لماذا هنّ حكيمات لدرجة أنهنّ لا يتوقعن نهايات سعيدة لحكاياتهنّ؟
ألهم العرض الأخير لفيلم الحرب والسلم على شاشة البي بي سي الكثيرين من مشاهدي التلفاز ليزيلوا الغبار عن نسختهم القديمة من تحفة تولستوي ويجربوا قراءتها مرة أخرى. قد يكون الجريئون منهم، والذين أغراهم تألق ناتاشا رستوفا، مقتنعين بما فيه الكفاية ليتعمقوا في العالم الواسع للأدب الروسي بحثاً عن شخصيات أخريات جديرات بالذكر. من أين نبدأ؟ لا داعي للبحث. سنقدّم هنا كبار الشخصيات من بطلات الأدب الروسي.
جميعنا يعلم أن جميع البطلات السعيدات متشابهات، لكن لكل بطلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة. ومع ذلك، تعتبر الشخصيات السعيدة في الأدب الرّوسي نادرة الوجود. في الواقع، تتشابه البطلات الروسيات بكونهن يملن لجعل الأمور أصعب عليهن. وهذا جيد، لأن جمالهن كشخصيات أدبية مستمد بشكل كبير من قدرتهن على المعاناة من أقدارهن المأساوية، ومن نزعتهن الروسية.
راوي روايتي الأولى “Back to Moscow” يجد نفسه في موسكو، يعمل أو يتظاهر بأنه يعمل على إتمام رسالة الدكتوراه في بطلات الأدب الروسي. ينتقل الراوي بين النساء الحقيقيات اللاتي يلاقيهن عن طريق استرجاع الدروس الذي تعلمها خلال قراءته للأعمال الكلاسيكية الروسية. ولكنه سرعان ما يكتشف بأن روسيا لم تعد البلاد التي وصفها تولستوي أو تشيخوف. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، يجد بأن موسكو ما هي إلا مدينة فوضوية تشهد تحولات سريعة وعميقة حيث أن النساء نادراً ما يتصرفن حسب ما تقوله الكتب.
الأمر الأكثر أهمية والذي يجب علينا دائماً تذكره عن الشخصيات النسائية الروسية هو أن حكاياتهن لا تدور حول التغلب على المصاعب ليعيشن حياة سعيدة إلى الأبد. رجوعًا إلى قيم الأوصياء الروسيين المكرّمين، فالبطلات الروسيات يعلمن أن هناك ما هو أكثر أهمية من السعادة في الحياة.
تاتيانا لارينا، يفغيني اونيغين
في البداية، كانت هناك تاتيانا، حوّاء الأدب الروسي. ليس فقط لأنها من أوائل الشخصيات الروسيّات، ولكن لأن بوشكين يحتل منزلة إلهية فريدة من نوعها في قلوب الروسيين. أي روسي كفؤ قادر على إلقاء قصائد كاملة لبوشكين الملقب بـ "أبي الأدب الروسي الحديث" (وحتى بعد قدحين من الشراب، الكثير منهم قادر على إلقاء قصائد له). تعتبر يفغيني اونيغين تحفة بوشكين الأدبية، ولكن في الواقع لا تتحدث عن شخصية اونيغين بل عن تاتيانا، تلك الفتاة البريئة التي تعيش في إحدى المقاطعات والتي تقع في حبّ شاب عكسها تماماً وهو اونيغين، الشاب الذي أفسدته القيم الأوروبية الحديثة، حيث أنه شخص ساخر يحب الاستمتاع بالحياة. تجسّد تاتيانا جوهر ونقاء الروح الروسية الغامضة بما في ذلك الميل إلى التضحية بالنفس وازدراء السعادة المتمثل باحتفائها برفضها الرجل الذي تحب.
آنا كارنينا
على عكس تاتيانا في عمل بوشكين التي تقاوم إغراءات الهروب مع عشيقها اونيغين، تقرّر آنا في عمل تولستوي ترك زوجها وابنها حتى تتمكن من الهروب مع فرونسكي. إنها فتاة درامية بعض الشيء، حيث أنها ماهرة تحديداً في اختيار كافة الخيارات الخاطئة والتي ستضطر في المقابل إلى دفع ثمنها غالياً. ولكن خطأها الأساسي لا يتمثل بكونها على علاقة عاطفية مع رجل آخر أو بهجر ابنها الوحيد. إنما تتمثل خطيئة آنا والتي هي مصدر مصيرها المأساوي بمحاولتها الأنانية لإشباع رغباتها العاطفية والجنسية، حيث أنها نسيت الحكمة وراء التضحية بالنفس التي قامت بها تاتيانا: قد يكون الضوء في نهاية النفق مجرد قطار قادم!
سونيا مارميلادوفا، الجريمة والعقاب
في الجريمة والعقاب لفيودور دوستويفسكي، تقف سونيا لمواجهة رسكولينكوف، فهي عكسه تماماً. تضطر سونيا لأن تكون عاهرة وقديسة في نفس الوقت، وتتقبل وجودها كطريق طويل من المعاناة. بعد أن تكتشف الجرائم التي اقترفها رسكولينكوف، لا تتخلى عنه بل تأخذ على عاتقها إنقاذ روحه، بما في ذلك وفي مشهد لا ينسى، تقوم بمضايقة رسكولينكوف بتلاوة الكتاب المقدّس وقراءة قصة بعث عازر من الموت. إن سونيا قادرة على مسامحة رسكولينكوف لأنها تعتقد بأن الجميع متساوون عند الله، وأن الله يغفر، وهي خير فرصة للقتلة النادمين.
ناتاليا رستوفا، الحرب والسلم
ناتاليا هي فتاة أحلام الجميع، فهي إنسانة ذكية ومرحة وعفوية. تبدو تاتيانا في عمل بوشكين فائقة الخيال والتوقعات، أما ناتاليا في عمل تولستوي فهي حقيقية وواقعية. ويعود ذلك جزئياً بالإضافة إلى صفاتها العديدة إلى أنها متقلبة المزاج وساذجة وذات شخصية لعوبة بطريقتها الخاصة في القرن التاسع عشر. في رواية الحرب والسلم، تلعب ناتاليا في البداية دور الفتاة المراهقة الجذابة التي تنضح بالفرح والنشاط. ولكن مع مرور الفصول وتقدم أحداث الرواية، تتعلم الدروس التي أعدتها لها الحياة، لترويض قلبها المتقلّب والتحلي بالكمال والحكمة. وعلى خلاف ما اعتدنا أن نتوقع من البطلات الروسيّات، فهذه المرأة لا تزال تبتسم حتى بعد مرور أكثر من ألف صفحة.
ايرينا بروزوروفا، الأخوات الثلاث
في بداية مسرحية تشيخوف "الأخوات الثلاث"، تكون الأخت الصغرى ايرينا مبهجة وطموحة. بينما يشعر أخواتها الأكبر سنًّا بالضجر من الحياة في المقاطعات، ويكنّ دائمات التذمر ومتقلبات المزاج. إن روح ايرينا الساذجة مليئة بالتفاؤل اللانهائي، حيث تحلم بالعودة إلى موسكو يومًا ما، إلى حيث تؤمن أنها ستجد الحب الحقيقي وأن جميعهم سيكونون سعداء. ولكن عندما تتلاشى فكرة العودة إلى موسكو وتدرك ايرينا بأنها ستظل عالقة في قريتها، لا يتبقى لديها خيار آخر سوى فقدان تألقها وبهجتها. من خلال ايرينا وأخواتها في المسرحية، يبين تشيخوف أن الحياة ما هي إلا سلسلة طويلة من اللحظات المملة، والتي قد تتخللها من وقت إلى آخر دفعات صغيرة من الفرح. كإيرينا، جميعنا نقضي الوقت مشتتين بأفكار لا علاقة لها بما حولنا، نحلم بمستقبل أفضل ولكننا نتقبّل تدريجيًا فكرة أن وجودنا ليس مهمًا كما نعتقد.
ليزا كاليتينا، بيت النبلاء
في رواية بيت النبلاء، نجح تورغينيف في استخدام البطلة الروسيّة المثاليّة. ليزا هي فتاة ساذجة ونقيّة القلب، حيث تجد نفسها محتارة بين رجلين تقدما لخطبتها: ضابط وسيم ومرح، ومسنّ متزوج تعيس. هل تستطيع تخمين من ستختار؟ إن اختيار ليزا لزوجها المستقبلي يخبرنا الكثير عن الروح الرّوسية الغامضة، فهي بالتأكيد تختار التّعاسة. كما أنّه يخبرنا بأنّ خيار السعي وراء الحزن السوداوي في الحياة هو مقبول كأي خيار آخر. وفي نهاية القصّة، تتخلّى ليزا عن الحب وتلتحق بالدير لتصبح راهبة تعتنق حياة مليئة بالتضحية والحرمان. تقول ليزا كتوضيح لحالتها: "لم تُكتب لي السعادة، حتى ولو كنت متأملة بوجود السعادة في حياتي يومًا ما، كان قلبي حزينًا دائمًا"يا لها من طفلة!
مارغريتا، المعلم ومارغريتا
في رواية المعلم ومارغريتا والتي تعتبر آخر إصدار أضيف لأعمال المؤلّف بولغاكوف، مارغريتا هي بطلة غريبة الأطوار حسب ما تم وصفها في العمل. تلعب مارغريتا في بداية الرواية دور امرأة متزوجة تعيسة، والتي تصبح فيما بعد عشيقة المعلم ومصدر إلهامه، ثم تتحول لاحقًا إلى ساحرة تحلّق بالمكنسة. تعتبر مارغريتا مصدر الطاقة للمعلم وهي المداوية والعشيقة والمنقذة له، تمامًا كما فعلت سونيا لراسكونيف. عندما يقع المعلم في ورطة، تصبح مارغريتا الملكة في حفل الشيطان لأجل مساعدته بدافع العشق، ثم تجتمع هي وعشيقها بعد فراق طويل وإن لم يكن لقاءهما في هذا العالم تحديدًا.
أولغا سمنوفا، “The Darling”
في القصة القصيرة “The Darling”، يروي أنطون تشيخوف قصة أولغا سمنوفا، الشخصيّة ذات الروح اللطيفة والمحبوبة. هي إنسانة بسيطة، وكما قيل لنا، بأنّها تعيش لتحبّ. أولغا المسكينة تجد نفسها وحيدة بعدما أصبحت أرملة مرّتين. ومع عدم وجود رجل إلى جانبها لتقدّم له الحبّ، ليس لديها شيء لتعيش من أجله وتختار الانسحاب والابتعاد عن العزلة برفقة قطتها. في تحليل نقدي لقصة “The Darling”، كتب تولستوي ساخرًا من المرأة البسيطة بأن تشيخوف قام بالصدفة بابتكار شخصية محبوبة. توجه تولستوي إلى نقطة أخرى بأنه قام بتوبيخ تشيخوف لقساوته على أولغا، وذلك من خلال الحكم على عقلها وليس على روحها. فبالنسبة إلى تولستوي، تجسّد أولغا قدرة المرأة الروسية على الحب بلا حدود، وهي فضيلة يجهلها الرّجال. أة
مدام أدينتسوفا، الآباء والبنون
في رواية الآباء والبنون (Fathers and Children) لتورغينيف (أحيانًا تترجم خطئًا إلى Fathers and Sons)، مدام أدينتسوفا وكما يوحي اسمها في روسيا هي امرأة وحيدة، أو على الأقل وفقًا للمعايير السائدة في الوقت الذي عاشت فيه. حتى لو تم ابتكارها كشخصية شاذة، فمدام أدينتسوفا كبيرة في السن إلا أنها حافظت على صحتها وشخصيتها كما هي، مما جعل منها رياديّة بين بطلات أدبية أخريات. وعلى خلاف الشخصيات النسائية الأخريات في الرواية واللاتي يستسلمن إلى ما يفرضه المجتمع عليهن، فمدام أدينتسوفا، والتي ليست فقط أرملة بل يتيمة الأم وليس لها أولاد، تختار وبعناد أن تدوم استقلاليتها وترفض فرصتها الوحيدة في إيجاد الحب الحقيقي، مما يذكّرنا بتاتيانا في عمل بوشكين.
ناستاسيا فيليبوفنا، الأبله
بطلة رواية الأبله، ناستاسيا فيليبوفنا، هي دراسة قائمة بذاتها في تعقيدات أدب دوستويفسكي. ناستاسيا هي امرأة يتم استغلالها وتعتبر ضحية جمالها الاستثنائي. تيتّمت عندما كانت طفلة صغيرة وقام بتربيتها رجل لتصبح فيما بعد عشيقته. ولكن في محاولاتها المتجددة للهروب من مصيرها، وبينما تحاول أن تصبح نسختها الخاصة من المرأة الجذّابة والذّكية، لا تستطيع ناستاسيا المكلومة الهروب من إحساسها بالذنب والذي يسرق سعادتها عندما تقوم باتخاذ قرارات في حياتها. وحسب تقاليد البطلات الروسيّات الأخريات، تقدّم الحياة لناستاسيا خيارات عدّة، أغلبها على شكل رجال. ولاحترام هذا التقليد، لن تكون قادرة على اتخاذ القرارات والخيارات المناسبة، وتختار الاستسلام أمام قوة مصيرها. وفي نهاية الأمر، تسمح لنفسها بالانسياق نحو نهايتها المأساوية.
المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.