الفكرة تستحق بذل المزيد من الجهد، إن كانت كذلك؛ ففي المسودة الثانية أقوم بتصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية، كما أنني أُضيف أي شيء نسيت إضافته في المسودة الأولية وأحذف ما لا يتوافق مع الفكرة.

 

 

المتعة الحقيقة تبدأ مع المسودة الثالثة؛ وعلى الرغم من جدية الأمر، إلّا أن الفن يجب يكون شكلًا من اللعب، وهذا ما اتّبعته عند العمل على ما أدركته من جوانب الضعف الإبداعي لدي -وهي كثيرة-، لكن دعوني أصب تركيزي على جانب واحد وهو الوصف الشعري وتحقيق ما أسماه جيرارد مانلي هوبكنز بالتفرد والتميز الذي اصطلح عليه بكلمة inscape، وبلورة الأحداث من تفاصيل التفاصيل.

 

 

في بداية الأمر أرسم الأحداث بمخليتي كرسام كاريكاتير أو مصور، ومثل معظم الكتاب فإن السواد الأعظم من صوري تمثل المشهد.

 

 

ما أعتقده أننا لا شعوريًا نتحيّز للصور البصرية، فنحن نقول "نحن نرى الحقيقة أو نسمعها"ولا نعبر عن ذلك بأننا نلمس أو نشعر، وعليه أعمل بالمسودة الثالثة بكل وعي لتعبر الصور عن كل حواس الإنسان؛ التذوق، الشم واللمس بقدر الإمكان، وإذا لزم الأمر سوف ألجأ لتزامن الحواس أو التعبير عن تجربة بواحدة من المشاعر  باستخدام لغة أجنبية أو المحاكاة الصوتية أو المحاكاة الصوتية مع طعم ورائحة، فعلى سبيل المثال؛ لتحقيق هدفي لوصف الرائحة سأتّبع ما قام به الكاتب أبتون سنكلير في فصل الحظائر من رواية الغابة، وبالنسبة للصوت سأتبع معالجة باتريك هيرن.

 

 

الكتاب الذي ساعدني كثيرًا في تخطي هذه المسألة عندما بدأت الكتابة لأول مرة، كان كتاب The Art of Description by Marjorie H. Nicolson New .

 

 

كما أن لدي مشكلة أخرى؛ مرحلة الفكرة، فأحيانًا أبدأ بعدد كبير من الأفكار، وقبل أن أبدأ بالكتابة تضُج أفكاري بكثير من القصص المُحتملة وجوانب مختلفة من المعاني وأمور أود التطرق لها، أقوم بتدوينها بالسرعة التي ترد في خاطري. ولكن بعد ذلك وفي مرحلة ما أدرك أن القليل منها يُعد كثير عند التخطيط لكتابة قصة وبالذات في حال أراد أن تكون القصة بالإجمال مُقتضبة، مؤثرة ومترابطة. بطبيعة الحال يتوجب عليّ دائمًا الاختصار والبحث عن عمل بسيط ذو بنية مشوقة مُثيرة للتساؤل المنطقي والمُستهجن وموضوع  يضج بالمشاعر النقية، أي ما يجب التركيز عليه وما يجب تجاهله؛ بناءً على ذلك قررت ثم تعلمت كيفية استبدال الفكرة المُهملة بطريقة جديدة في تكوينها.

 

 

أبدأ في المسودة الثالثة بصقل الجمل والفقرات ضمن نمط. و دائمًا ما أحتاج للمسودات الثلاث –هذا فقط لو حالفني الحظ- قبل أن أحصل على ما يستحق أن يُعرض على الآخرين، أتمنى ألّا يساء فهمي؛ فالمسودات كيانات غير منفصلة عن النسخة النهائية، تكمل بعضها البعض، فأنا باستمرار أُعيد النظر في بداية القصة بينما أعمل على الوسط والنهاية. أحيانًا تكون النسبة صفحة محفوظة مقابل عشرين صفحة محذوفة، هذا ينطبق على المسودة الثالثة وما بعدها.

 

 

أستخدم أنماط متنوعة من الجمل من حيث الطول في كل فقرة، وأنماط متنوعة من حيث الشكل؛ بسيطة، مركبة، معقد، فضفاضة ومكررة؛ بحيث أرى كل جملة على أنها وحدة طاقة متكاملة. يجب أيضًا أن ترتبط الموسيقى والمعنى في كل جملة بما هو قادم من أحداث وأن تسهم فيها بشكل إيقاعي أكبر.

 

 

أحاول التأكد من أن كل فقرة تستحق أن تكون موجودة، بحيث أن تحتوي كل فقرة على الأقل فكرة واحدة جيدة، أو القيام بشيء ما لتحسين القصة أو إثراء المكان الذي تحدث فيه بالتفاصيل أو السكان، بحيث أقدّم عملًا فنيًا خالصًا، أبرز فيه دور الراوي بشكل كبير، أُضمّنه كثافة فكرية وتصويرية. -بطبيعة الحال- أسعى لتحقيق الإحساس بالانسياب الطبيعي للفكرة ، أُعيد صياغة وتحرير ما كتبت حتى تخلو القطع جميعها من الجمل الزائدة غير الضرورية نهائيًا، أو أي شيء يبطئ من وتيرة القصة؛ أي جملة  تستحق الحذف يجب أن تُحذف.

 

 

تخلص من جملك المُفضلة قدر الإمكان، إلا إذا كنت فعلاً تحبها، يجب أن يخلو العمل من الحشو الأدبي والإطالة في مسارات الأحداث ومن إسهاب التفاصيل في المشاهد الصغيرة التي لا تتسق مع وصف خلفية الأحداث؛ أرغب أن يكون كل تفصيل ملحوظ بصورة جيدة؛ أي الوضوح من حيث الشخصيات، المكان والحدث، كما أعمل على إيجاد وحدة إيقاع موسيقية بين الجمل والفقرات؛ ويكون الحكم على ذلك بالقراءة جهرًا، في حال تعثرت أثناء قراءة العمل أعلم بأن الجمل التي أعاقت قراءتي تحتاج إلى إعادة صياغة، كما أحاول أن أجعل اللغة الجامدة أكثر سلاسة وأتعامل معها ببعض الخصوصية؛ فالغموض عادة يمكن في التفاصيل.

 

 

أثناء إعادة الصياغة والتنقيح أحاول تذكر ملاحظة وضعتها لنفسي في دفاتر ملاحظات الكاتب الخاصة بي، وهي "أن العنصر الرئيسي في أساس التشويق الرائع هو مزج الشخصية مع الحدث، مزج  تفاعلاتهما، حيث أن الشخصية تساهم في تكشف الأحداث، والأحداث تسهم في تحقيق حضور الشخصية، فعلى المرء أن يعلم كيف بمقدور الحدث تغير الشخصية وإن وجد هذا الحدث بفعل الشخصية.

 

 

 

الشخصية هي المحرك لحبكة القصة، على مدى سنوات توصلت لخلق شخصيات من عدد محدود من زوايا:

  1.  بالاعتماد على  فكرة  أو أساس القصة.
  2.  بالاقتباس من شخصيات حقيقة أو أفراد معينين أو دمج مجموعة منهم لاستخلاص شخصية واحدة.
  3.   بالاعتماد على  شخصيتي.
  4.   بالاعتماد على السيرة الشخصية  لعلم من أعلام التاريخ.

 

 

 

في كثير من الأحيان أجمع بين كل هذه الأساليب في شخصيات قصتي. بالنسبة لي المراجعة هي مزيج من التنقيح؛ كأنك تنحت الجملة من الصخر ومن تضمين اللغة عدة معاني؛ كأن الجملة صلصال بين يديك، وجزئية  التضمين هذه هي عملية تؤدي بالغالب إلى خلق عنصر المفاجأة والتورية والإيحاءات والإلهام وهذا ما أسعى إليه.

 

 

 

من المعلوم أنه بعد الانتهاء من العمل لا يمكنك حذف جملة أو تغير كلمة أو لفظ، وإذا كنت تكتب جملًا مصقولة بحرفية فإنك تخلق فجوة بوسع الكون بين الجملة ما قبل الصقل وما بعده، حيث أنك لم تقم بتغير المعنى فقط بل بتغير الإيقاع الذي يربط الجمل ببعضها؛ كأنك تنزع يد إنسان، مما يؤثر على كل جوانب حياة هذا الشخص. تحقيق هذا يتطلب مني على الصعيد الشخصي أن أتخلص من الكثير من الصفحات؛ 1200 صفحة من الإيمان والشيء الجيد، 2400 من حكاية الثيران العشرة ، 3000 صفحة من رواية الممر الأوسط وأكثر من 3000 صفحة من رواية الحالم، أستخدم هذا الأسلوب أيضًا مع القصص القصيرة.

 

 

 

 

أعتقد أنني لا أكتب الكثير من القصص بقدر ما أنحتها؛ أحب التركيز المتواصل الذي يتطلب بالمقام الأول الكثير من التأمل التقليدي واستدعاء التركيز.

لقد بدأت كتابة المذكرات بعمر الثانية عشر، وكان هذا اقتراح من والدتي حتى تتمكن من معرفة الأسرار والمشاعر التي أُخفيها عنها، أتذكر مرة على العشاء سألتني: "لماذا لا تحب عمك...؟"، قلت لنفسي حينها: "اللعنة لا بد أنها قارِئُة أفْكار"، ثم أدركت أنها تقوم بقراءة مذكراتي، منذئذ قمت بإخفاءها عنها. في الجامعة تحولت المذكرات إلى ما يشبه المجلة، لما كنت أكتبه لنفسي من الشعر والمقالات القصيرة، محاولًا إعطاء معنى للأحداث اليومية، هذه المجلات القديمة تشغل حيزًا كبيرًا في مكتبتي، وعندما بدأت بكتابة القصص الخيالية كانت هذه المجلات بمثابة مادة  للكتابة ومُحفز للذاكرة.

 

 

أستخدم دفاتر سلكية غير مسطرة  ورخيصة الثمن، كل صفحة فيها عبارة عن لوحة رسم بيضاء، عليها أكتب حرفيًا كل شيء من تجارب أو أفكار تستحق التذكر خلال اليوم، أقوم بتدوين الصور والعبارات التي يستخدمها أصدقائي، مقتطفات من أفكار، حوارات مُسترقة، أو أي شيء قد يُشير إلى شيء ما قرأته.

 

 

منذ عام 1972 ودفاتر الكتابة هذه تصطف على أرفف مكتبي، جنبًا إلى جنب مع دفاتر الدراسة التي احتفظت بها من أيام الجامعة؛ إنه لشيء مُحرج أن تحتفظ بكل شيء. تحتوي دفاتر الملاحظات بعد 43 سنة من تراكم الخبرات على عدد لا حصر له من المواضيع. وعندما أمتلك مسودة ثالثة جيدة، أشرع بإمعان بتصفح دفاتري صفحة تلو الصفحة؛ أتصيد الأفكار والصور التي سبق وكتبتها أو الأفكار حول الشخصيات من الملاحظات التي دونتها عن الناس المحيطين بي، أختار التفاصيل  منها بعناية فائقة كمن يقوم بترتيب حديقة الصخور اليابانية، وعلى الرغم أن هذا قد يستغرق 8 ساعات عمل لمدة 5 أيام، وأحيانًا قد يصل إلى أسبوعين للاطلاع على كل تلك الدفاتر و المجلدات، حيث أنني أضيف كل يوم دفترًا جديدًا.

 

 

 

بكل يقين أعتقد أنني سأجد جملةً أو عبارة كتبتها منذ عشرين أو ثلاثين سنة تصلح لرواية أو قصة أعمل عليها حاليًا.

 

 

تقوم المجلة الأدبية Zyzzyva بالعادة بإصدار عدد مميز تحت عنوان "دفتر الكاتب". إذا ألقيتم نظرة على العدد خريف 1992 من صفحة 43 إلى صفحة 124 ستجد نسخ مُنقحة من ملاحظاتي والمسودة الأولية لرواية الممر الأوسط بالإضافة إلى ملاحظات عن شخصية الكابتن ابينزار فالكون التي كُتبت على ورق فندق الشيراتون في سان فرانسيسكو عندما كنت في طريقي لرحلة.

 

 

عندما أُخبر الطلاب بطرفة عن جارندر فأنا أؤكد على أن مشاعره التي هي نتاج عملية مراجعة مُضنية والتي قد يمرون بها مرة واحدة على الأقل في حياتهم مُلخصه بصفحة واحدة، بإمكانهم تحقيق الكمال وما هو قريب منه إذا كانوا على استعداد لمراجعة وإعادة تصور أعمالهم مطولاً. ثم أقول:

 

 

"في أي مجال آخر في الحياة نمتلك الفرصة، الأفضلية والقدرة لإعادة المرور على شيء ما بمحبة وإيثار مرة تلو الأخرى إلى أن يتجسد لنا كما فكرنا وشعرنا به، بأفضل تعبير لدينا، أفضل تصور في إيضاحه وبأفضل ما نملك من الحرفة."    

 

 

 

أو كما قال جيفري ألن في مقابلة عن روايته أغنيته الجذع:

 

 

"أنا بذلت قصارى جهدي لتكون صادقة، قد يكون الفن هو الشكل الوحيد من الكمال المتاح للإنسان، وخلق الأعمال الفنية هو الشيء الوحيد في الحياة الذي نملك السيطرة عليه تمامًا، لذلك يحق لنا أن نسأل، كيف يتم قياس العظمة؟ فالحرفة واحدة لدى الجميع، يروق لي الاعتقاد بأن أعمال فنية معينة هي من تصنع الفنان."

 

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا. 

 

 

 

 

"مرسى فاطمة"لحجي جابر: تيه، عبور وأرض موعودة

$
0
0

 

 

 

حجي جابر الكاتب أريتري المولد، سعودي النشأة، حالة مميزة في الأدب العربي المعاصر -على الأقل ما كتب منه بالعربية-؛ فازدواجية هويته وانتماءه المتأرجح بين بعدين ثقافيين أفريقي وعربي، وما لهذين البعدين من تواريخ مشتركةٍ حينًا ومتنافرة أحيانًا، ولغاتٍ وثقافات وتقاليد، تمكنه من وضع الحالة الأريترية تحت المجهر، مستعينًا بلغةٍ سلسة وأسلوب لا يستعصي على القراء على اختلاف مستوياتهم.

 

 

يشاركه القراء رحلته التي تنطلق من رغبته الشخصية في اكتشاف البعد الأريتري من هويته، من خلال رواياته الثلاث، الصادرة عن المركز الثقافي العربي،  ففي "سمراويت" (2012) براءةُ الاكتشاف، و في "مرسى فاطمة " (2013) سطوة التاريخ و قسوة الواقع، وفي "لعبة المغزل" (2015) محاولة كتابة تاريخٍ مغاير.

 

 

كما تتميز أعمال جابر ببنى قصصية محكمة تتمحور حول التيه والأرض الموعودة، وما بينهما من مشقة وغربة وعناء، وشخصيات مميزة يختزلها في الابن/الابنة الضالة والوطن المرأة/الرجل، لتفتح المجال للتساؤل بشأن الأوطان والانتماءات، فهي متعددة في "مرسى فاطمة"التي أخصص لها هذه المراجعة.

 

 

إذ يُعَلِمُ القارئ على خارطة "مرسى فاطمة"عبر فصولها الخمسة رحلة الشخصية الرئيسة من قندع شرق البلاد –انطلاقًا من زمنٍ يبدو بعيدًا: زمن ما قبل "سلمى"- إلى العاصمة أسمرا، مرورًا بأشباه دول في معسكر ساوا ودولة الشِفتا، وصولاً إلى أقصى الغرب في تسني، قبل العبور إلى السودان، ومن ثم تقفي الآثار عودة إلى حيث الانطلاقة من"مرسى فاطمة".

 

 

يبدأ تيه راوينا، مجهول الاسم و الهوية، في وطنه، بحثًا عنه، وما أن يجده في "سلمى"الحبيبة التي تُجسد في جمالها وصخبها وحبها لأغاني "هيلين ميلس"حلمًا "بحجم الوطن" (ص.68) حتى يفقدهما: سلمى و الوطن، أو لربما غادراه كما يقول:

 

"أن ثمة أوطان تغادرنا رغم عنا و عنها، فلا نملك إلا أن نلهث خلفها"، إذ إن أحدًا لا يهجر وطنه "ما لم يقم الوطن بذلك أولًا وهذا ما لم يحدث أبدًا في مرسى فاطمة" (ص.37).

 

 

وأنّى له ألا يلهث خلف "سلمى"، وهي الحبلى بمشروع انتماء و عائلة و وطن؟

 

 

أملاً منه باللحاق بـ"سلمى"، يجد راوينا في معسكر ساوا للتجنيد وطناً آخر، لا يشبه الوطن إلا في شعاراته العسكرية وحصص الثقافة السياسة التي تلقن المجندين ضربًا من ضروب الانتماء والولاء. ففي وصفٍ لما ينقلب إليه المعسكر من حال إلى حال غداة زيارة لمراقبين ومهمتمين أوروبيين بالشأن الأريتري، تلخص إحدى اليافطات القماشية تبدل الأحوال من المعاملة اللاإنسانية إلى شعاراتٍ رنانة من قبيل "بناء الإنسان أولاً"والوطن "هو كرامة الإنسان و حريته" (ص.92)، لتختزل الوطن والانتماء في عرض مسرحي مُعد لفرجة المراقب الأجنبي.

 

 

على الرغم من حداثة تجربته الوطنية، إن جاز التعبير، إلا أن راوينا يُعلم رفيق المعسكر "كداني"درسًا في الانتماء لا يمكن للمعسكر أن يقدمه، فيقول كداني للراوي:

 

 

"منك تعلمت كيف أطارد هذا الوطن بحب، كيف أحتفظ بإيماني به رغم كل شيء. تعلمت أن الوطن الحبيبة، و الحبيبة الوطن، وجهان لك أحلامنا النبيلة" (ص.105)

 

 

كما يحثه على التشبث بكل الفرص للعثور على "سلمى"المرأة والوطن:

 

 

 

"لكنها الوطن، نسعى إليه مهما أوغل في الابتعاد. امنح نفسك فرصة أخرى كي تجد وطنك، امنحه هو أيضا فرصة كي يجدك. كثيرة هي الحواجز التي تقف عادة بيننا و بين أوطاننا التي نتمنى" (ص. 108).

 

 

يجد الراوي فرصةً للهرب من المعسكر، إلا أنه ما يلبث أن يجد نفسه في قبضة عصابات الشِفتا التي مَأسَسَت تجارتها في البشر وأعضائهم، وتهريب للبضائع والأسلحة حتى غدت دولةً داخل دولة. والشِفتاي وإن خاطب الراوي ورفاقه الأريتريين المهربين بـ"العبيد" (ص.133) إلا أنه يفيض حبًا لأريتريا التي احتضنته وأجداده الفارين من السودان بحثًا عن وطنٍ آخر يلوذون إليه. فمن منها، الشِفتاي و الراوي، ينتمي إلى أريتريا، ومن يظفر بها إن اقتتلا من أجلها كغريميين؟

 

 

على الرغم مما يراه الراوي أنه كلما "اقترب السودان أكثر، بدأت إريتريا في الابتعاد. أنانية هي الأوطان، لا يأتي وطن إلا حين يغادر الآخر" (ص.136)، إلا أنه والقارئ -لا يقتربان من التعرف والعثور على "سلمى"وعلى أريتريا إلا في مخيم الشجراب لللاجئين الأريتريين شرق السودان.

 

 

يتجاوز انتماء الراوي في الشجراب رقم اللاجيء، رقم ساوا العسكري، مبلغ مال يطلبه الشِفتاي أو مشروع عضو يستأصل ويباع، إذ يضع الراوي رحاله في المخيم رفقة "أم أواب"و"أمير"، ويطرب لأغاني "أحمد المصطفى"، ويستلذ الأنجيرة والزقني، كما يستطيب الجَبَنَة، ويستحضر الزاخر الجميل من الثقافة الأريترية، وإن غصّ المخيم بعذاباتٍ و آلامٍ لا يزال يتجرعها الأريتريون كما ينقلها لنا الراوي في الشجراب وفي غيره من المخيمات، حتى و إن "تَسَودَن"المخيم.  

 

 

يستدرك الراوي، حين يَركنُ إلى الشجراب، ويركن هذا الأخير إليه، خشيته من "ألا يعود لي وطني الذي أتيت بحثًا عنه، وأن تصبح الحياة بعيدًا عن سلمى هي القدر الذي ينتظرني" (ص.147).

 

 

إلا أن ساوا، الشِفتا والشجراب أوطانٌ بديلة، و"الوطن البديل قد يبقيك حيًا، لكنه لا يمنحك الحياة. هو بالضبط كزوجة الأب، مهما بدت حنونة لا تنسى أنك من امرأة أخرى" (ص.236)، ولا تغني عن الجنة الموعودة في "مرسى فاطمة"معية "سلمى"المرأة/الوطن.

 

 

هكذا يعبر الراوي صحرائه ويُحكم رسم حلقته المفرغة بخيالاتٍ رومانسية يرددها على كل من قد يسمع، كلما جاء على وصف "سلمى". وعجبي إذ تظل الحلقة عصية على الفَك رغم الاكتواء بنار التيه والعشق، وتحت وطئة خيبات الأمل، "فالوطن مهما قسى"، كما يقول "أمير""هو جزء منا، مجرد التنكر له يشبه مريضًا يريد التخلص من وجع  يده بقطعها" (ص. 206)

 

 

قد لا يصرح الراوي بذلك، إلا أن للقارئ أن يستشف، أن يسأل، و أن يحاول الإجابة على أسئلة مشروعة حول الغربة في الوطن وانتمائه لأي من تلك الأوطان الهجينة (والمستهجنة) وعن لوعة الفراق، ومشقة الرحلة تيهًا في ومن أجل امرأةٍ مشتهاة وجنة موعودة، ما الجدوى؟ وأي ضربٍ هذا من العبث الذي يدفع الراوي لمحاولة التشبث بتلابيب أحلامٍ أُجهضت دون علمه، إبان تيهه.

 

 

قد يطول بنا وبالراوي انتظار عودة "سلمى"وعودة أوطان هي أقرب للسراب من الواقع، نلهث خلفها دون أن نبلغها بعد أن نفقدها في غفلةٍ منا أو أن تغادرنا عن سبق إصرارٍ وترصد، وكل سلوانا في هذا الانتظار هو التلهي بما لا ينتهي من الاحتمالات: أتُرى تعود "سلمى"؟ أتُرى يلتقيان؟ أتُرى يظلان عاشقين ملهوفين؟

 

 

أنتهي من حيث ابتدأ جابر في تقديمه للرواية بقوله أن "الوطن كذبة بيضاء، يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة"والتي يقول جابر أنها مقولةٌ ما يزال يؤمن بها، طالما استمر تيهه بحثًا عن وطن.

 

 

 


لماذا لا نحكم على الكتُب من أغلفتها؟

$
0
0

 

 

 

أحكم على الكتب من المكتوب على أغلفتها، وكذلك يجب أن تفعل أنت!

 

 

لم يُقدّم كاتب على أغلفة الكتب -ضمن الكتّاب الكنديين- كآن كارسون1، التي قال عنها مايكل أونداتجي2: "أعظم من كتب الشعر الإنجليزي في عالمنا الحديث"، وفي المقدمة التي كتبتها سوزان سونتاج3تقول عن آن كارسون: "سوف أقرأ  كل شئ كتبته".

 

 

هؤلاء الأشخاص وأسماء أخرى مشهورة ومهمة ممن امتدحوا بغزارة باكورة أعمال آن كارسون مثل أليس مونرو4، وجاي ديفنبورت5، أعتقد أنهم يشبهون حقل جاذبية بخاصية مغناطيسية قوية، لديه القدرة على جذبك إلى داخله، حتى لو تبيّن بعد ذلك أن هذا الكتاب بمثابة الكوكب الغازي: يبدو ثقيلًا ومعتمًا بشكل واضح، لكنه في جوهره عبارة عن أبخرة وأدخنة شفافة. اقرأ أيضًا: فن المُراجعة: معظم ما تكتبه يجب حذفه. 

 

 

يمكنكم تخيل صدمتي عندما اكتشفت أن مراجعتي وتقييمي لعمل آن كارسون "الملف الأحمر"في موقع الراندوم هاوس قد تعرض للمعالجة والتشذيب، وكنت مؤخرًا قد انتقدت كتابها بشدة في موقع "مجلة الشعر" وقام بعض هواة القص واللصق بإعادة ترتيب الجمل من مقال مراجعتي لآن كارسون مقترحًا بذلك تقييمًا إيجابيًا لعملها. لكن لِمَ كل هذه الاجراءات اليائسة؟ فكارسون الآن تُعتبر غائبة في نظر الصحافة اللامعة التي تنتج اقتباسات تُقتطع من المقالات بغرض جذب الجمهور. (النسخة المقصوصة من مراجعتي قد أُزيلت من الصفحة المعلنة لكتاب "الملف الأحمر"لكن تستطيعون قراءتها هنا). 

 

نحن يحلو لنا التظاهر بأن المقدمات والجمل المعرّفة عن الكتب على ظهر أغلفتها هي كلمات عديمة الأهمية، ورديئة بالضرورة كشعارات الشركات الكبيرة التي تُلصق على سيارات السباق. لكن الحقيقة أنّ هذه الكلمات مهمة، ولقد قمت سابقًا بشراء كتب فقط لأنها تحتوي على أغلفة بديعة رُصت عليها كلمات محفزة لاقتناءها؛ أراهن أنكم فعلتم مثلي أيضًا في وقت من الأوقات. اقرأ أيضًا: انقلاب المعبد؛ استفهام الثابت وتفكيك المتغيّر.

 

 

نستطيع تشبيه مايُكتب على الأغلفة عن الكتاب كالوسيط والسمسار والخاطب: قد تقف بعض هذه الكلمات حائلًا بينك وبين الكتاب الذي تحب.

 

 

أولًا لنتحدث عن التقسيم: هناك نوعان من الكلمات المعرّفة بالكتاب والتي تُطبع على ظهر الأغلفة؛ بعضها تُنشر قبل ناشر الكتاب بقصد جذب جمهور القراء وتعريفهم بالعمل، والنوع الآخر هي الكلمات أو الأسطر التي تكون مقتبسة من مراجعات وتقييمات الكتاب المزمع التعريف به.

 

 

يُكتب النوع الأول بناء على ترتيب خاص من الناشر أو المؤلف، ومن الواضح أنه يمكننا اعتباره الأضعف أو الأقل مصداقية فعندما يُطلب من شخصٍ ما أن يكتب كلمات معرّفة عن كتابٍ ما فإن هذه الكلمات يجب أن تكون في صالح التسويق للكتاب أولًا وأخيرًا. أما الكلمات المعرّفة بالكتاب والتي تكون مقتبسة من مقالة لتقييم ومراجعة الكتاب فإنها بطبيعتها تُعتبر الأفضل والأكثر مصداقية حيث أن كاتب المراجعة لم يُجبر على امتداح الكتاب، وقد يكون انتقده بشدة كذلك ولهذا نستطيع أن نثق أكثر في هذه الاقتباسات المقتطعة من تلك المراجعات. اقرأ أيضًا: هل يمكنك أن تصنع قصة قصيرة من عناوين الكتب؟

 

 

قد نجد التسلسل الهرمي ضمن كتّاب الجمل المعرّفة بالكتاب والتي كُتبت بغرض التسويق، فالأفضل بالطبع هي تلك التي تُكتب بواسطة اسم معروف ومشهور في عالم النشر والكتابة مثل ستيفن كينج6، والأكثر مدعاة للشفقة هم الكُتّاب الذين يحتاجون للتعريف بجانب كلماتهم: "مرعب كالحجيم"فرانكلين جي دونيللي؛ مؤلف كتاب آثار العض وخطوط الدم: الموسوعة الأضخم لمصاصي الدماء.

 

 

بالطبع فإنه يبدو واضحًا كم أن مثل هؤلاء الكُتّاب قد يحطون من قيمة الكتب التي يعرّفون عنها والتي طُلب منهم أن يرفعوا ويعظموا من شأنها، ويُعتبرون الخيار الرابع أو الخامس. أنت لست جاهزًا لتعرّف عن كتاب مادام اسمك مازال بحاجة إلى تعريف عند ذكره. اقرأ أيضًا: موت الكلاسيكيات: لماذا يندثر الأدب؟

 

 

 

النسبة أيضًا تُعد مؤشرًا للجودة والإتقان. لايُعتبر الكتاب واعدًا بالكثير إن كانت صفحاته الأولى ملأى بكلمات التعريف عن الكاتب والكتاب، وبالاقتباسات العديدة من طابور لا ينتهي مكوّن من أشهر المجلات والجرائد ويبدو معظمها شاطحًا ويتجاوز المديح المقبول. (انظر على سبيل المثال كتاب مختصر الحياة الرائعة لأوسكار واو) كتب قليلة تستحق هذا القدر من المديح، (كتب قليلة فقط تستحق المديح) وقلة من النقاد يستطيعون تمييزها على أي حال.

 

 

يرتبط هذا الدفق من المديح الذي تنشره الصحافة بالتفكير الجمعي: تتطور نظرية مؤامرة غير واعية وغير مُرتب لها عندما يقع بعض المحررين الذين يقومون بكتابة المراجعات والتقييمات في فخ التسويق للكتاب قبل صدوره أو كفعل استجابة لضغط حركة زايتجاست (روح العصر). اقرأ أيضًا: إرث ملعون: فريدريك سبوتس عن كلاوس مان.

 

 

مراجعة واحدة أو اثنتان حاسمة واضحة عن الكتاب تظهره بشكل أفضل. بإمكانك دائمًا أن تثق بالكتاب الذي يسطر المديح بعناية وحرص. تظهر في نسختي الخاصة من رواية"لوليتا"جملة واحدة من مجلة فانيتي فير: "قصة الحب الوحيدة المقنعة في عصرنا الحالي"هكذا يجب أن تُعرّف الكتب.

 

 

تجذب الكتب الجيدة كتّابًا جيدين للكتابة عنها والتعريف بها. وتكون الكتب الرديئة غالبًا قد ظُلمت بواسطة الأسلوب الذي يستخدمه الكاتب للتعريف عنها. يقول الشاعر عزرا باوند7: "تعد تقنية الكتابة اختبارًا للصدق، إن لم يكن النص يستحق أن يُختار من أجله الأسلوب والتقنية المناسبة لكتابته فهو ذو معنى وقيمة أقل"، لنلقي نظرة أقرب على هذه المراجعة من مجلة "الولايات المتحدة الأمريكية اليوم":

 

 

"كتب قليلة قد تتطلب تحذير"شديد الاشتعال"، لكن كتاب مختصر الحياة الرائعة لأوسكار واو-الرواية التي طال انتظارها للكاتب يونوت دياز-قد يشعل في طريقه قلوبكم ويحرق حواسكم. وكما أن رواية دياز منقوعة في الإيقاعات المشتعلة للعالم الواقعي الحقيقي فإنها أيضًا مزركشة بالواقعية السحرية وقصص الخيال الكلاسيكية."

 

 

 

قد يكون صحيحًا في الغالب أنني لا أجيد فهم فن الجناس الاستهلالي؛ (تكرار حرف أو أكثر في مستهل كلمتين متجاورتين)، لكنني قد أستخدم جملة "يحرق حواسكم"لشرح المصطلح لتلامذة المدرسة المتوسطة. كما أن العلم أثبت بما لايدع مجالًا للشك أن كل الكتب قابلة للاشتعال، وليس"كتب قليلة"فقط. أيضًا أود التساؤل كيف يمكن لكتابٍ ما أن يكون "منقوعًا"و"مزركشًا"في ذات الوقت؟ الصيغة النثرية غير الصادقة التي استخدمها الكاتب للتعريف عن رواية دياز لم تنجح في تجاوز اختبار عزرا باوند. اقرأ أيضًا: كيف تقاطعت القراءة مع الأكل عبر التاريخ؟

 

 

 

على العكس، هنا الكلمات التي خطتها أليسون بيكديل8باعتدال ورصانة على ظهر الكتاب الذي يحوي مجموعة مقالات للكاتبة كاتي رويفي9، "في مديح الحيوات الفوضوية":

 

 

"لم تقم كاتي رويفي بالكثير من تسفيه آراء المتزمتين والمفرطين في إظهار التقوى والفضيلة، لكنها قامت بتشريحهم عميقًا لدرجة العبث في جدائلهم بصرامة وذهول تمامًا كما قد يفعل الطفل الفضولي." 

 

 

 

لم تُحرق الحواس هنا خلال كتابة هذه المراجعة، توجد موسيقى بالغة الرقة والعذوبة، أيضًا يوجد خيال وصورة مجازية لكنها غير مستهلكة. تكتب بيكديل عن رويفي بذات الأسلوب الذي تتبعه الأخيرة في كتابتها: بهدوء ودقة الجراح في غرفة العمليات. من الواضح أن أسلوب رويف العصري في كتابتها يستحق هذا الجهد المبذول من قبل بيكديل في تعريفها عن الكتاب. اقرأ أيضًا: "مرسى فاطمة"لحجي جابر: تيه، عبور وأرض موعودة.

 

 

لكن لايجب أن نهتم كثيرًا باختبار عزرا باوند. أيّ الكتابين يبدو واعدًا بشكل أكبر؟ الكتاب الذي يشرّح ويعبث بفضول الطفل الذاهل أم الكتاب الذي يشعل ويصيبك بحرقة في المعدة؟

 

 

تساءل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو10ذات مرة: هل تُعد ورقة قائمة الغسيل لكاتبٍ ما-وُجدت بين أوراقه- أثرًا من آثاره وأعماله الأدبية؟ تؤثر هذه النوعية من الأسئلة-المحفزة على التفكير- بشكل فعال عندما يكون الدماغ في مستوياته الدنيا. ومن الأفكار التي تجذب الانتباه فعلًا  كيف أننا عندما نقرر القيام بتصنيف الفنون الإنسانية نفضل بعضها على الآخر. لكن ما زال تساؤل فوكو يثير الدهشة؛ كيف أنه لم يكن يشجع مبدأ الإخلاص لقوائم الغسيل!

 

 

من جهة أخرى تُعتبر كتابة التعريف بالكتاب وتقييمه نوعًا مميزًا من النقد الدقيق وتستحق منّا التأمل والتبصر، ولأن النقد قد يرتقي إلى حالة الفن فإن الكلمات المتواضعة المعرّفة بالكتاب تُعد فنًا كذلك. أحب الأشخاص المهووسين الذين قاموا بحفظ كل ما نقشته يد الروائي الذي اشتهر بعزلته العميقة توماس بينشون11 هؤلاء الأشخاص المتعصبون لبينشون يعلمون جيدًا كيف أنّ حتى قصاصات الكاتب تُعد حدثًا يُحتفى به. يعلمون أنه عندما تُكتب المراجعات والكلمات المعرّفة والناقدة للكتاب بواسطة كُتّاب عظماء فإنها قد تحمل ولو قدرًا ضئيلًا من العبقرية. اقرأ أيضًا: كيفيّة التغلّب على عقبة الكاتب.

 

 

كتب غور فيدال12جملة واحدة معرّفة عن كتاب المذكرات "معطف كريستوفر هيتشنز"13: "لو طُلب مني أن أرشح اسمًا واحدًا ليكون خلفًا، وريثًا، أو ولي عهد، فإني قررت أن أسمي كريستوفر هيتشنز"لكن بعد ذلك وُجدت هذه الكلمات وقد شُطبت، وكُتب بجانبها بخط يد وبالقلم الأحمر: "لا، ك.ه.".

 

 

ماحدث هو أن هيتشنز اختلف مع فيدال بعد أحداث سبتمبر 11/9 فقام بشطب كلمات فيدال التي مدحه بشدة فيها، ويمكننا اعتبار هذا التصرف خبيثًا ويحمل أكثر من معنى، فهيتشنز يُعد مستفيدًا من شرف المديح حتى وهو يظهر اعتراضه ورفضه لذلك.

 

 

ثم هناك آدم كيرش14الذي كتب معرّفًا بسلافوي جيجيك15أنه "أخطر فيلسوف سياسي في الغرب"في مقالة بمجلة الجمهورية الجديدة  (طُرد كيرش بواسطة جيجيك الذي يظهر بوضوح تبنيه للعنف). بطبيعة الحال فإن جيجيك بعد ذلك التف حول هذا المعنى وأعاد نشر جملة كيرش في مقدمة كتابه الجديد بحيث تظهر في سياق المديح للكاتب.

 

 

قد تكون الكلمات المعرّفة بالكتاب والتي تُنشر على غلافه سلاحًا، فترتد على كاتبها مثل أن يكون ممسكًا السكين بيديه، ويعتقد أنه مسيطر عليها ببراعة. اقرأ أيضًا: لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات؟

 

 

إنّ من الطبيعة البشرية أن يقف المرء أمام مرآة الحمام ويتخيل أنه يتسلّم جائزة هو لم يحصل عليها حقيقة، ويحلم بالكلمات والمراجعات تُكتب في مديح كتب هو لم يقم بكتابتها من الأساس. في نقطة ما من رواية "عوليس"ينقل لنا عقل الشاعر الطموح"ستيفن ديدالوس"(16):

 

 

"الكتب التي كنت ستكتبها بالحروف من أجل العناوين. نعم إن الحرف راء يعبر عن كلمة رائعة، نعم حرف الراء"

 

 

 

إنّ من الأسهل دائمًا أن يستجيب الكاتب للكتب أكثر من استجابته للكتب الفعلية. لكن قد تكون معظم المراجعات المعرّفة للكتب في العالم الواقعي تصف أيضًا أعمالًا خيالية. وكالمبشرين المتتفانيين فإن الكلمات المعرّفة عن الكتاب دائمًا ماتجلب الأخبار الجيدة، فكتّابها قد يخبؤون شكوكًا صادقة عن رواية معينة أو مجموعة من المقالات، لكنها دائمًا تُترك في الخلف بعيدًا في المراجعة الأصلية أو تُحجب. كل شئ هو تحفة، من الواجب قراءته، فائق الروعة، مبهر، مثير كألعاب نارية.

 

 

قد نكون مخدوعين لوجود كل هذه الكتب الرائعة. جهد المقياس البشري الذي يستجيب لاحتياجات القراء الأذكياء هو الأجدر بالتفضيل ولكنه دائمًا الأصعب إيجادًا.

 

 

كتب ترومان كابوتي17معرّفًا برواية جون نولز18"سلام منفصل" :"هذه رواية مهمة  كُتبت ببراعة وإتقان، تتنقل فيها صفحة تلو الصفحة تجاه غاية أكثر إثارة للإعجاب". في زمن يحتفي باسم التفضيل، ألا تبدو صفة"أكثر إثارة للإعجاب"تدعو للثقة والتصديق فورًا؟ ألا تفضل أن تقرأ شيئًا "مهمًا كُتب ببراعة وإتقان"؟ من السهل جدًا أن تظهر أنك تمتلك في الكتابة صوتًا ملتويًا غريباً بشكل عدائي (انظر كارسون أو دياز) ومن الصعب إلى حد بعيد الكتابة ببراعة وجذب اهتمام القارئ. أفضل ما يُكتب تعريفًا بالكتب هو أن يُذكر النقد الحقيقي للكتاب، بالتقليل من أسماء التفضيل، ويُظهر القارئ الحقيقي في الناقد، المتعطش للإلهاء الذكي البارع. وللمتعة والبهجة فإنه يُطالب بترتيب هندسي ماهر وليس امتيازًا أدبيًا. وبالطبع فإن المظهر الرائع للأخير هو ما تُباع الكتب لأجله وتُربح على إثره الجوائز. لكن الأول الذي يريده-خفية- الجميع. اقرأ أيضًا: القصيبي و"حياة في الإدارة".

 

 

جيسون جوريل كتب في مجلة الجمهورية الجديدة، مجلة فيفورواير، ومجلة الأطلنطي. كتب"الروح العنيدة: مقالات ومراجعات عن الشعر والثقافة".

 

 

 

 

 

     

(1) آن كارسون: شاعرة كندية فازت بجائزة ت.س.إليوت للشعر.

(2) مايكل أونداتجي: شاعر وروائي كندي حائز على جائزة البوكر عن روايته الشهيرة"المريض الإنجليزي" .

(3) سوزان سونتاج: ناقدة ومخرجة وروائية أمريكية، اشتهرت بكتاب مذكراتها التي نُشرت بعنوان"كما يسخر الوعي للجسد" .

(4) أليس مونرو: كاتبة قصة قصيرة كندية، حازت على جائزة البوكر للآداب عام 2009، وعلى جائزة نوبل للآداب في عام 2013.

(5) جاي ديفنبورت: كاتب أمريكي توفي عام 2005، وحائز على جائزة زمالة ماك آرثر.

(6) ستيفن كينج: كاتب ومؤلف أمريكي عُرف برواياته التي تندرج ضمن أدب الرعب، وهو حائز على ميدالية مؤسسة الكتاب القومية.

(7) عزرا باوند: شاعر وناقد وموسيقي أمريكي، يُعتبر أحد أهم شخصيات حركة الحداثة في الأدب العالمي في القرن العشرين.

(8) أليسون بيكديل: روائية امريكية، من أشهر أعمالها"بيت المرح" .

(9) كاتي رويفي: صحافية ومؤلفة أمريكية.

(10) ميشال فوكو: فيلسوف فرنسي يعتبر من أهم الفلاسفة في أواخر القرن العشرين، واشتهر بكتابه"تاريخ الجنون" .

 (11) توماس بينشون: روائي أمريكي، اشتهر برواياته التي تتسم بالغموض والتعقد. حائز على جائزة زمالة ماك آرثر، وجائزة الكتاب الوطنية الأمريكية.

(12) غور فيدال: كاتب مقالة، ورواية، وسيناريو، ومسرحيات أمريكي، وكان ناقدًا سياسيًا لفترة طويلة.

(13) كريستوفر هيتشنز: كاتب وصحفي إنجليزي-أمريكي، يكتب في النقد الأدبي ومعروف بإلحاده ونقده للأديان.

(14) آدم كيرش: شاعر أمريكي وناقد أدبي.

(15) سلافوي جيجيك: فيلسوف وناقد ثقافي سلوفيني، قدم مساهمات في النظرية السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما النظرية.

(16) ستيفن ديدالوس: الشخصية الأدبية الرئيسية في رواية عوليس أو يوليسس التي كتبها الروائي الايرلندي جيمس جويس، وقد تصدرت هذه الرواية سنة 1998 قائمة أفضل مئة رواية كُتبت باللغة الإنجليزية في القرن العشرين.

(17) ترومان كابوتي: صحفي وكاتب أمريكي، اشتهر بكتابته عن الريف الجنوبي الأمريكي، وأكثر كتبه شهرة رواية"بدم بارد" .

(18) جون نولز: أديب وناقد أمريكي، حاز على جائزة ويليام فوكنر، وجائزة روزنتال التي يقدمها المعهد الوطني للفنون والآداب.

 

 

 

المقال مترجم، لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

اقرأ أيضًا: 

اقلب الكتاب!

5 كتب ممنوعة هي الأكثر شهرة!

أهم الكتب التي يجب قراءتها

5 مقاطع موسيقيّة تساعدك على التركيز أثناء القراءة

 

 

 

 

 

عرض كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"لبيجوفيتش

$
0
0

 

 

قدّم على عزت بيجوفيتش الإسلام للعالم الغربي في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"على أنه نظرة عالمية وطريقة للحياة تعلو على كل البدائل الفكرية والروحية وحتى الفلسفية والسياسية .

 

 

في المقدمة يحاول بيجوفيتش الإجابة على سؤال، ما هو موقف الإسلام من التصادم الأيدولوجي في العالم الحديث، موضحًا وجود ثلاث وجهات نظر متكاملة عن العالم يمكن إرجاع جميع الأيدولوجيات والفلسفات والتعاليم العقائدية منذ أقدم العصور إلى اليوم، نهائيًا إليها، وهي :

  • النظرة الدينية؛ يقصد مفهوم مصطلح الدين الأوروبي، أي تلك النظرة للدين باعتباره علاقة شخصية بين العبد وربه متمثلة في عقائد وشعارات يؤديها الفرد.
  • النظرة المادية؛ التي ترتكز فلسفتها على الوجود الطبيعي المادي .
  • النظرة الإسلامية؛ وتعني الوجود المتزامن للروح والمادة معًا، وعندها تظهر الصيغة السامية للإنسان، باعتبار أن هذه الازدواجية هي ألصق المشاعر بالإنسان لأنها دليله لفهم الحياة الواقعية .

 

 

يتناول بيجوفيتش موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي .بدأها من دحض نظرية اختلاف الرأسمالية والماركسية، لاعتقاده أنهما نموذجان لفكرة واحدة تقوم على جانب واحد من الحياة، تنكر أشياء وترفضها فكرًا ولا تستطيع التخلي عنها في أرض الواقع؛ مثلًا رفضت الماركسية الأسرة والدولة، ومن الناحية العملية احتفظت بهاتين المؤسستين.

 

 

 

يقسم القسم الأول من الكتاب إلى ستة فصول، دارت جميعها على إثبات معنى الإنسان كمدخل رئيس للفهم العام، فبإثبات أن الإنسان كائن مزدوج التكوين (روحي-مادي) نستطيع شرح وفهم الكثير من مفاهيم الحياة .

يحمل الفصل الأول عنوان الخلق والتطور، وفيه تفكيك تحليلي لنظرية التطور الدارونية التي تركز على النمو المادي للحياة من البدائية وصولًا لأعلى مراتبها؛ الإنسان.

 

 

دحض بيجوفيتش النظرية بمقارنة السلوك الاعتقادي للإنسان البدائي بأعلى المراتب الحيوانية ليصل لعدم وجود أدنى مشترك بينها في الروابط الإدراكية للوعي وليس الذكاء التنظيمي السلوكي أو حتى المشاعر، مستندًا إلى صورة الإنسان الموجودة في مخيلة الثقافة والفنون الإنسانية القديمة، وذلك بعكس رسومات مايكل أنجلو التي تعكس تشبث الإنسان بشئ آخر خارج عالمه المادي. في ذات الفصل عقد مقارنات بين سلوك الإنسان والحيوان؛ مثال تمرد الإنسان ونوعية اللعب المختار له والذي فيه بُعد روحي وليس احتياج بيولوجي كما هو الحال في الحيوان، والحاجة الى التجميل وغيرها.

 

 

بحث أيضًا في مفهوم الحياة التي أوجدت شكلًا منتظمًا ملايين المرات خلال بلايين السنين، حيث لا يمكن تفسيرها بواسطة علم الطبيعة أو الكيمياء؛ فداروين لم يجعل الإنسان حيوانًا ولكنه ربطه أكثر بأصله الحيواني وعليه تم بناء العالم المادي في شكل المجتمع الإنساني كقطيع في شكل متحضر، وإن الحضارة هي يقظة الإنسان التي تنطلق مصحوبة بالانعدام الروحي .

 

 

من النقطة السابقة ندخل إلى الفصل الثاني الذي بين فيه مفهوم الحضارة والثقافة؛ فالثقافة هي تأثير الدين على الإنسان وتأثير الإنسان على الإنسان، وهي تُنور العقل وتحتاج إلى تأمل لا تعلّم، بعكس الحضارة التي هي عبارة عن تأثير العقل على الطبيعة، وتتعلق باستمرارية التقدم للعلوم والتقنية. الثقافة تعكس الجانب الروحي للإنسان في إنتاجها وفي الهروب إليها وذلك بحب الناس عمومًا وتعلقهم بصورة الإنسان الموجود في الأدب والشعر والفن والمشاعر المنبعثة عبر الزمن من دوستوفيسكي وتولستوي. في ختام الفصل يؤكد أن نقد الحضارة ليس بهدف الرفض وإنما تحطيم الأسطورة المحيطة بها من أجل المزيد من الأنسنة في هذا العالم.

 

 

تركز الفصل الثالث حول الفن وعلاقته بالعلم، أي العالم المادي، وعلاقته بالدِّين أي الجانب الروحي؛ حيث أن الفن بالضرورة ليس عملًا كميًا يسعى لاستخدام القوانين بعد اكتشافها كما هي نظرة نيوتن وأينشتاين، وإنما هو انعكاس للنظام الكوني الكبير برؤية كيفية، لذا كان الفن دائمًا هو الأقرب للإنسان الجواني لأنه يعكس شخصية الفنان الفردية في تناغم مع عالمه والذي يؤكد العلماء تفرده بالتركيب، فأصغر جزيئات الماء تحمل بصمتها الخاصة المختلفة عن شبيهاتها في الظاهر، كما هو حال اللوحات الأصلية والمزيفة التي لا يكون الفرق بينها في كمية الألوان والأبعاد وإنما في اللمسة الشخصية للفنان. يؤكد بيجوفيتش أن ركود الفن دليل على إلحاد الدولة، وضرب حصار ستالين للفنون كمثال.

 

 

 

أبدع بيجوفيتش في استعراض الداخل الشخصي لبعض السرد الموجود في روايات عالمية شهيرة وكيف أن انعكاس الشخصية ليست مطابقة للوجه الإنساني وإنما هي الرغبة المنعكسة على الوجه. كما أن المتلقي العادي للفن يكون منصفًا أكثر من الناقد لأنه يتناوله بحس ذوقي لا بحس علمي. ختامًا يربط النقاط بأن الفن في بحثه عمّا هو إنساني هو بحث عن الله .

 

 

 

في الفصل الرابع تناول بيجوفيتش الأخلاق، وفيه قال أن المنظومات الأخلاقية لا يمكن تولدها من العقل المادي لكونه عاجز عن إصدار حِكَم قِيمية عندما تكون القضية استحسان أو استهجان أخلاقي؛ فالجريمة عقليًا هي عبارة عن دوافع وأفكار، ومشاعريًا توصف بأنها شر أخلاقي، كما أن التضحية بالنفس من أجل الغير تكون ضد المصلحة الشخصية؛ لكنها مصلحة أخلاقية مطلقة.

 

 

في العالم المادي تقوم الأخلاق على مبدأ القوة أو المصلحة النفعية؛ ففي نموذج المصالح الجماعية عند النحل كمثال نجده غير أخلاقي في تعامله مع العاجز عن العمل الذي يتخلص منه بقسوة، أما الإنسان فإنه يحترم الصغير والمحتاج ويُنشئ دارًا للعجزة.

 

الثقافة والتاريخ هي محور الفصل الخامس، وفيه بعكس المفهوم المادي للتاريخ، الذي يصوره كالخط المستقيم باستثناء بعض الانتكاسات المؤقتة؛ فالمفهوم الثقافي للتاريخ والحاضر يكون العنصر الثابت الراسخ فيه هو الإنسان.

 

 

 

الفصل الأخير يتحدث عن الدراما والطوبيا، وفيه أن آلية الطوبيا كاملة لكنها غير إنسانية، لأن النظام والتماثل هما العنصران الأساسيان، أما الواقع فيشير إلى أن الدراما هي الأصل الإنساني لأن الحرية جوهرها والحريّة هي الإنسان، وطموحات الإنسان للحياة بمجتمع لا تنبع من وجوده الحقيقي وإنما من الضرورة .

 

 

خلاصة الجزء الأول؛ نصل إلى أن الإنسان مخلوق فريد وخاص ولكي تكتمل هذه الخصوصية لابد من الإيمان بالجزء الثاني من مكوناته وهو الروح وعندها لابد من الإيمان بوجود الله، لأن هذه هي اللحظة الفارقة في كون الإنسان إنسانًا.

 

 

 

القسم الثاني من الكتاب هو الإسلام: الوحدة ثنائية القطب

 

يعتقد بيجوفيتش أنك كي تفهم الإسلام فهمًا كاملاً؛ فلابد أن تكون لك معرفة بتاريخ المسيحية واليهودية .

 

الإسلام دين الإنسان؛ فكما جاء الإنسان بجانبين؛ روحي ومادي، جاء الإسلام دينيًا دنيويًا. في الإسلام تتجسد وحدة الروح والجسد في فكرة الأمة، وهي الوحدة بين الاتجاه الروحي والنظام الاجتماعي، فكما تخدم الشعائر التعبدية الروح، يمكن للنظام الاجتماعي بدوره أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق؛ فهو لا يحاول أن يجعل الناس ملائكة ولا عبيدًا لأجسادهم، وإنما يعمل على تهذيب غرائز الجسد بإعطائها بُعدًا وجدانيًا .

 

 

يرى بيجوفيتش أن الإسلام أصبح يحمل اسمه عندما انتقل من الغار إلى الواقع في مكة وبعدها إلى الاكتمال التأسيسي في المدينة؛ أي عندما أصبح منهجًا ومبدأ لتنظيم الكون أكثر منه حلاً جاهزًا .

 

 

يسرد الكاتب عددًا من الأمثلة لتوضيح ثنائية الإسلام التي جعلت منه منهجًا حياتيًا فطريًا متكاملًا؛ فمثلاً في أركان الإسلام نجد الثنائية الروحية والبعد الاجتماعي الأخلاقي في عدم تقبل المجاهرة بالمعاصي، بالإضافة إلى البعد الاجتماعي التكافلي، كما نجد ذات الثنائية في التاريخ الإسلامي وذلك بخلود أسماء مثلت شخصيات قوية وأفكار كبرى ومُثل عليا وكان هذا دليل على الوعي الإنساني بالقيمة الأخلاقية إلى جانب التقدم المادي .

 

 

أفرد بيجوفيتش مساحة لتوضيح النظام القانوني باعتباره مصلحة إنسانية وكيفية تحقيقها في الإسلام وذلك باحترام الحرية الشخصية ومن بعدها الأثر الأخلاقي في الحفاظ على المجتمع المسلم.

 

 

في ختام الكتاب تكلم عن الواقع وعن بعد المسلمين عن الفكرة الصحيحة وركز على كون الإسلام دين يستحيل تطبيقه تطبيقًا صحيحًا في مجتمع متخلف؛ ففي اللحظة التي يتم فيها التطبيق الحقيقي للإسلام في مجتمع ما يكون قد انتقل إلى قمة الحضارة الإنسانية .

 

 

أرجعنا بيجوفيتش إلى الفكرة النهائية العليا للإسلام وهي التسليم بالقدر، وهو لحظة تنقدح فيها شرارة وعي باطني من قوة نفسية مشبعة بالإيمان، مستعدة لمواجهة كل ما يأتي به الوجود ممثلاً في الأقدار الحتمية والسنن الكونية، مستسلمة لها نهايةً بعد بذل كل الجهد المتاح من غير خنوع ولا عجز .

 

 

 

عبد القادر عبد اللي؛ وجه أورهان باموق الآخر

$
0
0

 

 

في حديث عابر مع صديق أخبرته أنّ عبد القادر عبد اللي تُوفّي. توقّف قليلًا، بدا عليه التأثّر حقًا، ثم قال: هل أنهى ترجمة "متحف البراءة"؟. أومأت إيجابًا، فردّ: "إذن لا بأس بموته".

 

أعلمُ أنّ الأمر كان مزاحًا من جانبه، لكن لأحاول أن أكون صادقًا، أنا أيضًا أتعامل مع المترجمين بمبدأ النفعيّة: المترجم الجيّد هو أكثر من يجلب لنا السعادة، بترجمة من نحبّهم من الكتّاب.

 

 

لكن لا يزال في الأمر شيءٌ من الادّعاء. فنحن لا نلحق صفة الجيّد بأيّ مترجم، ولو ترجم لنا كتب الأرض كلّها. أحبّ ميشيل ويلبيك مثلًا، وكنت مستعدًا أن أقبّل محمد المزديوي، الذي ترجم روايته "احتمال جزيرة"حين وجدتها في مكتبة عامّة، لكنّني وبعد محاولتين لإتمامها، قررت أن لا أقترب من أيّ عملٍ ترجمه. ما لا نعيه، أو ربّما نعيه ونتجاهله، أنّنا حين نقرأ عملًا مترجمًا، فإنّنا نقرأ لغة مترجمه لا كاتبه. أخاف كثيرًا من هذه الفكرة، إذ ببساطة قد أكون جاهلًا بأكثر من قرأتُ لهم. يصير لزامًا علينا، لنتأكّد أنّنا كنّا أنفسنا لحظة قراءة الأعمال التي أحببنا، أن نجرّب قراءتها بلغتها الأصليّة، وإن لم يمكن فعل ذلك، أن نجرّب قراءتها بترجمات أخرى، وبلغات بديلة نفهمها، فقط لنتعرّف على أنفسنا في كتّابنا المفضّلين. 

 

 

لم أقرأ عبد القادر عبد اللّي خارج ترجماته لأورهان باموق. كما لم أتعرّف على شكله/صورته سوى بعد رحيله. لذا لا أستطيع أن أفصل علاقتي به عن علاقتي مع أورهان باموق، بحكم التجربة أولًا، ولتشابه تلقِّيَّ لكليهما ثانيًا.

 

 

بدأتُ قراءة أورهان باموق قبل ستة أعوام، كنت أخطّط لقراءة اسمي أحمر أولًا، لكنّ البائع نصحني –مع هزّة رأس العارف– برواية "أفضل"له، وناولني الحياة الجديدة. أغراني اسمها، الذي تبيّن أنّه بالفعل محور الرّواية بأكملها. كما لم تكن نسختي بترجمة عبد القادر عبد اللي، بل بترجمة سها سامح حسن.

 

 

لوقتٍ طويل، لعلّه يربو على الثلاث سنوات، كنتُ أشتمُ أورهان باموق كلّما قرأت أو سمعتُ اسمه في مكان. روايته تلك كسرت شيئًا في داخلي، لم أكن وقتها قد تجاوزتُ قراءة دان براون بعد لأصطدم بباموق فجأة. بطله عثمان، ظلّ مواظبًا على ما يزيد عن الثلاثمئة صفحة على نسخ رواية قرأها، وتدوين ما يسمعه من العالم الخارجي في دفتره. لم أفهم، وظللتُ حبيس هذا الجهل حتّى قرأتُ اسطنبول، روايته الشخصيّة لحياته كشابٍّ في اسطنبول. وللمرّة الثانية لم أقرأ ترجمة عبد القادر عبد اللي، بل ترجمة أماني توما وعبد المقصود عبد الكريم. وكما التجربة الأولى، لم أستطع دخول عالم باموق الغريب. توقّفت عند الصفحة 200، دون توقعات بالعودة مجددًا للرواية.

 

 

سُئلتُ مرّة متى أعتبر ما أقرؤه أدبًا عظيمًا، ولم أتعثّر بإجابة مُرضية في وقتها. لكن الآن أقول، لعلّه ما يدوم في أنفسنا مع مرور الزّمن. ولأستعن هنا بكليشيه رائج: من أنجع العلاقات الشخصية، تلك التي تبدأ بعد شجار. ظللتُ أهجس بـ"اسطنبول"فترة طويلة: اعتقاد أورهان باموق أنّ ثمّة أورهان آخر يعيش في مكانٍ ما من المدينة ينتظر أن يلتقيه، حديثه عن شوارع المدينة الخلفيّة القذرة والحزينة، حزن المدينة الذي تشكّله أرجل المارّة، الثلج المنهمر بلا توقّف في الشتاء، نزهات البوسفور مع أبيه وأمّه، الشجارات اليوميّة بين والديه، والصّور الملحقة للكتاب (كلّها بالأبيض والأسود). كلّ هذا ولم أستطع إكمال الكتاب.

 

 

في كتابه "في أحضان الكتب"، يذكر بلال فضل أنّه واجه عنادًا شبيهًا لدى قراءته لأورهان باموق، ويذكر أنّه وجد المفتاح لعالمه عند عبد القادر عبد اللي. قلتُ: لأستعر هذا المفتاح أنا أيضًا. استعرتُ "اسطنبول"مجددًا لكن بترجمته، وأخذتُ أقرأ. لكنّ مشكلة واحدة بقيت تسدّ الطريق إلى الباب، نسخة دار المدى (بترجمة عبد اللي) لم تُضمِّن الصّور التي ضمّنها الكاتبُ الكتابَ أولًا، والمُوردة في نسخة الانتشار العربي التي بدأت قراءتها سابقًا. لذا عدتُ، حاملًا خيبتي على كتفي، إلى النسخة الأولى.

 

 

 

لحسن الحظّ، والشكر لمفارقات الصّدف أيضًا، أنّ شطرًا كبيرًا من النصف الثاني من الكتاب كان يتحدّث عن رغبة أورهان باموق المُمضّة في ترك دراسة الهندسة المعماريّة، واحتراف الكتابة. في تلك الفترة، كنتُ أمرّ بظرفٍ شبيه، لذا كنتُ أعودُ للكتاب على الدّوام كأنّه عزائي الذي أحضره بنفسي. حين انتهيت من "اسطنبول"، انقلب باموق من كاتبٍ أتجاهله، إلى كاتبٍ أنوي قراءة كلّ ما يقع له تحت يديّ.

 

 

قرأتُ مع صديقٍ لي روايته "ثلج"، أقصد تبادل الآراء أثناء القراءة. ولأوّل مرّة أقرأ باموق بترجمة عبد القادر عبد اللّي. في تلك الفترة، كنتُ على استعدادٍ لأنقل القبلة المرصودة لمترجم رواية ميشيل ويلبيك إلى عبد القادر عبد اللي، فقط لقيامه بفعل التّرجمة ذاته. لكنّه، وربّما يرجع الأمرُ إلى وعورة جملة أورهان باموق، كان مستفزًّا لي. لم أستسغه بادئ الأمر، وحين سألتُ صديقي أجاب بأنّه يشعر بالاستفزاز كذلك. واحدة من الأشياء التي استفزّتني مثلًا أنّه يطبّق قواعد النحو على الأسماء، فـ"مختار"يصير "مختارًا"حين يُنصب "عندما توقفت الحافلة الصغيرة في باحة مديرية الأمن المغطّاة بالثلج لم يفصلوا مختارًا عن كا"– (ص68 من ثلج). وللأمانة، حاولتُ قراءة مقاطع أخرى من الرواية، لأتذكّر ما الذي أزعجني في ترجمتها لكنّني لم أستطع. ما يهمّ أنّني بدأتُ بداية خاطئة مع المترجم كما حصل مع الكاتب تمامًا.

 

 

 

لم يترجم عبد القادر عبد اللي كتاب باموق النقديّ "الروائي الساذج والحسّاس"، بل ترجمته ميّادة خليل. ربّما هنا بدأ يتشكّل في ذهني أثر عبد اللي على صورة باموق في ذهني. ليس الأمر أنّ ترجمة ميّادة سيئة، فأفكار باموق ظلّت واضحة مثل بياض الثّلج، لكنّها أميل للتعامل بخفّة مع النّص. ترجمة ميّادة خليل لا تعبأ كثيرًا بقواعد الإملاء والنحو، فتكتب الانسجام هكذا مثلًا "الأنسجام" (وقِس على ذلك تعاملها مع الهمزة على وجه الإطلاق)، وكثيرًا ما تجرّد المنصوبات من حقّها في النّصب "أحبّ أن ألعب في عالم الخيال، أن أضع نفسي مكان شخص ما في مكان آخر وأتخيّل عالم من الأحلام أكون فيه جنديًا، لاعب كرة قدم مشهور أو بطل عظيم."– )ص62 من الروائي الساذج والحسّاس). قد يقول قائلٌ بأنّ المعنى واضح، وهو كذلك، لكنّ العناية باللغة، من حيث هي لغة، يشي باحترام المُترجَمِ للكاتب بقدر ما يشي باحترامه لذاته. يصعبُ عليّ كثيرًا أن آخذ كاتبًا/مترجمًا بجدّيّة إذا ما أظهر استهتارًا باللغة، الأمر الذي لن تجده أبدًا عند عبد القادر عبد اللي. هنا، ينقلب اختياره في إعمال قواعد النحو على أسماء العلم من الاستفزاز إلى التقدير.

 

 

مؤخرًا، قرأتُ ترجمته لرواية باموق ما قبل الأخيرة "غرابة في عقلي". ولأوّل مرّة أشعر بأنّ لغته تماهت لا مع لغة باموق فحسب، بل حتّى مع طبيعة الأماكن الموصوفة في الرواية، بل أكثر، مع خفة الشخصيّة الرئيسة، وتعاطيها مع العالم من حولها. وكما حصل معي كقارئ لأورهان باموق، إذ انتقلتُ من بغضِ سماعِ اسمه، إلى محبّة ما لم أقرأه له بعد، حصل معي كقارئ لترجمات عبد القادر عبد اللّي، الذي لا أستطيع الآن أن أفصل تجربة قراءتي لأورهان باموق عنه.

 

 

***

 

كما صالح علماني، ظلّ عبد القادر عبد اللي مخلصًا لموقعه كمترجم. لم يجرّب كتابة الرواية (على الأقل لم ينشر واحدة)، وظلّ مخلصًا لعمله لأكثر من 30 سنة (صدر له أكثر من 80 كتابًا مترجمًا)، كأنّه استعار أدوات الفنّ التشكيلي الذي دَرَسَه ودَرَّسَه لينحت صورته الخاصّة، التي ستبقى حيّة في ذاكرة من قرأ له، بعيدة عن أخطاء عابرة، ارتكبها يومًا. إذ لا شيء، حتّى الموت، يستطيع أن يمحو اسمه من أحد أغلفة ترجماته الكثيرة، أو من ذاكرة من قرأوا إحدى ترجماته الكثيرة يومًا. 

 

 

 

 

استعراض كتاب "الصعود إلى القوة"

$
0
0

 

 

لعل ذلك التشخص المباشر، الصريح والواضح بشأننا نحن العرب مع الإدارة؛ الذي قرره الدكتور محمد الرميحي في إحدى كلماته الافتتاحية حينما كان رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية الرصينة، هو ما يدفعني ويحفزني للالتفات ولو قليلًا لأدبيات الإدارة والقيادة كعلم وفن وأسلوب للعيش؛ أعني عيش الفرد بوصفه جزءًا من المجتمع، وبكونه مركز المجتمع الذي هو عماد بنيان الأمم.

 

 

إن الإدارة هي ذاك العلم والفن الذي يتطور بسرعة خارقة، ويتحول مع التحولات التي تشهدها البيئة، ويحتاج في تقديري إلى عناية ومتابعة واعية، تترفع عن مجرد الحديث المكرر والمترجم في مقالات الإدارة واستعراض الكتب الإدارية، إلى وعي أكبر من ناحية التطبيق والتجربة والتفعيل، وبالمثل، يجب أن ننزل بالإدارة إلى مستوى الشارع البسيط العادي الذي يموج بتيارات مختلفة المشارب والأهواء، أعني أن يكون موضوع الإدارة موضوعًا مفصليًا في ذات كل إنسان عربي من أجل الارتقاء بذاته وبمن حوله أولاً، ثم بجميع الناس من حوله، انتهاءً بالبشرية أجمع.

 

 

من هذا المنطلق، قرأت مؤخرًا تلخيصًا عن كتاب متوسط الحجم؛ عملي ومباشر، ورأيت أن أضيفه للقراء سعيًا لزيادة المحتوى الإداري العربي وإبحارًا مع القارئ العربي المهتم بآخر إصدارات الكتب التي يتداولها العالم هذه اللحظة.

 

 

"الصعود إلى القوة"هو الكتاب الذي أتحدّث عنه، والمقصد من تأليفه هو استعراض رحلة صعود الإداري الاستثنائي والشاب عبر سلم المنظمات الإدارية.

 

 

في "الصعود إلى القوة"يتتبع مؤلفا الكتاب رون كاروتشي وإريك هانسن رحلة ذلك الإنسان الاستثنائي الذي يلعب دورًا تنفيذيًا في المنظمة التي يعمل معها. حصل الكتاب على تقييم 3.9 من 5 نجوم على منصة الكتب والقراء الاجتماعية "جودريدز"، يتكون من قرابة الثلاثمئة صفحة وصدر عام 2014.

 

 

ما يشد المرء للكتاب هو معالجته لمرحلة الانتقال من الإدارة الوسطى للتنفيذية العليا القيادية لفئة التنفيذيين الشباب الذين يصعدون هذه الأيام في الكثير من المنظمات حول العالم بسرعة، ويحاول الإجابة على سؤال مُلح، وهو كيف ستقود بكفاءة في منظمتك ومنصبك وكيف تحقق ذاتك كرئيس، في ظل تحديات شاقة تفرضها التغييرات الاقتصادية، السياسة، التقنية والاجتماعية.

 

 

ستجد أمامك منهجًا عمليًا جاهزًا للتطبيق وتلمحيات واقعية تصب في تطوير القيادات والمديرين. يعتمد الكتاب في توجيهاته على توصيات دراسة قام بها المؤلفان على قرابة 2600 موظف تنفيذي واستخدموا أدوات تحليل متطورة للوصول لمثل هذه التوجيهات، وذلك بعد استيعابهم للتوجهات النفسية وللسمات والأفعال التي تحول القيادي من جيد إلى رائع، وذلك بغض النظر عن نوع الصناعة التي يعملون فيها. والنتيجة هي دليل استرشادي قابل للامتثال والاستخدام لتكون قائدًا أعلى.

 

 

يبدأ الكتاب بمشكلة مفادها أن أغلب قيادات الشركات الآن باتت أكثر ميلاً لتكون من فئة الشباب، بخبرة قليلة وبمنافع أفضل من سابق عهد التنفيذيين؛ ومن هنا يوجه الكتاب إرشاداته بشكل مباشر إلى التنفيذي الصاعد في أي شركة كان، ويدعوه إلى الانتباه إلى مسألة الصعود إلى أعلى كما يسميها، ويقرنها بشرط الجاهزية، ذلك لأن الصعود السريع إلى الأعلى يؤدي بالمرء إلى شعور بدوار المرتفعات كما يسميه، وهنا نصيحة للقيادي الناشئ؛ صعود السلم الإداري بسرعة قد يصيبك بدوار المرتفعات، فخذ حذرك واستعدادك.

 

 

يلمح الكتاب إلى التخطيط بشكل استباقي واستراتيجي لصعودك المتوقع من الإدارة المتوسطة إلى الإدارة العليا ومن ثم إلى المنصب التنفيذي، إذ ينصح بتجنب الركض بهذا الاتجاه، ويقترح المشي بخطى ثابتة؛ والمشي غير الركض إذا عرفتم القصد.

 

 

 

عليك –وفق الكتاب- ألا تبدأ باعتقادك أن تكرار أسلوبك الأول للنجاح سينجح في إيصالك للمنصب العالي، فتكرار هذا الأمر لا يجدي نفعًا في تلك الأماكن العالية؛ فحتى تستطيع تغيير وتطوير المنظمة التي تساهم فيها يجب أن تسمح لها بتغييرك وتطويرك.

 

 

يناقش الكتاب مفهوم المواطنة في المنظمات؛ والمواطنة درجة رفيعة يصلها العامل في منظمة ما، لتجعله يعمل ويتصرف وكأن المنظمة دولة وهو أحد مواطنيها؛ بذلك يصبح تعامله معها ومع من هم خارجها وداخلها وفق ما يتناسب مع وطنيته، وهنا يهتم الكتاب بتطوير هذه النقطة مع إبقاء النفس متفتحة ومتقبلة للتجديد والنقاء، بحيث لا يشوش عليك ميلك إلى الشركة على نقدك البناء لها.

 

 

 

إن النغمة التي يتحدث بها الكتاب تقول باختصار؛ تمسكك بدورك كقيادي أعلى، وساهم في وضَع توجهات استراتيجية ولا تختلط بأعمال الموظفين في المستوى الأدنى. انظر للمستقبل، ولا تغفل تموضع المنظمة بشكل تنافسي. استخدم قوتك التنفيذية لتحقيق المزيد من أهداف المنظمة، وليس فقط أهدافك. اكتسب سمعة الثقة، وهي الخاصية الأكثر طلباً في عالم الأعمال. ولعل الشباب العربي الفتي ينطبق عليه ما يقال حول الإداري الصاعد والناشئ، بحماسه وطاقته، وكذلك رغبته في التغيير الإيجابي؛ الشباب العربي –برأيي- هو مثال لما أراد وصفه الكتاب وأرشد إليه، ولعل ما بدأت به يصلح جدًا أن أختم به، وهو اقتباس كلمات الدكتور الرميحي حول مكاشفته عن العرب والإدارة حيث يقول:

 

 

لقد خضنا نحن العرب حروبًا عديدة في العقود الأربعة الماضية، وكان ما فشلنا فيه هو إدارة الجيوش، فأنت تقرأ اليوم مذكرات القادة، وقصص الزعماء، فتعرف أن الجيش الذي حارب كانت تنقصه الذخيرة أو الزاد وحتى الماء أو المعارف، وكل ذلك نقص شديد في الإدارة، إدارة الحروب. ثم تقرأ عن معاهدات السلم التي وقعت وتقرأ عن نقائصها وثغراتها وكل ذاك مرجعه نقص في إدارة مفاوضات السلام .وتقرأ عن فشل المؤسسات في تحقيق أهدافها الصناعية والخدمية والتعليمية والإعلامية، وهو نقص أساسي في إدارة تلك المؤسسات من حيث البشر أو الموارد، أو كلاهما معًا. وأن أكبر معوق لنجاح الإدارة في مؤسساتنا العربية هو عدم اعترافنا بأهمية دور هذه الإدارة، وقد قيل : عندما تقلل من قدرات عدوك يهزمك. وقد قللنا من أهمية الإدارة حتى هزمتنا. ولعلنا بمعرفتنا نخوض معاركنا الجديدة وننتصر فلا يوجد بعد الهزيمة إلا الانتصار.

 

 

والله من وراء القصد.

 

 

 

"بريق العدالة": هل من متسع للخيال العلمي في الأدب العربي؟

$
0
0

 

 

حازت رواية بريق العدالةعلى نجاح كبير على الصعيدين الجماهيري والمؤسسات الأدبية التي منحت جوائزها بالإجماع لها؛ كجائزة هيوغو ونيبيولا وجائزة الجمعية البريطانية للخيال العلمي ( آرثر سي كلارك).

 

وكاتبة الرواية آن ليكي كما ورد في موقعها الشخصي ببساطة شديدة؛ كاتبة تعيش في مدينة ميسوري الأمريكية ومؤلفة روايات إمبراطورية الراديتش في ثلاثة أجزاء. صدر لها أيضًا مجموعة من القصص القصيرة في عدة مجلات معنية بأدب الخيال العلمي. عملت آن ليكي في عدة مهن؛ من نادلة إلى سكرتيرة وحتى مهندسة تسجيل.

 

 

هذه البساطة في تقديم الكاتبة نفسها في موقعها الشخصي لها بعدٌ آخر؛ ففي الغالب هناك برج شاهق بين المثقف العربي وبين المواطن العادي، إذ يقدّم أغلبهم نفسه كمتخصص وحاصد جوائز وشهادات تكفي لإخراسك. حتى من لم ينجح منهم في حصد الجوائز والشهادات تراه يقدم نفسه في أبهى وأرقى صورة ممكنة؛ هذا يدفعني أن أستعرض هذه النقطة قبل استعراض الرواية.

 

 

الحاجز بين القارئ والكاتب في الوطن العربي ليس فقط حاجزًا استعلائيًا، بل يمتد ليشمل بعض الأصناف الأدبية التي يراها المثقف العربي دونية وليست ذات أهمية، وهذا بدوره انعكس على ذائقة الشعوب؛ فأدب الخيال العلمي في الوطن العربي يخبو شيئًا فشيئًا. ومن هنا تجدر الإشارة إلى مشروع مخطوطة 5229؛ وهو مشروع إماراتي واعد لإنتاج وترجمة أدب الخيال العلمي، والذي أتاح لي ولغيري التعرف على عوالم مدهشة تؤكد أن العقل البشري قادر على الابتكار وإنتاج الخوارق.

 

 

عودةً لبريق العدالة؛ فنحن هنا أمام رواية ثرية متشعبة الشخصيات والأحداث والعوالم. فالشخصيات من قبائل وأعراق خيالية صنعتها الكاتبة وأجادت في تصويرها ووصفها. وهذه الأعراق والقبائل تنتمي إلى نظام يحكمها وأوطان تنتمي إليها. وهذه الأوطان ليست بمعزل عن أطماع الآخرين ورغبتهم في السيطرة عليها. تمامًا كما يحدث في أرض الواقع من صراع على بسط النفوذ والسلطة.

 

 

رغم اختلاف الأسلحة والعتاد وتطور التجهيزات والمعدات الآلية إلا أن وجه الحرب بشع ولا يأبه كثيرًا بالعدالة خاصة أثناء الصراع. لكن حين تهدأ الأمور قليلًا ويبسط القوي سيطرته ويظن أن الآخر قد قبل به أو أظهر قبوله له، سيتناسى أن الظُلم لا يمكن نسيانه والدم الذي سكب سيسري في عروق كل مظلوم مانعًا إيّاه من النسيان.

 

 

هنالك دومًا ذلك الشخص الذي يحاول الموازنة بين العداوة العمياء والإنصاف الذي لايتحلى به سوى النبلاء وأصحاب الأخلاق الرفيعة؛ فما أسهل العداوة الأبدية وما أصعب مكابرة الوحش وكبح جماحه ليصبح أكثر عدالة وإنصافًا.

 

الرواية تزخر بالعديد من المواقف التي يتقابل فيها الخير والشر. والمواقف المعلبة التي يفرضها عليك محيطك وأرضك وانتمائك العرقي واصطفافك التلقائي مع من تنتمي وكل الانجرار الجارف الذي لا نعيه إلا بوقفة بعيدة ونائية عن كل الصراعات، نتسائل فيها: هل نحن حقًا على صواب؟

 

 

الكل يظن أنه يفعل الصواب وأنه يقوم بكل هذه الحروب من أجل الصواب ومن أجل إرساء القيم دون أن يرى أنه في هذا المسير قتل للقيم والأخلاق. لن أحدثكم عن شخصيات الرواية الجاذبة والأخّاذة والغامضة خشية فضح جزء من متعتها التي تنتظركم.

 

 

*دار مخطوطة 5229: هي دار نشر إماراتية مختصة بأدب الخيال العلمي والفانتازيا أسستها كاتبة الخيال العلمي الإماراتية نورة النومان. اسم الدار جاء تكريمًا لمخطوطة ابن فضلان التي خطها عن الرحلة التي أوكلها إليه الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى بلاد البلغار. ورقم 5229 هو رقم المخطوطة القابعة في أحد المتاحف التركية المشهورة. وكان للرحلات التي دونها ابن فضلان في المخطوطة فضل في إلهام الكثير من الأعمال الأدبية والفنية، لعل أهمها فلم المقاتل الثالث عشر الذي أنتجته هوليوود عام 1999. وهنا يأتي دورنا نحن في الرجوع إلى هذا التراث الذي أهملناه طويلاً والذي يحمل شتى صنوف الفنون والمعارف التي تخاطب كافة الأعمار ومختلف العقول. أما تخصصية الدار في الخيال العلمي وأدب الفانتازيا فهو ذو أهمية بالغة لشد اليافعين نحو القراءة، حيث كانت ولا زالت قصص الخيال العلمي تجذب الكثير من الشباب وكبار السن وتخاطب مختلف الأعمار. كما أنجب هذا الصنف الأدبي العديد من الشغوفين بالكتابة حيث أثرت هذه القصص بفنتازيتها على خيالهم الإبداعي.

 

 

 

جوستاف فلوبير كاتب الكُتًاب بامتياز؛ الكتابة عنه هي التحدي الحقيقي

$
0
0

 

 

 

"الكمال الحاد يقود حياة هادئة. ولكن كرجل عزّ نظيره فهو يعتبر ساحرًا".

-ميشيل وينوك.

 

 

واحدة من المفاتن وأوجه القصور بذات الوقت في كتب السيرة الذاتية؛ أنها تجعل المواقف مفرطة العادية تبدو مثيرة. وفقًا لميشيل وينوك، غوستاف فلوبير (1821-80) صاحب "مدام بوفاري"، و"التربية العاطفية"غلب عليه "نفور عميق ومبكر من البشرية". بالنسبة لغوستاف الطفل، الإنسان لم يكن إلّا تخثّر من "الطين والخراء... مسلحًا بغرائز أحقر من غرائز خنزير أو قملة".

 

 

لعلّ حدّته هذه كانت بفعل تأثير والده متفتّح الذهن، جراح الرّوان1الشهير، أو لعلّها ليست سوى روح ذلك العصر. المغامرة النابليونيّة كانت قد انتهت؛ وشمس الرومانسيّة قد أفلت. كما يذكّرنا وينوك، مقتبسًا عن ألفرد دو موسيه من كتابه "اعترافات طفل القرن": "الشباب رأوا الأمواج ذات الزبد تنحسر بعيدًا عنهم، وأولئك المقاتلون المغطون بالزيت قد شعروا ببؤس لا يطاق".

 

 

الثانويّة الكئيبة التي التحق بها غوستاف في روان لم تكن لتغيّر شيئًا: "الحياة في مدرسة داخلية كانت قاسية؛ المباني بدائية تفتقر للدفء؛ النظافة ولّدت رغبة غير متحقّقة في أشياء كثيرة؛ الانضباط كان صارمًا؛ والتمردات الطلابية ليست أمرًا غريبًا".

 

 

عبقت المدارس في السير الذاتية بشكل شبه تام برائحة Dothboys Hall2. لقد درستُ في تلك المدرسة عام 1979-80 وقد وجدتها تمامًا كما وصفها وينوك.

 

 

التمرغ في الأوهام الضائعة كان أمرًا شائعًا في ذلك الوقت، كذلك لهجة الرطانة العلمية والبذاءات التي اعتاد فلوبير استخدامها طوال حياته: "أشعر أنّ أمواجًا من الكراهية تجاه غباء هذا الزمن تخنقني. الخراء يرتفع إلى فمي، كما لو أنّ لديّ فتقٌ مختنق (strangulated hernia)". السياسة تتركه باردًا، أو بالأحرى، حانقًا مع مسحة لا مبالاة:

 

"فكرة الوطن، أرض الأجداد – التزام المرء بأن يعيش على بقعة من الأرض ملونة باللون الأحمر أو الأزرق على الخريطة، وأن يبغض البقاع الأخرى الملوّنة بالأخضر أو الأسود – لطالما بدت لي هذه الفكرة ضيقة، قاصرة، وغبية بشدّة."

 

 

 

قرر فلوبير عام 1830، مثل عدد لا يحصى من المراهقين البرجوازيين، أن يُخرج الأفضل من عملٍ سيء، بأن يصبح كاتبًا: "دعونا نسمّم أنفسنا بالحبر، طالما أنّنا نفتقر إلى رحيق الآلهة". "ما يثير الدهشة هنا"يقول وينوك "ليس الموقف إنما قوة صموده."آخر أعمال فلوبير، وهو عملٌ غير مكتمل وغير قابل للاكتمال على الأرجح، هو "قاموس الأفكار النمطية""Dictionnaire des idées reçues". لنستطيع الحكُم وفقًا لما نجا من الكتاب، فإنّه كان ليأخذ شكل دليل محادثة للحمقى: "الإنجليز:جميعهم أغنياء"، "الانتصاب:كلمة لا تُقال إلّا إشارة للنُّصُب الأثريّة". "فرنسا:بحاجة لقبضة من حديد حتّى تُحكَم". تَمثَّل أمل فلوبير في ألّا يجرؤ قراء "موسوعة الغباء البشري"على قول أي شيء ثانيةً في حال تلفظوا عن غير قصد بواحدة من الجمل الواردة فيه. كان يُمكن أن يُعنون الكتاب فرعيًا بـ "أيّها العالم، أغلق فمك".

 

 

"ما الدّاعي لكتابة سيرة ذاتية أخرى لفلوبير؟"هكذا استهل وينوك كتابه عن فلوبير. علاوة، ما الدّاعي لكتابة سيرة ذاتية لفلوبير في المطلق؟"، لقد أمضى فلوبير حياته تقريبًا في بيت صيفي فوق نهر السين، ممتعضًا من غباء الجنس البشري، ويكتب - وهذا يعني، ملءُ سلة المهملات بالورق، واستخلاص جملة واحدة عرضية من بين ما كتبه - لمدة 14 ساعة يوميًا. حين يرفع عينيه، يرى سواري سفن غير مرئية تعبر النهر، وفي إحدى المرات، سيرى مسلة الأقصر وهي في طريقها إلى باريس. هكذا كان حال تسعة أعشار لحظات صحو فلوبير - "ضخم، متين، غاول3فاتن بشاربٍ كثّ، أنف يشي بالقوّة، وحاجبين يحتضنان عينا طائر بحريّ زرقاوين" - يغطّس قلمه في محبرةٍ على شكل ضفدع.

 

 

 

من حسن حظ كاتبي سيرته الذاتية، أنه سافر كثيرًا، لاسيما سفره إلى مصر. على غرار العديد من الفنانين الشباب في تلك الفترة، جرّب فلوبير اللواط. وأخبر صديقا له عقب زيارة لحمامات القاهرة: "لقد كانت مزحة، هذا كل شيء، ولكنني سأكرّرها ثانية". "كي تتم التجربة بشكل جيد، يجب أن تتكرر" (ورد في النص الفرنسي كلمة experience ولكن بشكل أوضح لتقارب الإنجليزية والفرنسية وجب أن تكون .experiment). أصيب فلوبير بالزهري أيضًا، كما حصل مع "الجميع حرفيًا"، وفقا لآخر أعماله "قاموس الأفكار النمطية""Dictionnaire des idées reçues". مع ذلك، وكما يورد الراوي في رواية جوليان بارنز "ببغاء فلوبير – Flaubert’s Parrot"لقد كان له "سيرة جنسية نشطة ومليئة بالألوان". ترد بعض الأمثلة التفصيلية في رسائله إلى الشاعرة لويز كوليت؛ إلا أننا نكاد لا نعرف شيئا عن غراميّاته الطويلة أو صداقته مع المربية الإنجليزية، جولييت هربرت، التي ترجمت "مدام بوفاري"قبل أن تُنشر. (النص المترجم، الذي أسماه فلوبير بـ "التحفة"، قد اختفى).

 

 

 

 

(صفحة من مخطوطة كتاب "مدام بوفاري"
يكتب فلوبير مدة 14 ساعة في اليوم، يملأ سلة المهملات بالأوراق، ويستخلص جملة واحدة عرضية من بين ما كتبه.

أعلى يمين الصفحة: "ضخم، متين،  غاول فاتن بشاربٍ كثّ، أنف يشي بالقوّة، وعينا طائر بحريّ زرقاوين".)

 

 

 

 

لاحقًا، سيكون هناك عشاءات أدبية وأمسيات في بلاط نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني. ولكن في نهاية كل رحلة، هناك ما سيغلق باب الكاتب تاركًا كاتب السيرة يسير في درب حديقته ناظرًا بحزن إلى نافذة مكتبه. فقط لو أنّ فلوبير لم يمضِ وقتًا طويلًا وهو يكتب...

 

كتب وينوك هذه السيرة ليس لأن لديه شيئا جديدًا ليقوله، إنما كتبها كمؤرخ، يريد تصوير "حياة رجل عزّ نظيره". "إنها سيرة ذاتية كتبت من أجل المتعة". تكمن مشكلة تصوير فلوبير كرجلِ عصره في القدرة على لفته والقارئ معه إلى "ملل وهوان الوجود". بحلول نهاية السيرة، نجد أن وينوك قد أقصى بشكل منظم التفاصيل المؤلمة – نوبات صرع فلوبير، اقتراضه وخسارته للمال- مثل منفّذ إعدام بارع. الفصل 25: "اضطرابات الحزن". الفصل 26: "الخراب والفجيعة الماليّة". أخبرني الكاتب الإنجليزي الأخير لسيرة فلوبير، الأكاديمي الترحاب "جيفري وول"أنه اعتزم تجاهل الشهور الأخيرة من حياة فلوبير بشكل كامل قبل أن يتدخّل ناشره، معترضًا على ذلك الانتحار لسيرته، مصرًّا على أنّه "لا يمكن أن تكتب عن الحياة دون الموت!".

 

 

وفقًا لحساباته، أفرد وينوك مساحةً كبيرةً لرسائل فلوبير ورواياته، وهذا في الواقع يعد بمثابة النقطة الرئيسة التي تدور حولها أيّ سيرة لفلوبير. في ثلاثينات القرن التاسع عشر، شاع بين الشباب متقلّب المشاعر رغبتهم في أن يكبروا (أو أن لا يكبروا) ليصيروا كتابًا. عام 2015، أظهرت نتائج استطلاع أجرته "YouGov"أن 60% من الشعب البريطاني يرغبون في أن يكونوا كتّابًا. هؤلاء ال38 مليون شخصًا قد يجدوا نصيحة مفيدة ضمن مراسلات فلوبير. عِش مثل برجوازي وفكر مثل نصف إله. اتلُ أحكامك بأعلى صوتك كي تختبر تجانسها وإيقاعها. لتنقل وميض الإثارة الجنسيّة إلى المشاهد الرومانسية، عليك أولا أن تكتب نسخة إباحية وقحة ثم قم بتنقيحها. هذه العمليّة، الأقرب إلى حرق البراندي قبالة حلوى عيد الميلاد، يبدو أنّها أفلحت مع "مدام بوفاري": قُوضِيَ كاتبها لفُحشها، ثمّ تمّت تبرئته. لاحظ المدّعي العام غياب أيّ شيءٍ"يشفّ أو يحجب"في أوصاف فلوبير "الفاسقة"؛ من المؤكّد أنّه لاقى صعوبة في وضع إصبعه على أيّ فجورٍ واضح.

 

 

 

 غالبا ما تمّ وصف فلوبير بكاتب الكُتّاب؛ ولكن طلاب الكتابة الإبداعية حُذِّروا من أنه لم يكن راغبًا في أن يكون كاتبًا عن الكُتَّاب. وهذه السيرة الذاتية تعطي حسا جيّدًا من تركيبة بؤس لا تكلّ: "ألِحّ في الانتقاد، انغمس أكثر، قلّب المسألة مرارًا وتكرارًا، فتّش في الداخل". لم يُشر فلوبير هنا، إلى كتاب برمّته، بل إلى جملة واحدة فيه. خلال أكثر من أربع ظهيرات وأمسيات، استمع أصدقاء فلوبير إليه في إنصات تام وهو يردد ما كتبه في "إغراء القديس أنطوني"، والذي استغرقت كتابته ثلاثة سنوات، وفيما بعد أخبروه أنّ عليه إمّا إعادة كتابته كاملًا أو أن يلقيه في النيران. ربما لم يكن هذا ما تسمّيه شلل الكتّاب بـ "الدعم المتبادل"ولكنّها كانت لفتةً طيبة مثيرة للإعجاب. النسخة النهائية، والتي نشرت بعد 25 عامًا؛ قد تحسنت كثيرًا. عندما نشر كتابه الأول، مدام بوفاري، وظهوره أخيرًا في عام 1857، شعر بالإحراج والمهانة عند رؤية نفسه في المطبعة:

 

 

"لقد لاحظت فقط الأخطاء المطبعية، ثلاثة أو أربعة تكرارات... صفحة واحدة يكثر فيها الاسم الموصول "الّذي". أما الباقي، كان سوادًا، لا شيء أكثر".

 

 

 

تتكون السيرة الذاتية حتمًا وبالكامل من التفاصيل الهامة. روايات فلوبير – سواء كانت تدور حول الزنا في الأقاليم أو عن هلاوس قديس من القرن الثالث في صحراء نَتِريان – تستحقّ أن نتذكّرها بسبب ما أسماه رولان بارت ب "تفاصيل عقيمة - futile details": الذباب يطن في أكواب عصير التفاح الفارغة في مطبخ المزرعة، صوت أفرع الشجر تحفّ بسقف عربة، كلب ينبح في البعيد. ومن بين جميع الأمور التافهة المستفزة في عالم يحكمه الحمقى، تبرزُ ألغاز جميلة، لا معنى لها، ينبثق منها ببطء أحكام مؤلمة ومثالية قابلة للاكتشاف.

 

 

 

بطاقة تعريف بالكاتب: كتب غراهام روب سيرًا ذاتيّة لكلٍّ من بالزالك، هيغو، ورامبو، أيضًا له كتاب بعنوان "اكتشاف فرنسا والباريسيّين: تاريخ مغامرة باريس".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

(1): الروان: ميناء على نهر السّين يقع شمال غرب فرنسا.

(2): مدرسة داخليّة وردت في رواية "Nicholas Nickleby"لتشارلز ديكنز، وهي مدرسة لا عُطَل فيها، ويُمنع التلاميذ الذين يعتدى عليهم أو يستخف بهم من قبل مدير المدرسة مستر واكفورد سكويرز من زيارة منازلهم فيها.

(3): تقسيم قديم لأوروبا كان يشمل فرنسا حاليًا، بلجيكا، جنوب هولندا، جنوب غرب المانيا، وشمال إيطاليا. المنطقة الواقعة جنوبيّ الألب تمّ غزوها 222 قبل الميلاد من قبل الرومان، وأُطلق عليها سيسالباين غاول (Cisalpine Gaule). المنطقة شماليّ الألب، عُرفت بترانزلباين غاول (Transalpine Gaul)، وتمّ غزوها من قبل يوليوس قيصر بين 58 و51 قبل الميلاد.

 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

جوستاف فلوبير كاتب الكُتّاب بامتياز؛ الكتابة عنه هي التحدي الحقيقي

$
0
0

 

 

 

"الكمال الحاد يقود حياة هادئة. ولكن كرجل عزّ نظيره فهو يعتبر ساحرًا".

-ميشيل وينوك.

 

 

واحدة من المفاتن وأوجه القصور بذات الوقت في كتب السيرة الذاتية؛ أنها تجعل المواقف مفرطة العادية تبدو مثيرة. وفقًا لميشيل وينوك، غوستاف فلوبير (1821-80) صاحب "مدام بوفاري"، و"التربية العاطفية"غلب عليه "نفور عميق ومبكر من البشرية". بالنسبة لغوستاف الطفل، الإنسان لم يكن إلّا تخثّر من "الطين والخراء... مسلحًا بغرائز أحقر من غرائز خنزير أو قملة".

 

 

لعلّ حدّته هذه كانت بفعل تأثير والده متفتّح الذهن، جراح الرّوان1الشهير، أو لعلّها ليست سوى روح ذلك العصر. المغامرة النابليونيّة كانت قد انتهت؛ وشمس الرومانسيّة قد أفلت. كما يذكّرنا وينوك، مقتبسًا عن ألفرد دو موسيه من كتابه "اعترافات طفل القرن": "الشباب رأوا الأمواج ذات الزبد تنحسر بعيدًا عنهم، وأولئك المقاتلون المغطون بالزيت قد شعروا ببؤس لا يطاق".

 

 

الثانويّة الكئيبة التي التحق بها غوستاف في روان لم تكن لتغيّر شيئًا: "الحياة في مدرسة داخلية كانت قاسية؛ المباني بدائية تفتقر للدفء؛ النظافة ولّدت رغبة غير متحقّقة في أشياء كثيرة؛ الانضباط كان صارمًا؛ والتمردات الطلابية ليست أمرًا غريبًا".

 

 

عبقت المدارس في السير الذاتية بشكل شبه تام برائحة Dothboys Hall2. لقد درستُ في تلك المدرسة عام 1979-80 وقد وجدتها تمامًا كما وصفها وينوك.

 

 

التمرغ في الأوهام الضائعة كان أمرًا شائعًا في ذلك الوقت، كذلك لهجة الرطانة العلمية والبذاءات التي اعتاد فلوبير استخدامها طوال حياته: "أشعر أنّ أمواجًا من الكراهية تجاه غباء هذا الزمن تخنقني. الخراء يرتفع إلى فمي، كما لو أنّ لديّ فتقٌ مختنق (strangulated hernia)". السياسة تتركه باردًا، أو بالأحرى، حانقًا مع مسحة لا مبالاة:

 

"فكرة الوطن، أرض الأجداد – التزام المرء بأن يعيش على بقعة من الأرض ملونة باللون الأحمر أو الأزرق على الخريطة، وأن يبغض البقاع الأخرى الملوّنة بالأخضر أو الأسود – لطالما بدت لي هذه الفكرة ضيقة، قاصرة، وغبية بشدّة."

 

 

 

قرر فلوبير عام 1830، مثل عدد لا يحصى من المراهقين البرجوازيين، أن يُخرج الأفضل من عملٍ سيء، بأن يصبح كاتبًا: "دعونا نسمّم أنفسنا بالحبر، طالما أنّنا نفتقر إلى رحيق الآلهة". "ما يثير الدهشة هنا"يقول وينوك "ليس الموقف إنما قوة صموده."آخر أعمال فلوبير، وهو عملٌ غير مكتمل وغير قابل للاكتمال على الأرجح، هو "قاموس الأفكار النمطية""Dictionnaire des idées reçues". لنستطيع الحكُم وفقًا لما نجا من الكتاب، فإنّه كان ليأخذ شكل دليل محادثة للحمقى: "الإنجليز:جميعهم أغنياء"، "الانتصاب:كلمة لا تُقال إلّا إشارة للنُّصُب الأثريّة". "فرنسا:بحاجة لقبضة من حديد حتّى تُحكَم". تَمثَّل أمل فلوبير في ألّا يجرؤ قراء "موسوعة الغباء البشري"على قول أي شيء ثانيةً في حال تلفظوا عن غير قصد بواحدة من الجمل الواردة فيه. كان يُمكن أن يُعنون الكتاب فرعيًا بـ "أيّها العالم، أغلق فمك".

 

 

"ما الدّاعي لكتابة سيرة ذاتية أخرى لفلوبير؟"هكذا استهل وينوك كتابه عن فلوبير. علاوة، ما الدّاعي لكتابة سيرة ذاتية لفلوبير في المطلق؟"، لقد أمضى فلوبير حياته تقريبًا في بيت صيفي فوق نهر السين، ممتعضًا من غباء الجنس البشري، ويكتب - وهذا يعني، ملءُ سلة المهملات بالورق، واستخلاص جملة واحدة عرضية من بين ما كتبه - لمدة 14 ساعة يوميًا. حين يرفع عينيه، يرى سواري سفن غير مرئية تعبر النهر، وفي إحدى المرات، سيرى مسلة الأقصر وهي في طريقها إلى باريس. هكذا كان حال تسعة أعشار لحظات صحو فلوبير - "ضخم، متين، غاول3فاتن بشاربٍ كثّ، أنف يشي بالقوّة، وحاجبين يحتضنان عينا طائر بحريّ زرقاوين" - يغطّس قلمه في محبرةٍ على شكل ضفدع.

 

 

 

من حسن حظ كاتبي سيرته الذاتية، أنه سافر كثيرًا، لاسيما سفره إلى مصر. على غرار العديد من الفنانين الشباب في تلك الفترة، جرّب فلوبير اللواط. وأخبر صديقا له عقب زيارة لحمامات القاهرة: "لقد كانت مزحة، هذا كل شيء، ولكنني سأكرّرها ثانية". "كي تتم التجربة بشكل جيد، يجب أن تتكرر" (ورد في النص الفرنسي كلمة experience ولكن بشكل أوضح لتقارب الإنجليزية والفرنسية وجب أن تكون .experiment). أصيب فلوبير بالزهري أيضًا، كما حصل مع "الجميع حرفيًا"، وفقا لآخر أعماله "قاموس الأفكار النمطية""Dictionnaire des idées reçues". مع ذلك، وكما يورد الراوي في رواية جوليان بارنز "ببغاء فلوبير – Flaubert’s Parrot"لقد كان له "سيرة جنسية نشطة ومليئة بالألوان". ترد بعض الأمثلة التفصيلية في رسائله إلى الشاعرة لويز كوليت؛ إلا أننا نكاد لا نعرف شيئا عن غراميّاته الطويلة أو صداقته مع المربية الإنجليزية، جولييت هربرت، التي ترجمت "مدام بوفاري"قبل أن تُنشر. (النص المترجم، الذي أسماه فلوبير بـ "التحفة"، قد اختفى).

 

 

 

 

(صفحة من مخطوطة كتاب "مدام بوفاري"
يكتب فلوبير مدة 14 ساعة في اليوم، يملأ سلة المهملات بالأوراق، ويستخلص جملة واحدة عرضية من بين ما كتبه.

أعلى يمين الصفحة: "ضخم، متين،  غاول فاتن بشاربٍ كثّ، أنف يشي بالقوّة، وعينا طائر بحريّ زرقاوين".)

 

 

 

 

لاحقًا، سيكون هناك عشاءات أدبية وأمسيات في بلاط نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني. ولكن في نهاية كل رحلة، هناك ما سيغلق باب الكاتب تاركًا كاتب السيرة يسير في درب حديقته ناظرًا بحزن إلى نافذة مكتبه. فقط لو أنّ فلوبير لم يمضِ وقتًا طويلًا وهو يكتب...

 

كتب وينوك هذه السيرة ليس لأن لديه شيئا جديدًا ليقوله، إنما كتبها كمؤرخ، يريد تصوير "حياة رجل عزّ نظيره". "إنها سيرة ذاتية كتبت من أجل المتعة". تكمن مشكلة تصوير فلوبير كرجلِ عصره في القدرة على لفته والقارئ معه إلى "ملل وهوان الوجود". بحلول نهاية السيرة، نجد أن وينوك قد أقصى بشكل منظم التفاصيل المؤلمة – نوبات صرع فلوبير، اقتراضه وخسارته للمال- مثل منفّذ إعدام بارع. الفصل 25: "اضطرابات الحزن". الفصل 26: "الخراب والفجيعة الماليّة". أخبرني الكاتب الإنجليزي الأخير لسيرة فلوبير، الأكاديمي الترحاب "جيفري وول"أنه اعتزم تجاهل الشهور الأخيرة من حياة فلوبير بشكل كامل قبل أن يتدخّل ناشره، معترضًا على ذلك الانتحار لسيرته، مصرًّا على أنّه "لا يمكن أن تكتب عن الحياة دون الموت!".

 

 

وفقًا لحساباته، أفرد وينوك مساحةً كبيرةً لرسائل فلوبير ورواياته، وهذا في الواقع يعد بمثابة النقطة الرئيسة التي تدور حولها أيّ سيرة لفلوبير. في ثلاثينات القرن التاسع عشر، شاع بين الشباب متقلّب المشاعر رغبتهم في أن يكبروا (أو أن لا يكبروا) ليصيروا كتابًا. عام 2015، أظهرت نتائج استطلاع أجرته "YouGov"أن 60% من الشعب البريطاني يرغبون في أن يكونوا كتّابًا. هؤلاء ال38 مليون شخصًا قد يجدوا نصيحة مفيدة ضمن مراسلات فلوبير. عِش مثل برجوازي وفكر مثل نصف إله. اتلُ أحكامك بأعلى صوتك كي تختبر تجانسها وإيقاعها. لتنقل وميض الإثارة الجنسيّة إلى المشاهد الرومانسية، عليك أولا أن تكتب نسخة إباحية وقحة ثم قم بتنقيحها. هذه العمليّة، الأقرب إلى حرق البراندي قبالة حلوى عيد الميلاد، يبدو أنّها أفلحت مع "مدام بوفاري": قُوضِيَ كاتبها لفُحشها، ثمّ تمّت تبرئته. لاحظ المدّعي العام غياب أيّ شيءٍ"يشفّ أو يحجب"في أوصاف فلوبير "الفاسقة"؛ من المؤكّد أنّه لاقى صعوبة في وضع إصبعه على أيّ فجورٍ واضح.

 

 

 

 غالبا ما تمّ وصف فلوبير بكاتب الكُتّاب؛ ولكن طلاب الكتابة الإبداعية حُذِّروا من أنه لم يكن راغبًا في أن يكون كاتبًا عن الكُتَّاب. وهذه السيرة الذاتية تعطي حسا جيّدًا من تركيبة بؤس لا تكلّ: "ألِحّ في الانتقاد، انغمس أكثر، قلّب المسألة مرارًا وتكرارًا، فتّش في الداخل". لم يُشر فلوبير هنا، إلى كتاب برمّته، بل إلى جملة واحدة فيه. خلال أكثر من أربع ظهيرات وأمسيات، استمع أصدقاء فلوبير إليه في إنصات تام وهو يردد ما كتبه في "إغراء القديس أنطوني"، والذي استغرقت كتابته ثلاثة سنوات، وفيما بعد أخبروه أنّ عليه إمّا إعادة كتابته كاملًا أو أن يلقيه في النيران. ربما لم يكن هذا ما تسمّيه شلل الكتّاب بـ "الدعم المتبادل"ولكنّها كانت لفتةً طيبة مثيرة للإعجاب. النسخة النهائية، والتي نشرت بعد 25 عامًا؛ قد تحسنت كثيرًا. عندما نشر كتابه الأول، مدام بوفاري، وظهوره أخيرًا في عام 1857، شعر بالإحراج والمهانة عند رؤية نفسه في المطبعة:

 

 

"لقد لاحظت فقط الأخطاء المطبعية، ثلاثة أو أربعة تكرارات... صفحة واحدة يكثر فيها الاسم الموصول "الّذي". أما الباقي، كان سوادًا، لا شيء أكثر".

 

 

 

تتكون السيرة الذاتية حتمًا وبالكامل من التفاصيل الهامة. روايات فلوبير – سواء كانت تدور حول الزنا في الأقاليم أو عن هلاوس قديس من القرن الثالث في صحراء نَتِريان – تستحقّ أن نتذكّرها بسبب ما أسماه رولان بارت ب "تفاصيل عقيمة - futile details": الذباب يطن في أكواب عصير التفاح الفارغة في مطبخ المزرعة، صوت أفرع الشجر تحفّ بسقف عربة، كلب ينبح في البعيد. ومن بين جميع الأمور التافهة المستفزة في عالم يحكمه الحمقى، تبرزُ ألغاز جميلة، لا معنى لها، ينبثق منها ببطء أحكام مؤلمة ومثالية قابلة للاكتشاف.

 

 

 

بطاقة تعريف بالكاتب: كتب غراهام روب سيرًا ذاتيّة لكلٍّ من بالزالك، هيغو، ورامبو، أيضًا له كتاب بعنوان "اكتشاف فرنسا والباريسيّين: تاريخ مغامرة باريس".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

(1): الروان: ميناء على نهر السّين يقع شمال غرب فرنسا.

(2): مدرسة داخليّة وردت في رواية "Nicholas Nickleby"لتشارلز ديكنز، وهي مدرسة لا عُطَل فيها، ويُمنع التلاميذ الذين يعتدى عليهم أو يستخف بهم من قبل مدير المدرسة مستر واكفورد سكويرز من زيارة منازلهم فيها.

(3): تقسيم قديم لأوروبا كان يشمل فرنسا حاليًا، بلجيكا، جنوب هولندا، جنوب غرب المانيا، وشمال إيطاليا. المنطقة الواقعة جنوبيّ الألب تمّ غزوها 222 قبل الميلاد من قبل الرومان، وأُطلق عليها سيسالباين غاول (Cisalpine Gaule). المنطقة شماليّ الألب، عُرفت بترانزلباين غاول (Transalpine Gaul)، وتمّ غزوها من قبل يوليوس قيصر بين 58 و51 قبل الميلاد.

 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 


راي برادبري؛ حين يدق ناقوس الكتابة فلا مفر

$
0
0

 

 

 

تعرفت على راي برادبري في لقاءات عدة جمعتنا بين صفحات كتابه "الزن في فن الكتابة"، عرفني منذ أن وقعت عيني على سطوره الأولى؛ لاجئة يحملها قارب خشبي متهالك إلى المجهول في ليالٍ لا شمس لها، أخبرني أن الهرب من الصوت المدوي في عالمي عبث بلا فائدة؛ فليس هناك نهاية للرغبة المتراقصة أمامك والكل نيام، تخايلك حتى تعزف لها من كلماتك، تكتب عن ذاتك، وتصف نداهة خواطرك، عندها لا مفر من قلم وورقة، ورفقة الكلمات التي لن تغادرك.

 

 

ماذا تعلّمنا الكتابة؟

"تذكرنا بأننا أحياء وأن الحياة هدية وامتياز، وليست حقًا. يجب علينا أن نستحق الحياة، بمجرد أن نحصل عليها".

فسألته: وإن امتنعت عنها.

فأجاب برادبري ساخرًا: "عدم الكتابة، بالنسبة لكثيرين منا يعنى الموت".

ثم استطرد:

"تذكر عازف البيانو الذي قال أنه إذا لم يتدرب يومًا، فسيعرف هو ذلك، وإذا لم يتدرب ليومين، سيعرف النقاد ذلك، وبعد ثلاثة أيام، سيعرف الجمهور ذلك. الأمر نفسه ينطبق على الكتابة. ولا يعني هذا أن أسلوبك سوف يتبدد خلال أيام، ولكن ما سيحدث هو أن العالم سيصطادك، ويحاول أن يصيبك بالمرض. إذا لم تكتب كل يوم، ستتكدس فيك السموم وتبدأ بالموت، أو التصرف بجنون، أو كلاهما. يجب أن تبقى ثملاً بالكتابة حتى لا يدمرك الواقع".

 

 

 

وحقيقةٌ ما قال؛ فإن لم أكتب يسري الوهن في روحي وأبدأ بالهذيان، وإن كتبت أنتشل نفسي من ظلمة حالكة، تخيف أشجع الأبطال.

 

 

مع شرودي قال راي بصوت يغمره الحماس:

"كل صباح أقفز خارج السرير، وأخطو على أرض مليئة بالألغام، هذه الأرض هي أنا. بعد الانفجار، أقضي بقية اليوم في إعادة وضع القطع مع بعضها البعض.

إنه دورك الآن، اقفز!.".

 

 

 

ابتسمت لتلك الروح التي تهدم اليأس داخلي بمعولها، ولاحظ أنني لا أملك عزيمته فأخذ يرسم الدافع، المحرك الذي يجعل القلم الساكن يعمل بكل قواه:

 

 

"أوصي الكاتب فقط بأن يحرص على لذته، وأن يهتمّ بمتعته. فكّر بأسماء كتابك المفضلين، وستجد أنك تفكر في صنوف من اللذة والشهوة والجوع. لقد عرف جميعهم متعة الخلق. لقد عرفوا المتعة في عملهم .

كل واحد منهم قبض على شيء من زئبق الحياة، جمّده لبعض الوقت ثم أعاده في وهج إبداعه.

إذا كنت تكتب بلا لذة، بلا متعة، بلا حب، بلا لهو، فأنت نصف كاتب فقط.

أول ما ينبغي للكاتب أن يكونه هو أن يكون متشوقًا. يجب أن يكون شيئًا مصنوعًا من النشاط والحمى".

 

 

 

 

أنصتُ له، وكأنني أرى ألوان الطيف تجري حافية في المرج الشاسع وهدير الماء مع النسمات يعلو، لذة ومتعة. وأعجبه ما بادر خيالي فألقى المزيد من الحطب في مدفأتي :

 

 

"متى كانت آخر مرة كتبت فيها قصة قصيرة، حيث حبك الحقيقي وكراهيتك الحقيقية خرجتا بطريقة ما إلى الورق؟ ومتى كانت آخر مرة تجرأت فيها على إطلاق تحيزاتك العزيزة حيث تضرب الصفحة مثل سهم من برق. ما هي أفضل و أسوأ الأشياء في حياتك، ومتى ستتجرأ على الهمس بها أو الصراخ؟."

 

 

 

أسئلة عديدة رمقتني بنظرات تؤنبني، تتحدى كائن ما يسكنني أن يخرج ويبارزها، يقول ها أنا ذا أتجرأ وأكتب.

وأنت؛ هل تتوق لبدء مغامرتك؟ لاستكشاف ذاتك بالكتابة، هل تجرؤ؟

 

 

 

 

4 كتب مميزة للمهتمين بالتنمية البشرية

$
0
0

 

 

 

ظهرت العديد من العلوم التي تهتم بالتأثير بشكل إيجابي على حياة الناس العملية والاجتماعية؛ كالتنمية البشرية والذاتية، وكثرت الكتب التي تقدّم النصائح في مختلف المجالات للوصول لحياة أفضل بطريقة أفضل.

 

 

في هذا السياق يبرز خلاف بين القراء يتعلّق بمدى إيمانهم بما يمكن لكتب التنمية البشرية أن تقدمه، ولأي مدى يمكن أن يصدق كتّابها بما يدّعونه لها من قوة في التأثير الإيجابي على الناس وحياتهم.

 

 

عربيًا، يكثر كتّاب ومدربوا التنمية البشرية، وبالنظر إلى مؤلفاتهم للوهلة الأولى تبدو العناوين متشابهة ومكررة وقريبة جدًا من بعضها؛ فهل يختلف المحتوى حقًا، أم أن كتب التنمية البشرية جميعها لا تعدو كونها إعادة لا تنتهي لأسطوانة رديئة؟

 

 

في هذا المقال؛ نطرح أهم كتب التنمية البشرية، أشهرها وأكثرها تأثيرًا عندما يكون المطلوب تحفيز الشخص على القيام بأمر معيّن في حياته العملية، الاجتماعية وحتى العاطفية.

 

 

 

كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس

يعدّ ديل كارنيجي من أهمّ مؤلفي كتب التنمية البشرية. كتابه "كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس"من أكثر الكتب مبيعًا حول العالم، إذ تجاوزت مبيعاته 16 مليون نسخة وتمت ترجمته إلى لغات عديدة –من ضمنها العربية-. يوفر كارنيجي للقارئ دليلًا عمليًا في كيفية الدخول في علاقات مميزة مع الناس وكسب الأصدقاء بشكل أسرع وأكثر ديمومة. هذا الكتاب يعالج العلاقات مع الناس على المستويين الشخصي والاجتماعي، من خلال رحلة ممتعة للأفكار التي ستفيدك معرفتها.

 

 

 

كتاب قوة التفكير الإيجابي

للكاتب نورمان فينسينت بيل. هوجم الكتاب من قبل العديد من الأطباء النفسيين، ليثبت لاحقًا صحة المبادئ الواردة فيه.

يساعدك "قوة التفكير الإيجابي"في تحقيق أكبر قدر من النجاح والتفوق في حياتك، ويعتبر من أفضل الكتب التحفيزية التي ينصح بها؛ إذ يركّز بشكل كبير على بناء الثقة بالنفس بوصفها مصدر القوة الأهم الذي يجب أن يسعى لها الإنسان. يطرح الكتاب أيضًا حاجة الإنسان لأن يستمد القوة من المصادر الروحية –كالصلاة مثلًا-.

 

 

 

كتاب العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية

الكتاب الأروع في مجال التنمية البشرية للكاتب ستيفن آر كوفي. الذي بيعت منه أكثر من 15 مليون نسخة، كما ترجم إلى 38 لغة.

يحتوي الكتاب على العديد من الأفكار البناءة التي تعمل على تعزيز العلاقات بين الإنسان والآخرين من حوله؛ إذ يتعرض لسبع مبادئ، إذا طبقت كعادات فإنها من المفترض أن تساعد الشخص على أن يكون أكثر فعالية.

ستيفن آر كوفي يؤكد أنه يمكن تحقيق ذلك عن طريق مواءمة النفس إلى ما يسميه "البوصلة الداخلية باتجاه الشمال"، على أساس المبادئ الأساسية للأخلاقيات التي يعتقد أنها عالمية وغير محدودة زمنيًا.

هذا الكتاب الذي اكتسب شهرة عالمية يستحقها، يعمل على رسم طريق واضح لقارئه في سبيل اكتساب العادات المميزة.

 

 

 

كتاب أفضل رجل مبيعات في العالم

قام من خلاله الكاتب أو جي ماندينو بطرح دليل عملي مهم في كيفية تسويق نفسك، حتى تحقق أكبر قدر من النجاح والإنجازات في حياتك بأكثر طريقة صحيحة ممكنة.

يحمل كتاب "أفضل رجل مبيعات في العالم"بين طياته منهجية واضحة من أجل الحصول على الحياة الناجحة، كما يركّز على مساعدك في أن تتمتع بالإيمان بقدراتك الذاتية التي منحك الله إياها، بمنحك طريقة لترتيب أفكارك بأسلوب جيد.

 

 

 

 

"حكاية مملة"؛ حكاية تشيخوف التي نستمرّ بالعيش داخلها

$
0
0

 

تكتسب الحكايات الملل عندما تتكرر أحداثها مرة تلو الأخرى، ونحن نقف متفرجين، فتستمر في تكرارها ساخرة منا.

 

 

"حكاية مملة"رواية صغير لا تتخطى 70 صفحة، كتبها الأديب الروسي أنطون تشيخوف، منذ قرابة قرنين من الزمان وما زالت تتكرر إلى يومنا هذا، تروي الوجه الحقيقي للحياة؛ الحياة المترفة الظاهرة للناس والبؤس الداخلي الذي لا يتجلى إلا لأصحابه. إنها حكاية المظاهر الكاذبة والابتسامات المزيفة.

 

 

تروي الحكاية على لسان الدكتور الجامعي نيكولاي ستيبانفتش الذي تخطى الستين من عمره، ليبدأ في إعادة نظرته للحياة، ينظر لنفسه ليجد أن مرضه اشتد؛ أصبح هزيل ولا يعتقد أنه سيعيش أكثر من نصف عام آخر، فمن ينتظر الموت تضجر روحه ولا يشعر بقيمة أي إنجاز في حياته مهما كان كبيرًا، لذلك رغم ما وصل إليه الدكتور نيكولاي من مجد وشهرة تخطت روسيا إلى أوروبا، إلا أنه رأى أنه عاش مهزومًا وسيموت مهزومًا، فهو لم يصل لشيء، ولذلك كان يفكر باستمرار في شطب حياته السابقة ومع ذلك لم يترك عمله في الجامعة رغم الصعوبة التي أصبح يواجهها في شرح محاضراته، فيخبره ضميره أن عليه ترك منصبه ليأخذه شاب طموح، لكنه يصر على البقاء رغم ما يشاهده من تثاءب وشرود الطلاب في محاضراته لشعورهم بالملل. ينظر إلى العلم وأهميته فيجد أنه تحول إلى لقب ومكانة اجتماعية يسعى إليها طلاب الدراسات العليا وليس رغبة منهم في العلم والمعرفة.

 

 

يجلس مع أسرته فيزداد شعور بالغربة، ينظر لزوجته ويتسائل باستنكار هل هذه الزوجة التي أحببتها يوما؟ من أحببتها كانت رشيقة بسيطة ذكية أما ما أراه الآن؛ زوجة مترهلة تغيّر أصناف الطعام تبعًا للمكانة الاجتماعية التي يحصل عليها زوجها وتحرمه من الأطباق البسيطة التي يحب تناولها، إنها تمثل دور امرأة رفيعة المستوى أمام صديق ابنتها، من أجل أن تؤمن زوج جيد لها وتهتم كثيرًا بالعادات والتقاليد وكلام الناس، لا تلقي بالًا لدخل زوجها الذي لا يكفي لسداد راتب الخادم، المهم أن تعيش بطريقة تناسب مكانته الاجتماعية، ينظر لكل هذا ويشعر بالحزن، إذا كانت زوجته لا تبالي، فلتنصفه ابنته التي طالما دللها، لكنّها لم تفكر وهي تراه لا ينام ويفكر في تدبير المال اللازم للبيت ودينه للخادم في أن تقدم جزءًا من مجوهراتها، لم يكن ليأخذها، لكنه كان يحتاج هذا الشعور.

 

 

 

لينتقل لكاتيا ابنة صديقه الذي أوصاه أن يعتني بها بعد وفاته، طفلة مليئة بالبراءة والصبا والطموح، لكن تجارب الحياة التي مرت بها، جعلتها تبدو وكأنها "خدعت  بلا رحمة"، لتكبر ويتحول الوجه البرئ المليء بالشغف إلى وجه بارد لا مبالٍ.

 

 

 

كانت دومًا تسأل نيكولاي عما يجب أن تفعله وعن الهدف من هذه الحياة، وكان أستاذها دومًا عاجز عن الإجابة، وعندما يجيب فإن إجابته لا تقنعها، إلى أن اعترف لها يوما أنه لا يعرف!

كما لم ينس أكثر الحكايات مللًا، وهي حكايات النساء وكيف تستطيع كل واحدة منهنّ أن تعدد عيوب غيرها، وتطرق أيضًا إلى الاحترام الزائد بين الرجال الذي يخفى بعض الكره والضيق.

 

 

ليسأل نفسه بعد إعادة نظره "هل أصبح العالم سيئًا وأنا أفضل، أم أنني كنت سابقًا أعمى وغير مبال؟"

 

 

وأنا أتساءل؛ هل نحتاج أن نكون على مشارف الموت لنعيد النظر في حياتنا؟ لماذا نتأخر كثيرًا في رؤية المسار الصحيح الذي نريده؟

 

 

إنها حكاية قصيرة بمضمون كبير؛ حكاية مملة نستمر بالعيش داخلها.

 

 

 

الأدب القصصي؛ وجهتك الأولى في تعلم اللغات

$
0
0

 

 

أنا لست خبير لغة بأي حال من الأحوال. أقرأ وأتكلم الإسبانية والفرنسية بشكل جيّد والإيطالية على نحو مقبول، متعثر بالنسبة للألمانية، مع ذلك، أعتقد أن تعلم اللغات هو انفجار، ولطالما كانت الكتب هي المفتاح.

ما أنوي القيام به من خلال هذا المقال هو عرض تجربتي بالتدرج بالقراءة بلغة أجنبية والتي أتت ثمارها بصورة جيدة.

 

 

بالتأكيد لم تكن القراءة هي من جعلني أُتقن أي لغة مما ذكرت، أنوه مجددًا، إن قراءة كتاب بلغة معينة لا يعني مطلقًا أنك ستتكلم هذه اللغة فجأة!

 

 

إليك بعض اللمحات حول كيفية بدء تعلمي للغات:

 

لقد تعلمت الإسبانية لأنني كنت مُبشرًا مارونيًا. اهتماماتي الدينية لم تدم، غير أن حبي للإسبانية ما زال قائمًا، لذا واظبت على القراءة بالإسبانية، وما كانت راحتي ورضا نفسي إلا في ترك كتاب التبشير والبدء في قراءة الريح في الصفصاف وصولاً  لدون كيشوت.

 

 

راق لي مُعظم ما قرأت، كان عدم  فهم جُلّ المغزى من السياق يشكل لدي تحديًا لمعالجة تلك الكتابات الأنيقة والمنمقة ككتابات ماركيز والمناقشات السيميائية المختلة، كالسمات الموجودة في روايات بولانو أو تلك الموجودة في أقدم معاهدة رعوية في سرفانتس.

 

بدأ اهتمامي بالفرنسية عندما قررت زيارة باريس لعشرة أيام، بدأت أتعلم لغات البلاد التي أُسافر لها، وهذه عادة أكسبتني إياها زيارتي لباريس.

 

 

أُفرد لكم –فيما يلي- عملية تدرجي بالقراءة بلغة أجنبية والتي عادت بالنفع عليّ ومازالت:

 

أولًا:

اختر كتبًا مألوفة لديك، يفضل أن تكون على دراية تامة بها. حتى لو كنت تملك مخزون جيد من الكلمات الأساسية فمن الممكن أن تتعثر بقراءة كتاب بسيط كقصة (ويني ذا بو) وإن كنت على دراية تامة بالقصة. وإذا كنت تعرف كلمات الأغنية التي يغنيها الدب ممسكا ببالون، فإنه بمقدورك الاطلاع على كلمات الأغنية بلغات أخرى وأنظر كيف تمت ترجمتها.

 

ثانيًا:

من رواية ويني ذا بو انتقلت لرواية شارلوت ويب، و هي أكثر تطورًا، إلا أن جملها غاية في البساطة، فلم تحوي إلا على عدد قليل من الجمل، صيغت بأسلوب أكثر تعقيدًا من تلك الأساليب الواردة في كتب القواعد للمبتدئين.

 

ثالثًا:

حالما توثقت من قراءتي لشارلوت ويب، شرعت بقراءة مغامرات أليس في بلاد العجائب ومغامرات بينوكيو. من الأمور الرائعة التي تميز هاتان القصتان هي كمية المفردات التي لن تجدها في أي مكان آخر، لا أريد أن أترك انطباعًا أنني متسرع في رأيي هذا، فأنا أخذ وقتي في محاولة فهم كيفية صياغة كل جملة. واحدة من سلبيات قراءة كتاب بلغة أخرى أنت على دراية مسبقة به، هي التسرع بالادعاء بفهم الكتاب أكثر مما أنت عليه حقيقة. بعد الانتهاء من أليس في بلاد العجائب، بدأت بقراءة رواية توم سوير

 

رابعًا:

بعدما أتقنت ما كُتب في بعض الأعمال الخفيفة لمارك توين، انتقلت لجول فيرن، اللغة ليست معقدة، ولكن كتبًا مثل 20000 فرسخ تحت البحر ورحلة إلى مركز الأرض تحتوي قدر لا بأس به من المصطلحات العلمية، بالتالي كان لها الفضل في توسيع  قاعدة مفرداتتي في مجال أدبي لم أكن أغامر الخوض فيه. وطالما كنت صادقا مع نفسي، وعليه وجدت أعمال فيرن ملائمة لي.

 

خامسًا:

من ثم بدأت بقراءة كورت فونيغوت الذي كان وما زال أول محطة لي في التفكير المجرد والفلسفة. على الرغم من الأسس الفلسفية الغنية في أعمال توين وفيرن، إلا أن أعمالها قد تُقرأ فقط لكونها مجرد قصص وهذا ما لا يحدث مع أعمال كورت فونيغوت، فرواياته عبارة عن وسيلة لبدء التصارع مع المفاهيم الباطنية والدينية دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأصول لدى فولتير وأمبرتو إيكو.

 

 

قراءة الأدب بلغة أُخرى أجبرتني على القراءة بتأنٍ واهتمام، وهذا ما اعتدت أن أفعله مع أي كتاب لاحقًا. بطريقة ما ساعدني هذا الأمر على استعادة بهجة كنت على استعداد أن أدعها تنزلق مني بشكل أو بآخر، على الرغم من استمراري في القراءة.

 

 

 

رواية "الحاج مراد"لتولستوي؛ حكاية الثأر والانتقام

$
0
0

 

رواية "الحاج مراد"للكاتب الروسي ليو لتولستوي، ترجمها  هڤال يوسف، صدرت عن دار التنوير.

 

في بداية الرواية يسرد الكاتب ليو تولستوي سبب تذكره لقصة "الحاج مراد"، فبعد أن جمع باقة كبيرة من الأزهار وبينما هو متوجه إلى بيته، وقعت عينه على نبتة لفت ذات لون قرمزي ساحر من النوع الذي يطلقون عليه اسم "التتري"، الذي كان يقطفه الحصّادون في حذر.

 

خطر له أن يقطف زهرة تلك النبتة ويضعها في وسط الباقة، فاستعصت عليه لأن الزهرة كانت متشبّثة بالأرض، وكانت تخزه بالرغم من لف يده بمنديل؛ أصرّ أن ينتزعها من أليافها واحدةً واحدة وحين تمكن من قطفها لم تعد الزهرة بتلك النضارة والجمال اللَذْين كانت عليهما؛ أسف أنه أهلك عبثًا؛ الزهرة التي كانت جميلة في مكانها، قال في نفسه متذكّرًا  الجهد الكبير الذي بذله في قطف الزهرة: "يا لقدرتها على الحياة وقوتها! كم حياتها غالية عليها، وكم استماتت في الدفاع عنها."

 

 

بينما هو يمشي متجه إلى بيته مرّ عبر حقل منبسط تربته سوداء حُرث للتو بين الحقول. رأى شجيرة صغيرة ولما اقترب منها اتضح أنها من ذلك النوع "التتري" الذي قطف زهرته سدى ورماها.

 

 

قال تولستوي: "كان واضحاً أن عجلة عربةٍ قد مرّت على النبتة مرارًا، ثم انتصبت ثانيةً ولذلك كانت مائلة، ولكن منتصبة رغم ذلك. كأنّما اقتُلعت قطعةٌ من جسدها، وانتُزعت أحشاؤها، وقُطعت يدها، وفُقئت عينها، لكنها ظلت واقفةً ولم تستسلم للإنسان الذي يُبيد كلَّ إخوته من حوله."

 

 

"قلت في نفسي: يا لها من قدرة! لقد انتصر الإنسان على كل شيء وأباد ملايين النباتات، فيما هذه النبتة لا تزال صامدة ولم تستسلم".

 

 

 

كالعادة يأسر تولستوي القارئ بمفرداته وتصويره البليغ للأحداث حيث تدور الرواية في حقبة روسيا القيصرية وانتفاضة مسلمي القوقاز ضد الاستبداد والظلم الروسي.

 

 

 بطل الرواية "الحاج مراد"؛ قائد ونائب الزعيم الشيشاني "شامل"الذي أمر بإلقاء القبض على الحاج مراد حيًّا أو ميتًا بسبب خصومة بينهما لم يبين الكاتب في الرواية أسبابها!

 

أمر شامل جنوده بمطاردة الحاج مراد؛ أسر أسرته، وضع ابنه في حفرة يزيد عمقها على سبعة أقدام مع أربعة مجرمين، وتوعّد بتوزيع نساءه على القرى سبايا وبقتل ابنه أو بفقء عينيه إن لم يسلّم الحاج مراد نفسه طوعًا له.

 

كان الحاج مراد عدوًا سابقًا للإمبراطورية الروسية، مقاتلًا شرسًا وبطلًا مقدامًا خاض حروب كثيرة ضدهم. مع ذلك أرسل الحاج مراد بعض من مريديه إلى أعداءهِ الروس يطلب العون لإنقاذ عائلته من براثن شامل، مقابل الاستسلام والولاء التام لإمبراطور روسيا "نيكولاي".

 

 

 كعادة الأعداء؛ لم يثق الروس بسهولة بعدوّهم السابق الحاج مراد وبنواياه، فشرعوا في مماطلته بتحرير أسرته من قبضة شامل، وتقاعسوا عن مساعدته رغم استقبالهم وتكريمهم له، فأبقُوه في حصن روسي في القوقاز بصحبة حرس، مما جعله يتخذ قراره بالفرار لمجابهة شامل وتحرير عائلته حتى لو أدّى هذا إلى مقتله.

 

 

يقتل في النهاية الحاج مراد، بطريقة بشعة بعد أن أصابته عدّة رصاصات من الشرطة، يُقطع رأسه بيد "هاجي آغا"الذي انتقل إلى صف الروس بعد أن كان يوماً أخًا للحاج مراد في العهد وعاش معه في الجبال.

 

 

بما أن تولستوي انضم إلى الفرقة الروسية القوقازية في قتال قبائل السهول التترية فقد استطاع أن يرسم لوحة فنية مؤلمة وهو يصف حال الحاج مراد عندما هجم عليه عددٌ من رجال الشرطة وهو ميت، كحال نبتة اللفت المسحوقة تلك وسط الحقل المحروث.

 

 

يصف تولستوي نهاية الحاج مراد بقوله: "هذه هي الميتة التي ذكّرتني بها نبتة اللفت المسحوقة وسط الحقل المحروث."

 

رواية مأساوية عن الخيانة والانتقام، الشرف والكرامة، الحرب ومآسيها، رغم أن الرواية قصيرة إلا أنها تعتبر عمل فني مُميز يُضاف إلى رصيد الكاتب المبدع تولستوي.

 

 

"سيجفّ الثرى على قبري / وستنسيني يا أمّاه!

سينمو العشب على قبري / ويُخمد حزنك يا أبي العجوز

ستنشف الدموع في عينَي أختي / ويطير الحزن من قلبها

لكنك لن تنساني يا أخي الأكبر، إلى أن تثأر لموتي.

ولن تنساني يا أخي الثاني، إلى أن ترقد إلي جواري.

حارقةٌ أنتِ، أيتها الرصاصة، وتحملين الموت، ولكن ألم تكوني أنتِ أَمَتي الوفيّة؟

وأنتِ أيتها الأرض السوداء، ستُغطّينني، ولكن أليس أنا من كان يدوسكِ بحصانه.

باردٌ أنتَ أيها الموت، لكنني سيّدك.

ستأخذ الأرض جسدي، وروحي ستتقبّلها السماء."

 

 

 

 

Viewing all 248 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>