Quantcast
Channel: Inkitab Feeds
Viewing all 248 articles
Browse latest View live

11 مرشحًا؛ من يفوز بجائزة نوبل للأدب 2016؟

$
0
0

 

 

اقترب كثيرًا موعد إعلان الفائز بجائزة نوبل للأدب 2016. إعلان الفائز/ة بالجائزة يكتسب قيمة مضاعفة هذا العام، فبعيدًا عن قيمة ما تكتبه البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، آخر من توّج بالجائزة، فإنّ حالة من عدم الرضا سادت بعد إعلان النتيجة العام الماضي بسبب التغيير غير المسبوق في نوع الأدب المُحتفى به (تكتب أليكسييفيتش نوع الرواية غير الأدبية التي تروي أصوات ناجين من مآسٍ مختلفة، كانفجار مفاعل تشيرنوبل النووي في أوكرانيا سنة 1986).

 

ينقسم محبو الأدب، في هذا الوقت إلى قسمين: الأول يرغب في أن يتوّج كاتبه المفضل بالجائزة، والآخر يتمنّى فوز مبدع غير معروف كي يتسنّى ترجمته إلى لغته والتعرّف عليه.

 

هنا، ستجدون 11 مرشّحًا للجائزة، هم أكثر من تُتَداول أسمائهم في مواقع التكهّنات، وللعلم هذه المواقع لا صلة لها بلجنة الجائزة على الإطلاق، لكن كثيرًا ما تواجد الفائز في قوائمها. لذا هي مجرّد تكهّنات، قد لا تصيب بنسبة غير قليلة.

 

 

1- هاروكي موراكامي (اليابان)

يعرَّف الروائي الياباني، صاحب الستة والستين عامًا (1949)، على موقعه الإلكتروني: "في عام 1978 كان يجلس هاروكي موراكامي في مدرجات ملعب جينغو يشاهد مباراة في البيسبول بين فريقي ياكولت سوالوز وهيروشيما كارب، ذلك حين جاء دور الأمريكي ديف هيلتون ليمسك المضرب ويسدد. وطبقًا لقصّة مكررة، في اللحظة التي ضرب هيلتون ضربة مزدوجة، أدرك موراكامي فجأة أنّ بإمكانه كتابة رواية، في ذلك اليوم عاد موراكامي إلى بيته وشرع بالكتابة". ومنذ تلك المباراة، نشر موراكامي العديد من الروايات، تحصّل من خلالها على العديد من الجوائز، من أهمّها جائزة فرانز كافكا عن روايته "كافكا على الشاطئ"عام 2006. ترجم له العديد من الروايات إلى العربية، آخرها "ما بعد الظلام" (2013 – المركز الثقافي العربي)، والجزء الأول من روايته الأكبر حجمًا 1Q84.

 

 

2- أدونيس (سوريا)

يتواجد الشاعر السوري أدونيس (1930) سنويًا، وبلا انقطاع، في قوائم الترشيحات. يُقال أنّ أدونيس في عام 2011 كان قاب قوسين أو أدنى من نيل الجائزة، ويُستدلّ على ذلك بمنح الجائزة لشاعر هو السويدي توماس ترانسترومر، لكن الحظّ لم يحالفه آنذاك. يُعرف أدونيس كشاعر أساسًا، لكنّه كتب، وما يزال، أنواعًا أخرى، فعدا عن دواوينه الكثيرة، له عدد غير قليل من الدراسات في الشعر ومواضيع أخرى، مثل "الثابت والمتحول" (1973)، "الصوفية والسوريالية" (2005).

 

اعتدنا أن يدخل أدونيس قوائم الترشيحات ويخرج منها بخفي حنين، فهل يكون هذا العام مغايرًا؟

 

 

3- نغوغي واثيونغو (كينيا)

بروفيسور الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا. واثيونغو هو كاتب كيني، روائي بالدرجة الأولى، يكتب بالإنجليزية أساسًا، ويعمل الآن على الكتابة بلغة الغيكويو (لغة قبائل الكيكويو الكينيّة). عدا الرواية، فواثيونغو يكتب المسرح، القصة القصيرة، النقد، والمقالات. سبق وتواجد اسمه في قوائم الترشيحات للعامين الفائتين دون أن يحالفه الحظ. تُرجم له إلى العربية: حبّة قمح (رواية) (1983 – وزارة الثقافة، دمشق)، شيطان على الصليب (مسرحية) (1999 – اتحاد الكتاب العرب)، تويجات الدم (رواية) (1983 – دار ابن رشد).

 

 

4- فيليب روث (الولايات المتحدة)

يُعتبر فيليب روث (1933) الآن واحدًا من أكثر الكتّاب المكرّسين ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل ربما في العالم بأسره. كتبَ فيليب روث ما يتجاوز عن الثلاثين كتابًا في حياته، معظمها روايات، قبل أن يُعلن اعتزاله الكتابة عام 2012. لروث شهرة تتجاوز الكتابة، فثمانية من أعماله بين روايات وقصص تحولت إلى شاشة السينما. تُرجم ثلاثة أعمال لروث إلى العربية، هي: "الوصمة البشرية"و"الحيوان المحتضر"عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، و"سخط"عن منشورات الجمل.

 

 فيليب روث ليس غريبًا عن القائمة، إذ بات علمًا بارزًا يظهر فيها كلّ عام، فهل يكون هذا العام الأخير الذي نراه فيه في قوائم الترشيحات؟

 

 

5- إسماعيل كاداريه (ألبانيا)

لعلّ إسماعيل كاداريه (1936) الاسم الألباني الوحيد الذي يُعرف على نطاق عالميّ.

يتردّد اسم الكاتب الألباني كلّ عام بين دوائر القرّاء المهتمين بالجائزة وقوائم الترشيحات، لكن ليس مثل هذا العام؛ إذ يبدو حضوره أكثف وأكثر قوة. بدأ إسماعيل كاداريه بكتابة الشعر، لكنه تحوّل عنه إلى الرواية واشتهر أكثر بها. يميل كاداريه في رواياته عادة إلى إعادة خلق الملاحم والأساطير الشعبية والفولوكلور، بكتابة قصصٍ حديثة زمنيًا. تُرجم لكاداريه عدد لا بأس به من الروايات إلى العربية، نذكر منها: "الوحش"، "الجسر"، "من أعاد دورونتين؟"– دار الآداب. "الحصار"– مشروع كلمة والدار العربية للعلوم ناشرون.

 

 

6- خافيير مارياس (إسبانيا)

خافيير مارياس (1951) روائي إسباني، مُترجم، وكاتب عمود في الصحف. بدأ خافيير مارياس الكتابة باكرًا، إذ نشر روايته الأولى "The Dominions of the wolf"وهو في السابعة عشر من عمره. ترجمَ خافيير مارياس إلى الإسبانية، العديد من الكتّاب المهمين، أمثال جون أبدايك، فلاديمير نابوكوف، روديارد كيبلينغ، وشيكسبير. تُرجم لمارياس ثلاث روايات إلى العربية، هي: "رواية أوكسفورد"– مؤسسة نوفل؛ وهي عن تجربته أستاذًا محاضرًا في الأدب الإسباني في جامعة أوكسفورد (في الأصل، عنوان الرواية "All Souls")، "وقت للعبث"– دار الحوار، "قلب ناصع البياض" -  الهيئة المصرية العامة للكتاب.

 

 

7- جويس كارول أوتس (الولايات المتحدة)

صاحبة مقولة "حافظ على قلبك خفيفًا، مليئًا بالأمل. لكن توقّع الأسوأ"باتت أحد المقيمين الدائمين في قوائم الترشيحات السنوية. الروائية الأمريكية، صاحبة الثمانية والسبعين عامًا (1938)، تعدّ الكاتبة الأكثر كتابة ونشرًا في القائمة كاملة، إذ تجاوزت رواياتها الأربعين رواية، هذا غير كتبها في أجناسٍ أخرى كالقصص القصيرة، الشعر، والكتب غير الأدبية. نالت عددًا وافرًا من الجوائز. تُرجمَ لها إلى العربيّة "الشلّالات" (رواية) (2009 - الهيئة المصريّة العامّة للكتاب)، "الأنثى كنوع" (قصص) (2007 – الهيئة المصريّة العامّة للكتاب).

 

 

8- يون فوسِّه (النرويج)

"اليوم، يعدّ الكاتب النرويجي يون فوسِّه من الأسماء الرائدة في المسرح الحديث. بل هو أكثر من ذلك. هو يعدّ كونًا بحدّ ذاته، قارّة أخذت تتمدّد من غرب النرويج، أين يعيش هو الآن، لتعانق آسيا، أمريكا الجنوبيّة، شرق أوروبا، والعالم بأسره". كان هذا جزءًا من خطاب اللجنة المانحة لجائزة هنريك إبسن للأدب المسرحي للنرويجيّ يون فوسّه عام 2010. يرد ذكر فوسِّه اليوم، المولود عام 1959 ككاتبٍ مسرحيّ، على أنّ كتابته لم تقتصر على المسرح بل تعدّتها إلى الرواية التي ابتدأ بها حياته (أحمر، أسود) (1983)، والقصص القصيرة، الشعر، المقالات، وأدب الأطفال. صنّفته صحيفة الديلي تليغراف بأنّه من بين الكتّاب المئة الأكثر عبقرية على قيد الحياة (المرتبة 83). لغاية اللحظة لم تترجم أيٌ من أعماله إلى العربية.

 

 

9- جون بانفيل (إيرلندا)

"الكتابة الجيّدة هي الكتابة الجيدة. نقطة". هكذا يتحدّث الكاتب الإيرلندي جون بانفيل (1945) في معرض اعتراضهعلى كونه يملك موهبةً ما تجعله طليقًا وهو يكتب. لجون بانفيل 17 رواية، مجموعة قصصية وحيدة، 6 مسرحيات، وعدد من الكتب التي كتبها باسم آخر هو "بنجامين بلاك". حاز جون بانفيل على العديد من الجوائز، أهمّها جائزة المان بوكر عن روايته "البحر" (2005)، جائزة فرانز كافكا (2011)، وجائزة أمير أستورياس للأدب (2014).

 

فوز جون بانفيل بالجائزة قد يكون في مصلحة القارئ العربي، حتّى يتعرّف على الكاتب، إذ لم تترجم أعماله إلى العربية على الإطلاق.

 

 

10- أنتونيو لوبو أنتونيس (البرتغال)

أنتونيو لوبو أنتونيس (1942) هو روائي وطبيب أعصاب برتغالي بارز. قرّر أن يصير كاتبًا بالتوازي مع دراسته للطب تنفيذًا لرغبة والده. بعد انتهاء دراسته خدم أنتونيس في الجيش البرتغالي في حروبه الاستعمارية كطبيب في أنغولا. وانطبع ذلك تاليًا على أعماله، بالأخص "حرب التحرير الأنغوليّة". لأنتونيس ما يفوق العشرين رواية، عدا عن بضعة كتبٍ سيرية أخرى.

 

مثل جون بانفيل ويون فوسّه، فإن أنتونيو لوبو أنتونيس لم يترجم إلى العربية بعد، وفوزه قد يعد مكسبًا للقارئ العربيّ.

 

 

11- لاسلو كراسناهوركاي (هنغاريا)

بدأ ينتشر اسم الكاتب الهنغاري لاسلو كراسناهوركاي بعد فوزه بجائزة المان بوكر العالميّة في عام 2015.  وها هو الآن ينضمّ لأبرز الأسماء التي تتسابق على جائزة نوبل للأدب. يشتهر لاسلو كراسناهوركاي بأجوائه الديستوبيويّة والكئيبة، كما يلاحظ في روايته الأولى والأكثر شهرة "Satantango" (2005) التي حولها رفيقه المخرج الهنغاري بيلّا تار إلى فيلم سينمائي (1994) قوامه 7 ساعاتٍ ونصف الساعة. تُرجمت هذه الرواية إلى العربية عن دار التنوير (2016) تحت عنوان "تانغو الخراب". 

 

 

 

 


هل لجائزة نوبل أجندة سياسيّة؟

$
0
0

 

 

يكثر اللغط كلّ عام، مع اقتراب الإعلان عن الفائزين/ات بجائزة نوبل، حول ما إذا كانت الجائزة تتبع أجندة سياسيّة أم لا. هذا الجدل، أدّعي أنه لا يقتصر على جائزة نوبل من حيث شهرتها، بل هو، أولًا، جدلٌ يتعلّق بالجائزة من حيث كونها جائزة أساسًا، خاصّة في ظلّ غياب واضح لمعايير يمكن معها محاكمة مخرجاتها. وثانيًا، يلعب وجود فرعٍ يختصّ بالسلام دورًا في إذكاء هذا اللغط، لما لها من ارتباط وثيق بالسياسة.

 

أحاول هنا، بعد تتبع لبعض الأسئلة، والأمثلة، الوصول إلى إجابة عن هذا السؤال: هل لجائزة نوبل أيّ أجندة سياسية؟

 

في تاريخ الجائزة السياسي

حدد ألفريد نوبل في وصيته المعيار الذي تُعطى من أجله الجائزة، ففي فرع السلاممثلًا يقول: "تعطى الجائزة لأفضل إنجاز يؤدي للمآخاة بين الشعوب، أو يعمل على إنهاء أو التقليل من خطر الجيوش المتحاربة، كما تعطى لمن يسعى لإقامة وتعزيز مؤتمرات السلام". وهو بهذا لا يفشل في تعريف معنى السلام فحسب، بل يبدو أكثر كمن يعرّف الماء بالماء. فهو هنا يتجه إلى النتائج مباشرة دون المرور بمسببات النزاع. أتفهّم أنّ النيّة سليمة، وأنّ التنظير قصير النظر مقارنة بالتطبيق، لكن كان لا بدّ من ضبط أكبر لأخلاقيّات منح الجائزة وحجبها، أقلّها بإشارة إلى التعاطي مع كلّ موقفٍ على حدة، دون اتّباع وجهة نظرٍ أحاديّة التوجه، كما سيتبيّن لاحقًا.

 

محاولة إيجاد تعريف للكلمة، انطلاقًا من انحيازات الجائزة على مر تاريخها، مضاف إليها التبريرات القصيرة التي ترفقها اللجنة المانحة، تجعل المعنى أكثر قربًا إلى الإذعان منه إلى السلام؛ إذ ثمّة مساواة واضحة لأطراف النزاعات، دون الالتفات لمعايير القوى.

 

على سبيل المثال، أُعطيت جائزة السلام في العام 1974 لرئيس الوزراء الياباني إيساكو ساتو (مناصفة مع الإيرلندي شون ماك برايد) "لتنازله عن خيار اليابان النووي، وتركيز جهوده في إقامة صلح إقليميّ". كلّ هذا يتم بتحييد تام للولايات المتحدة، وكأنّ ما فعلته كان حدثًا عابرًا، تكافأ عليه بالصلح، ومنح جوائز الترضية للفريق الخاسر.

 

بعيدًا من هذا، أُعطيت الجائزة في العام 2009 لباراك أوباما، قبل أن يكمل عامه الأول في البيت الأبيض. وفي معرض هذا، حاول أوباما التملّص من الحرج بقولهأنّه يعتبر منحه الجائزة أنها جاءت "كتأكيد على القيادة الأمريكية بصفتها تمثّل التطلعات العالية للشعوب كافة، أكثر من كونها اعترافًا بإنجازاته الشخصية".

 

ثمّ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إسرائيل كانت حاضرة على الدوام في أجندة الجائزة، خاصّة حين يتعلّق الأمر بالمعاهدات الدولية (كامب ديفيد 1978، أوسلو 1994)، وربما يمكن أن نوعز تجاوز الجائزة لأطراف معاهدة وادي عربة إلى قرب الفترة الزمنية بينها وبين معاهدة أوسلو. كلّ ذلك كان يتم مع الترويج لقادة إسرائيليين أمثال بيغن، ورابين، وبيريز على أنّهم حمائم سلام، متجاهلين الحقيقة الرياضيّة بأنّ القاتل لا يمكن أن يكون إلّا قاتلًا.

 

قبل التحوّل إلى ما يخصّ الأدب، أودّ الإشارة إلى أنّ الجائزة، وإن لم تكتفِ بلعب دور المتفرّج الذي يصفق لما يراه خيرًا، بل همّت بتكريمه أيضًا، فهي تصرّ باختياراتها أن تكون متفرّجًا غربيًا، يتنكّر لهويّته الشماليّة أولًا، ويُعلن صراحة تبنّيه لمعايير أمريكيّة/غرب أوروبيّة لما هو خير أو شرّ ثانيًا.

 

 

هل يمكن التعامل مع جائزة الأدب، بمعزل عن الأفرع الأخرى؟

قد يتساءل المرء ما إذا كان هذا الانحياز مقتصرًا على فرع السلام، دونًا عن باقي الفروع. وقد يتّسع السؤال إلى إمكانية الفصل في التعامل بينها. وللحق، فإن اختيارات الجائزة في فروع أخرى أكثر صعوبة في قراءتها، ومحاولة تبيّن نمط يربط بينها.

 

على سبيل المثال، يصعب أن نحيّد العامل الأدبي (الجمالي)، عند الحديث عن اختيار كتّاب متنافرين حد الإطلاق في توجهاتهم السياسيّة، أمثال جوزيه ساراماغو من ناحية وبابلو نيرودا من ناحية أخرى.

 

دون الالتفات لقيمة الكتابة بذاتها، سنجد أن ساراماغو مثلًا كان منحازًا لقيمٍ تُسائل أدوات القمع على الدوام، وانحاز للناس في وجه القمع،  في المقابل نجد بابلو نيرودا يتغنّىبمواهب ماو تسي تونغ (واحدة من ابتكارات ماو كانت "كوتا الإعدام"، أي نسبة ثابتة لعدد الأشخاص الذين يجب قتلهم للحفاظ على قوة الشعب) حين يصفه بالشاعر، كما يرى فيه ميزات أخرى "فهو، كما تعرف، سباح ماهر، وأنا لا أعرف السباحة على الإطلاق".

 

في ظل هذا التنافر الكبير في اختيارات الجائزة، بين كتّاب اقتربوا كثيرًا من السلطة وآخرين افترقوا عنها، يصبح من المحال تقريبًا محاولة تفسير عدم منح الجائزة للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس بناءً على العامل السياسي وحده (يُقال أن موالاة بورخيس لانقلاب التشيلي بزعامة بينوشيه كان أحد أهم أسباب حرمانه من الجائزة).

 

إذن نعود للسؤال، هل يمكن التعامل مع فرع الأدب بمعزل عن الفروع الأخرى؟ يبدو السؤال مشابه لسؤال: هل يمكن التعامل مع الكتّاب بمعزلٍ عن شخصيّاتهم، أو آرائهم السياسيّة على سبيل المثال؟ نحن هنا أمام خيارين، إمّا الأخذ بمخرجات الجائزة، بسيئاتها قبل حسناتها، وإمّا أن نرفض التعاطي معها. وبين هذا وذاك، يظلّ الخيار مفتوحًا للقرّاء كافّة.

 

 

ماذا عن نجيب محفوظ؟

يسود في الأوساط المحافظة، التي غالبًا ما عرفت نجيب محفوظ من الأفلام المقتبسة عن رواياته لا من رواياته ذاتها، بأنّ رواياته يكثر فيها الفُحش. وتاليًا يأتي الحُكم على أنّ هذه الجائزة مُسيّسة، بحيث تعني السياسة هنا محاولة إفساد الأجيال، بكل حمولة هذه الكلمة من مبالغات.

 

ما يُمكن قوله في هذا الشأن، أن نجيب محفوظ قد مُنح الجائزة كما نصّ الإعلانلأسباب تتعلق بواقعيته واضحة المعالم، وللغموض الشعري الذي يكتنفه سرده، وأشياء أخرى كلّها تشير إلى قراءة حقيقيّة لأدب محفوظ. ولكن، إن كان لا بُد من قول شيء بشأن دخول السياسة في منحه الجائزة، والقول هنا من باب "ذكر الشيء"لا أكثر، فإننا نذكر وقوف نجيب محفوظ إلى جانب معاهدة كامب ديفد 1978. والأمر هنا سياسة بحتة، مع التذكير أيضًا بأنّ الجائزة احتفت بهذا الحدث بمنح جائزة السلام مناصفة لأنور السادات، ومناحيم بيغن.

 

 

إذن؛ هل هناك قول فصل؟

ثمّة إشارات يصعب التجاوز عنها تشير إلى توجّه ما في اختيارات الجائزة. لكن تظلّ هذه الدعوة احتمالًا غير مثبت طالما لم يفصح مسيّرو الجائزة عن أغراضهم.

 

أخيرًا، لا بدّ من القول أن للجائزة فضل التعريف بأشخاص/أعمال لم تكن لتعرف دونها.

 

 

 

البناء القصصي عند زكريا تامر

$
0
0

 

 

ربما أفضل ما يمكن أن تصف زكريا تامر به، هو الوصف الذي استخدمه إبراهيم الجرادي حين قال عنه؛

"زكريا تامر مسامير في خشب التوابيت"

 

فقد أرسى تامر دعائم القصة السورية وثبتها في خِضم حركة الأدب المضطربة آنذاك.

لا يمكن إهمال دور زكريا تامر في القصة السورية وتطورها، وهو كما يقول عنه الأديب الألماني فولفنانغ فيريك:

"أدب زكريا تامر هو محاربة الظلم والتخلف".

 

 

لتوضيح البناء القصصي عند زكريا تامر سأطرح قصتين من أبرز ما نجده في موروثه الأدبيّ؛ "رجال"و"يوم أشهب". تشكّل هاتان القصتان مدخلًا لأدبه وسببًا وجيهًا لقراءة المزيد له.

 

تُعد قصة "رجال"من أهم وأبرز ما ترك زكريا تامر من إرث أدبيّ؛ فعلى صغر حجمها إلا أنها تحمل في مكنوناتها الكثير؛ فلو نظرنا إلى العنوان "رجال"الذي أتى بصيغة الجمع مع أن البطل واحد هو عبد الحليم المُر الذي يشكل ضمنيًا مثالًا على كل الرجال؛ فهو شرقيّ، مسلم، أصبح مفهوم الرجولة عنده متقزم حدّ التلاشي، لم يعد له دور يعتد به، أو إضافة يشكلها حضوره؛ ليجد عبد الحليم نفسه وقد جرد من كل أسلحة الرجل العربي المتعارف عليها، ولم يبق له منها إلّا "يمين الطلاق".

 

إلى جانب دلالة العنوان الذي لخص وفسر جزءًا من الغموض في العمل الفني، جاءت دلالة اسم عبد الحليم المر؛ الحليم الذي لا يرضى بالدنية أو الرذائل بعكس الشخصية الرئيسية التي حملت الاسم، والتي لم يكن لها نصيب منه؛ لم يستطع عبد الحليم مواجهة المآزق التي وضعت أمامه أو وضع أمامها بحلم!

 

زكريا تامر الساخر، انحاز للمرأة في مواجهة عقلية الرجل الشرقي، فقد هاجم المجتمع الذكوري السطحي الساذج الذي يكثر فيه التلويح بيمين الطلاق ووقوع الطلاق على أتفه الأسباب.

 

بالانتقال إلى قصته "يوم أشهب"، التي يمكن أن نعدّها "أقصوصة"أو مسرحية من ذوات الفصل الواحد، تعتمد على اللمح والتكثيف والتركيز دون تعدد الشخصيات، سأبدأ الحديث من طرح البناء العام للقصة وتحليل الشخصيات؛ بدءًا من شخصية شكري المبيض، التي أجاد زكريا تامر في رسم ووصف ملامح العنف التي تعرض إليها دون ذكرها بشكل مباشر، فالأقصوصة تعتمد على حسن الاختيارات وتسليط الضوء، وهذه الشخصية تمثل المعادل الموضوعي للشخصية المتحركة، السائق هو الشخصية الثابتة في القصة ومن سماتها أن تكون مغايرة لشخصية شكري المبيض.

 

لقد رسم زكريا تامر الصراع في القصة بصورة ساخرة عن طريق حركة الشخصية الأولى وكما نعلم أن الأشياء تتميز بضدها فشخصية شكري تميزت لوجود شخصية السائق والتي تمثل السلطة.

 

عني زكريا تامر بتصوير وتشبيه الشخصيات، فقد أطلق الصفات المتحركة على الشخصية الثابتة وأطلق الصفات الثابتة على الشخصية المتحركة؛ مثلًا: (تمرن، مارس، أخطأت) وهي أفعال إرادية بدرت من شكري، في المقابل؛ (يواجه، سأل) هي أفعال صدرت عن السائق، مشيرًا من وراء ذلك إلى أن الإلحاح هو من صفات شخصية السائق وتحريك الثبوت عند شكري.

 

عمد زكريا تامر في هذا النصّ إلى تصوير طباع السلطة المستبدة في تلك الفترة، وما يتعرض له السجناء داخل السجون، هادفًا من وراء ذلك إلى وصف المجتمع والحياة الاجتماعية ومعالجة آفة الجهل، والسخرية من ذلك الواقع الذي قُلبت فيه الموازين ولم يعد يُنظر إلى الحقيقة بالصورة السليمة.

 

إن فن زكريا تامر وبراعته في وصف عنصر الحركة والسكون وتدرجه في هذا الوصف كان يشدنا في تدرج نفسي وإلحاح عاطفيّ، استطاع التنقل بسلاسة بين التراجيديا والكوميديا مع المحافظة على تلك الشعرة بينهما، وبذلك تمكّن من تغييب الهدف الأساسي لوهلة عن ذهن القارئ.

 

قدّم زكريا تامر نصًا أدبيًا يتّسم بالبساطة، واعتمد على اليسر والانسياب دونما مغالاة في الاستعارة أو اجتلاب المحسنات البديعية؛ فالعبارة مألوفة لا يعتريها نادر أو غريب يحد من تدفقها، وهذا هو قوام العمل القصصي الناجح.

 

تقوم طريقة زكريا تامر على مراعاة تسلسل العرض والتدرج بالقصص حتى يرسم ملامح الشخصية التي آثر اختيارها لتكون محورًا لموضوعه الأساسي؛ صانعًا بذلك أداءً فنيًا يميزه عن غيره.

 

 

 

لماذا تتغيّب مشاهد الولادة عن الأدب؟

$
0
0

 

لماذا يُنهى عن وصف عمليَّة الولادة في الخيال الأدبي؟

 

أهُناك أي مواضيع منهي التكلُّم عنها في الأدب؟ العُنف التصويري والجنس في أشكالهما المتنوِّعة أصبحا من الموضة، حتى عمليَّة الإخراج أصبحت بيِّنة؛ تذكَّر المشهد الذي لا يُنسى لجوي وهو يبحث عن خاتم في برازه في كتاب جوناثان فرانزين "حريَّة"، ولكن اقرأ أي رواية تحدث فيها عمليَّة الولادة، والتي هي واحدة من أكثر النشاطات البشريَّة عالميَّة، ستجد الحدث الفعلي محذوفًا، حيث قامت مؤلِّفة معروفة بوصفها العميق والمُفصَّل للتجارب الأُنثويَّة، إلينا فيرانتي، بإعطائنا هذا الوصف لولادة طفلة راوية القصَّة الأوَّلى في الكتاب الثالث في رواياتها النابوليَّة "أولئك الذين يرحلون وأولئك الذين يبقون":

 

"عانيت من آلام ولادة فظيعة، ولكنَّها لم تدُم طويلًا، وعندما خرجت الطفلة ورأيتها... شعرت بمُتعة جسديَّة عميقة حتَّى أنّي لا أزال أعرف مُتعة تُقارن بها."

 

 

بعد صفحات، تأتي ولادة طفلتها الثانيَّة بتوضيح أقل حتَّى:

 

"جرى كُل شيء بسلاسة، كان الألم مُعذِّبًا، ولكن بعد ساعات قليلة حظيتُ بابنة ثانية."

 

 

أصبحت الطُرق المتّبعة في وصف مشهد الولادة في الأدب المُعاصر مُتنبئًا بها، مُبتذلة كالملابس المُتناثرة على الأرض في فيلم للأطفال؛ رحلة السيَّارة الجنونيَّة للمُستشفى، متبوعة بقفزة للطفل الجديد؛ أو المشهد الكوميدي المُخطَّط له لامرأة تلد صارخة على زوجها المذهول متبوعًا بقفزة للطفل الجديد، ماذا حدث لما يحدُث حقًّا؟ اقرأ أيضًا: ماذا على المرأة الحامل أن تقرأ؟

 

روايتي الجديدة، "إحدى عشر ساعة"، تحدُث بالكامل خلال مخاض وولادة واحدة في مُستشفى ريفي، وعن نفسي، لقد مررتُ بعمليتي ولادة ووجدتها أسوأ ألم جسدي وأكثر تجربة تحويليَّة مررتُ بها في حياتي، وقد أردتُ أن أكتبَ شيئًا شعرتُ أنَّني لم أقرأه: قصَّة تصف عمليَّة الولادة من الداخل، أردتُ أن أصف التغيُّر في الوعي الذي يأتي من مواجهة ألم عظيم، والطريقة التي تستطيع أزمة المخاض أن تجعل المرأة تجد في نفسها قوىً غير معروفة، أردتُ أن أستحضر شعور الانتظار الطويل الممزوج بنشاط شديد، أردتُ أن أُظهر شعور أن تكون قريبًا من خلق حياة ومن الموت في ذات الوقت.  

 

عندما تمَّ قبول "إحدى عشر ساعة"للنشر في الولايات المُتَّحِدة وكان وكيلي يقوم بتسويقه في الخارج، قام ناشر نشر أحد كُتُبي الأولى برفضه وقيل لي: "لا يشعر قسم المبيعات والتسويق بالثقة بمعرفتهم كيف يسوقونه، إنَّها تجربة خاصة مروية هُنا." اقرأ أيضًا: تأريخ التمييز العرقي في رواية "عاملة المنزل".

 

تجربة خاصَّة؟أتعني واحدة مرَّت بها مليارات النساء؟ لم يشعروا بالثقة بمعرفتهم بتسويقه؟الرواية، كما رأيت، عن التحدي القاسي للعقل والجسد الذي تُمثِّله عمليَّة الولادة للمرأة، كما يُمثِّل القتال تحديًا لعقول وأجساد الرجال، أيستطيع أي ناشر أن يدّعي عدم معرفته كيف يُسوِّق رواية حرب؟

 

التشابه الجزئي بين عمليَّة الولادة والمعركة قد تبدو مبالغة للبعض، ولكن في المئة سنة الماضية تقريبًا وفقط في بعض البلدان، وفي بعض الجماعات فقط، توقفت الولادة عن كونها خطرة جدًّا للنساء، فامرأة ولدت سبعة أطفال عاشت في القرن الثامن عشر في إنجلترا (مُعدل الولادات كان من سبع لثمان أطفال) كان لديها فُرصة أعلى من 9% لأن تموت خلال المخاض خلال حياتها، أما الحسابات الحديثة للولادة خلال تلك الحقبة فتقشعر لها الأبدان، فالأطفال العالقون قد يتم سحبهم من خلال عقاف يوضع في عيونهم أو أفواههم، وعمليَّات محاولة قلب الأطفال في الرحم قد تؤدي لكسر أعناقهم أو قطع رؤوسهم، وقد كانت هذه الإجراءات طبعًا مُبرحة جسديًّا وعاطفيًّا للأمَّهات، وحتى في الغرب المُترف اليوم، قد تؤدي عمليَّة الولادة لتلف في الأعصاب ونُدب وسلس البول مع النتيجة الأقل احتمالًا لموت الطفل أو الأم. اقرأ أيضًا: أغانٍ أدبية مقتبسة عن كتب.

 

لا تظهر الكثير من التفاصيل والمشاهد في الأدب الخيالي، بعضها كان ليكون بشعًا جدًّا ومٌقززًا جدًّا، أليس كذلك؟ ولكن انتظروا قليلًا:

 

"وضع فوَّهة المُسدَّس على رأسها وأطلق النار... ظهرت حفرة بحجم قبضة اليد من الجهة الأخرى من رأس المرأة مع كم هائل من الدم وطُرِحَت المرأة جانبًا مرميَّة قتيلة في دمائها دون رحمة... أخذ سكين سلخ من حزامه واقترب من حيث كانت المرأة العجوز مرميَّة ورفع شعرها للأعلى لافًّا إياه حول رسغه ثُمَّ مرَّر نصل السكين فوق جمجمتها وسلخ فروة رأسها."

 

 

هذا واحد من مشاهد مُماثلة في كتاب كورماك ماكارثي الكلاسيكي الحديث "خط الدم أو حمرة الغسق في الغرب"، وهو قصة حرب من نوع ما تصف  المناوشات في الجبهة بين الأمريكيين والأمريكيين الأصليين في مُنتصف القرن التاسع عشر، وبالطبع، تُمثِّل قصص الحرب بُنية أدبنا الخيالي، من الإلياذة وحتى "أغنية رولاند"و"الحرب والسلام"وحتى المحصول القوي من الروايات والقصص التي تتصارع مع إرث اشتباكاتنا الحديثة في العراق وأفغانستان، وقد يُعتقد أن الحرب تُعطينا شيئًا أفضل لنُراهن عليه من عمليَّة الولادة — مصير أُمم بدلًا من مصير أُم واحدة وطفلها أو، على الأكثر، عائلة واحدة — وبذلك تُعتبر الحرب مادة غنيَّة أكثر للخيال، ولكن في الحقيقة، نادرًا ما يكون مصير الأُمم ما يدفعنا لنقرأ قصصًا مُتخيَّلة عن الحرب، فنحن لا نختار "الحرب والسلام"لأنَّنا نشعر بالتعاطف مع فوز نابليون أو خسارته في معركة أوستراليز، ما يجذب انتباهنا هو شخوصها ومصائرهم، فالكثير من قصص الحرب المُحتفى بها تحمل في مُحركها العلاقات بين الرفاق المُقاتلين، من أخيل وباتروكلس وحتَّى "العاري والميِّت"و"الأشياء التي حملوها"، فهي ليست أقل "بيتيَّة"، من هذه الناحية، من الروايات عن الحياة العائليَّة. اقرأ أيضًا: الفيلسوفة جوديث بتلر؛ حول أهميَّة الإنسانيَّات ولمَ نقرأ.

 

لذلك، لمَ تغيب قصص عمليَات الولادة عن الأدب المُتخيَّل؟ مثل الكثير من النساء، أنا مفتونة بقصص الولادة، وعندما كنتُ حاملًا، تملَّقت للكثير من النساء ليخبرنني قصصهن؛ في الغالب، كنتُ أريد أن أعرف كم قد تسوء الأمور وما قد أحتاج لأن أكون مُتحضرة له، بعد ذلك، أردتُ أن أكون جزءًا من المجتمع المُتعاطف المُتفهِّم من النساء المُتبادِل لقصص الولادة التي يصعب تصديقها، فالنساء يُخبرن بعضهن تفاصيل المُخاض والولادة، ولكننا لا نستخدم هذه كمادَّة للفن الأدبي، لماذا؟

 

السبب بالتأكيد، جزئيًّا، هو أنَّ عمليَّة الولادة تختص بالدم والمُعاناة ولكن بالدم والمعاناة "تحت"، تعلم، المهبل، ولكن للأمر أكثر من هذا، ففي مقال نوقش كثيرًا في مجلَّة هاربر في عام 1998، تحت عنوان "رائحة حبر امرأة"، تقتبس فرانسيس بروس عن الروائيَّة ديان جونسون قولها عن القُرَّاء الذكور أنَّهم:

 

"لم يتعلَّموا أن يربطوا بين الصور والمجازات والمواقف التي تستخدمها النساء (المنزل والحديقة والجنون) والتجارب العالميَّة، مع أنَّ النساء دُرِّبن منذ الطفولة على قراءة كُتُب كتبها الجنسان، وأن يعرفن الصيغة المجازيَّة المُهمَّة لساحة المعركة والسفينة المُبحرة والرحلة وكل ذلك."

 

 

وأود أن أُضيف للائحة جونسون "المنزل والحديقة والجنون"سرير الولادة (أو مقعد الولادة وحوض استحمام الولادة).

 

رأى القليل من الكُتَّاب إمكانيَّة أكثر في قصص الولادة، من ضمنهم — ومن غيره؟ — تولستوي في آنَّا كارنينا، حيث يأخذ ثلاث فصول ليصف مخاض كيتي سكيرباتسكي، ومع أنَّ الرواية كانت من وجهة نظر زوجها، ليفن، إلَّا أنَّ هذه المقاطع أظهرت تشويه مرور الوقت بشكل جميل وعدم التصديق للتصرُّفات العاديَّة لأولئك الذين لا يُعانون، والرُعُب والانبهار الذين هُما جزء من أي عمليَّة ولادة.

 

في "حكاية خادمة"، تصف مارغريت أتوود التداعيات السياسيَّة والاقتصاديَّة لحمل الأطفال، هُنا محوَّلة للعمل المفروض على الخادمات المُستخدمات، ففي مشهد الولادة في هذه الرواية، المرأة التي تنتمي للطبقة العُليا والتي ستأخذ الطفل تُقرفص فوق الأم التي تلد، حسب التقاليد، وتتظاهر أنَّها هي التي تدفع الطفل خارجًا، هذا لافت للانتباه. اقرأ أيضًا: 4 كتب تغذوية تحتاجها لصحة أفضل.

 

هذا النوع من المقاطع نادر في الأدب، ويُعطي بدايات ضئيلة جدًّا للإمكانيَّات فقط، فقد تربينا على أن نرى عمليَّة الولادة ثابتة، حدث محجوز في أجسادنا ويتبخَّر في الأيَّام أو الأسابيع التالية بينما تنحسر ذكريات الألم، ولكن لمَ على قصص المخاض والولادة أن تُصبح عربات لاكتشاف أمور ذات أهميَّة قصوى، بينها الانشطارات السريعة التي تجذبنا للخيال في المقام الأوَّل: الإرادة والقدر، الشجاعة والرُعب، الحُب والكُره، المعنى والفراغ، القوَّة والضعف، المُتجسَّد والمُبهم؟ كل ولادة تعبث بهذه الاحتمالات، وليكتبوا هذه القصص، يجب على الكُتَّاب أولًا أن يُصدقوا أنَّها مُهمَّة: خصبة، لتُستخدم كمجاز مُناسب، وعلى النساء أن يتجاوزن عادتهن لأن يُشاركن التفاصيل فقط في السر مع نساء أُخريات مررن بعمليَّة الولادة أنفسهن، عليهن أن يُصارعن أي صدمة مررن بها – طبيب قاسي أو صدمة ألم كسرهن في لحظات أو اكتئاب ما بعد الولادة أو عيب ولادة أو طفل وُلِد ميتًا، عليهن أن يصلن للذكريات التي جعلها الأدرينالين والتعب غير واضحة، وأن يضعن جانبًا عار ما تصرفن عليه في تلك الظروف القصوى.

 

سيكون الأمر يستحق ذلك.

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

اقرأ أيضًا: 

الماعز والبامبو: بناء الوافد في النص الروائي

7 أخطاء تنفّر طفلك من القراءة

دع القلق وابدأ الحياة؛ كتاب يلامس التجارب الانسانية

كيف تخصص ركن قراءة للأطفال؟

 

 

 

 

بوب ديلان يحصد جائزة نوبل للأدب 2016

$
0
0
 
 
 

أسطورة الموسيقى الأمريكيّ؛ بوب ديلان، الذي ألهمت كلمات أغانيه الشعرية أجيالًا من المعجبين، فاز بجائزة نوبل للأدب يوم الخميس 13 أكتوبر 2016، كأول كاتب أغانٍ يحصد الجائزة، في قرار صعق العديد من المتابعين والمترقبين للنتيجة.

 

كُرّم بوب ديلان (75 سنة) "لابتكاره تعبيرات شعرية جديدة ضمن تقليد الأغنية الأمريكية العظيم "حسب الأكاديمية السويدية.

 

الإعلان عن فوز ديلان قوبل بجولة طويلة من التصفيق العشوائي من الصحفيين الحاضرين للإعلان. مغني الروك الشعبي ذكر في العديد من تخمينات نوبل عبر السنوات لكن لم يُرَ كمنافس جدي. اقرأ أيضًا: 3 روايات تطرح تجربة الاقتراب من الموت.

 

 

سكرتيرة الأكاديمية، سارة دانيوس، قالت بأن أغاني ديلان هي "شعر للآذان"مع الإقرار بأن البعض قد يجد الخيار غريبًا.

 

"... إذا فكرنا بهومر وصافو، سندرك أن أعمالهم كانت أيضًا أشعار سمعية. كانت تفترض أن تُأدّى مع آلات موسيقية"قالت دانيوس.

"لكننا ما زلنا نقرأهم بعد 2500 سنة ... وبنفس الطريقة، يمكنك قراءة بوب ديلان أيضًا. وتدرك أنه رائع في كتابة السجع، ورائع في تجميع الامتناعات، ورائع في الصور الشعرية"قالت في تصريح للصحافة الحرة الأمريكية.

 

 

أضافت أيضًا أنه من خلال تجسيد كلا "التقليدين المثقف والشعبي"، تأثر بموسيقى الدلتا بلوز، الموسيقى الشعبية من الأبالاتشيا وغيرهم مثل شاعر القرن التاسع عشر الفرنسي، آرثر ريمبو، الذي كان يكتب بأسلوب سريالي. اقرأ أيضًا: 10 كتّاب خسرتهم جائزة نوبل للأدب.

 

 

"ديلان له مقام الأيقونة. تأثيره على الموسيقى الحديثة عميق"أضافت الأكاديمية.

 

 

 

 

الكاتب سلمان رشدي، الذي كثيرًا ما اعتبر ضمن خيارات جائزة نوبل، رحب بديلان "كخيار عظيم"، "من أورفيس إلى فيض، الأغنية والشعر مقرونتان. ديلان هو الوريث المتألق للتقليد المتعلق بالشعر."كتب على تويتر. اقرأ أيضًا: هل لجائزة نوبل أجندة سياسيّة؟

 

رئيس الولايات المتحدة، أوباما، أيضا أرسل تهنئته إلى ديلان عبر تويتر، ودعاه "أحد شعرائي المفضلين".

 

كما عرف ديلان دومًا بخصوصيته، لم يعلق على الجائزة إلى الآن، أكثر من 5 ساعات بعد الإعلان.

 

جائزة نوبل هي آخر تقدير لمغني جاء من بدايات متواضعة باسم روبرت آلان زيمرمان، الذي ولد عام 1941 في دولوث، مينيسوتا، وعلة نفسه عزف الهارمونيكا، الجيتار والبيانو.

 

مأسورًا بموسيقى المغني الشعبي، وودي غوثري، غير زيمرمان اسمه إلى بوب ديلان، تيمنًا بالشاعر الويلزي ديلان ثوماس، كما ذكرت التقارير، وبدأ مسيرته مؤديًا في النوادي الليلية.

بعد الانسحاب من الجامعة، انتقل إلى نيويورك في 1960. أول ألبوم له احتوى على أغنيتين أصليتين فقط، لكن انطلاقته في 1963 "بوب ديلان الحر"تضمنت عدد كبير من أعماله الشخصية منها الأغنية الكلاسيكية "أنفاس". اقرأ أيضًا: ككاتب يجب عليك أن تفهم.

 

 

متسلحًا بهارمونيكا وجيتار، واجه ديلان الظلم الاجتماعي، الحرب والعنصرية، مما جعله مدافعًا بارزًا عن الحقوق المدنية، خلال تسجيل 300 أغنية في سنواته الثلاث الأولى.

 

تم رصد جولة ديلان البريطانية الأولى في الوثائقي الكلاسيكي "لا تنظر إلى الخلف"في 1965، السنة نفسها التي أغضب بها جمهور الموسيقى الشعبية، بسبب استخدامه جيتار كهربائي في مهرجان نيوبورت الشعبي في رود آيلاند.

ألبوماته اللاحقة، "زيارة أوتوستراد 61 مرة ثانية"و "أشقر على أشقر"، حصلت على تقييمات حماسية، لكن مسيرته المهنية انقطعت في 1966 عندما أصيب في حادث دراجة نارية أبطئ من إنتاجه التسجيلي في السبعينات. اقرأ أيضًا: 23 حقيقة عن جائزة نوبل للأدب.

 

 

بحلول بداية الثمانينات، بدأت موسيقاه بعكس إيمانه بمسيحية الولادة من جديد، مع أن هذا تم تخفيفه في الألبومات اللاحقة، وشهد العديد من معجبيه انتعاش موهبته السابقة المتفجرة في التسعينات.

منذ بداية الألفية الجديدة، بالإضافة إلى تسجيلاته المنتظمة وجولاته، وجد ديلان أيضًا الوقت لتقديم برنامج راديو منتظم يدعى "ساعة راديو وقت الطابع"، ونشر كتابًا لقي إعجابًا، يدعى "مذكرات"في 2004.

 

 

كان بوب ديلان محور فيلمين آخرين على الأقل، فيلم مارتن سكورسيزي "لا وجهة للبيت"في 2005 و"أنا لست هناك"في 2007 من تمثيل كريستيان بيل، هيث ليدجر وكيت بلانشيت. اقرأ أيضًا: أغانٍ أدبية مقتبسة عن كتب.

عبر السنوات، فاز ديلان بإحدى عشر جائزة غرامي، بالإضافة إلى غولدن غلوب وأوسكار في 2001، لأفضل أغنية أصلية "تغيرت الأمور"في فيلم "أطفال الدهشة".

 

التخمينات قبل الإعلان تمحورت حول الشاعر السوري أدونيس والكاتب الكيني نغوغي واثيونغو. ردات الفعل تجاه ديلان كانت إيجابية لكن البعض اعترض.

 

 

الأكاديمية معروفة بدفع حدود تعريف الأدب، حيث كرمت وينستون تشرتشل في 1953 لخطاباته خلال فترة الحرب، مثلًا. اقرأ أيضًا: 5 مقاطع موسيقيّة تساعدك على التركيز أثناء القراءة.

 

الصحفي السويدي المختص بالموسيقى ستيفان ويرميلين قال بأن الأكاديمية معروفة بخياراتها المتنوعة.

 

"أحيانًا يكون شخص غير معروف وقليل من الأشخاص قرأوا له، وأحيانا يختارون شخصًا له جاذبية شعبية، لكن هذه أول مرة تذهب فيها الجائزة إلى نوع تعبيريّ موسيقي وفي ذلك النوع، ديلان صنف بنفسه".

 

 

لكن بير سوينسون، كاتب الثقافة في الجريدة السويدية اليومية "سيدسوينكان"، دعى الخيار "كئيب بشكل لا يصدق" و"تقليد لترامب" في محاولة لاجتذاب العامة للجائزة رفيعة المستوى.

 

الكاتبة السويدية جوهانا كوليونين أشارت إلى أن "الأوضاع تتغير"في المؤسسة المهيبة ذات المئتان وثلاثون سنة، في سوء اقتباس لإحدى أغاني ديلان.

 

"الأكاديمية السويدية تعمل بتأخير لذا خلال 10 إلى 20 سنة سنكون نتحدث عن جاي زي وكانيي، وذلك سيكون رائعًا".

 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

اقرأ أيضًا:

التحرر من الزمان والمكان في "لعبة الكريات الزجاجية"

نظرة موجزة على تجربة السيّاب الشعرية

5 كُتّاب شباب يعدون بالكثير

القراءة السريعة: كيف تضاعف سرعتك في القراءة؟

 

 

 

 

تعيسة ووجع الهوية في السودان

$
0
0

 

 

تكون الرواية في أفضل حالاتها عندما تطرح قضيةً تشغل المجتمع الذي خرجت منه، أو عندما تكون صوت الناس الذين تحكي حكايتهم؛ وكذلك رواية "تعيسة"للسوداني بشرى فاضل.

 

الوطن العربي هو مصطلح جغرافي-سياسي يطلق على منطقة جغرافية ذات تاريخ ولغة وثقافة مشتركة، بغض النظر عن الهويات العرقية ،،هذا ما أقرته جامعة الدول العربية ، وذلك لوجود أعراق غير عربية لها أثرها في المكون الإنساني للمنطقة مثل الأقباط، الأمازيغ، الأكراد والأفارقة؛ لهم حق المواطنة، يتحدثون العربية ويشاركون القبائل العربية في العادات والثقافات.

 

يمثل السودان أكثر دول العالم العربي تعددًا للأعراق، موزعة على أرضه الفسيحة، حيث نجد القبائل التي تعيش في شمال ووسط السودان تمثل الانحدار من العرق العربي -حسب العرف السائد-، الأصل النوبي نجده في أقصي الشمال، أما في شرق السودان فهناك خليط من قبائل "البجا"التي يذكر المؤرخون انحدارها من قبائل حامية نزحت قديمًا من منطقة أسوان في جنوب مصر، كما نجد في الشرق قبائل بدوية نزحت من الجزيرة العربية.

 

في غرب السودان يستوطن الفور والزغاوة وغيرهم من القبائل ذات الأصل الأفريقي، أما جنوب السودان والذي استقل بذاته، فبه تقطن أكبر القبائل النيلية، الدينكا، الشلك والنوير.

 

بهذه المقدمة أردت الولوج لجدلية الهوية السودانية المعقدة، التي تحدث عنها كثير من أهل الرأي المعتبر، وأظن أجمل الأقوال "كون السوداني سودانيًا وحسب"، يجعل أهل السودان في وئام وتمازج فريد.

 

المشكلة الأزلية في الجنس البشري التي تتمثل في التفاخر بالأعراق والأنساب لا يمكن استثنائها في السودان، و"تعيسة"هي رواية للدكتور بشرى الفاضل تناولت هذه القضية بمنظور خيالي أدبي راقي، نُشرَت عن دَار مدارك في 2015، في حدود ٢٠٠ صفحة. الدكتور بشرى الفاضل أديب وشاعر وأكاديمي سوداني له العديد من المؤلفات.

 

 

تعيسة هي شخصية الرواية المحورية، سميت سعيدة عند الولادة، وأجمع الكل على أنها تعيسة حتى صار اسما لها وذلك لكونها صماء، بكماء وعمياء .
تبدأ القصة بهروب أسرة سعيد محمد خير وعبده (بخيت فرج الله ) من الغزو التركي للسودان في القرن التاسع عشر، من منطقتهم الكائنة في شمال السودان بالقرب من نهر النيل واتجاههم ناحية الغرب الجغرافي؛ بهذا الهروب خسر سعيد محمد خير أهله وأرضه وانتمائه العشائري.

 

يخوض الكاتب في تفاصيل الرحلة من الإعداد لها، الصعوبات التي واجهوها خلالها، والإحباط الذي أصابهم بعد أن تيقنوا من أنهم قد تاهوا في الصحراء، حتى ظهور الواحة التي ستكون الملاذ والمستقر .
في هذه القرية المنقطعة من أي اتصال أقامت الأسرتان، وتم ترتيب الحال وفق الظروف المتاحة من أكواخ للسكن وأرض خصبة وتربية للماشية التي كانت معهم.

 

في هذه الظروف ذابت الأنا المتسلطة للسيد سعيد محمد خير وارتفعت الأنا المهانة للعبد بخيت وذلك بتزاوج أبناء الأسرتين وبرغبة أساسية من السيد، وهو مالا يمكن حصوله أو مجرد التفكير فيه، في حال كانا موجودين في بيئتهما الأم .

 

يستمر الحال حتى يولد الجيل الثالث من هذا الاندماج وعنده لا يتم التفكير في الأمر على أنه شاذ أو غريب، ويرجع الكاتب الأمر لعدم وجود الطرف الثالث في القضية؛ وهو الشاهد أو العين الرقيبة الناقدة، في هذه الفصول من الرواية تفاصيل الحياة من إنتاج وتعليم للصغار بما هو متاح من المعرفة.

 

تولد تعيسة بعد أربعة أجيال من التغريبة، من سلالة السيد والعبد معًا، في مكان مجهول في بقعة نائية، تجهل كل شيء يدور حولها لأنها صماء، بكماء وعمياء؛ لكنها فريدة في جمالها لا تشبه أحدًا، ولا يستطيع الناظر إليها غض البصر.

 

النظر إليها يجلب السعادة في النفوس، أما دواخلها فتمور بعوالم لم ولن يكتشفها أحد، تبني علاقتها بالعالم الخارجي من خلال حاستي الشم واللمس فقط، لم تسلم تعيسة ممن هم حولها؛ إذ أكد الكبار أنها مبدّلة؛ أي أنها ليست من عالم الإنس، واستمر بها الحال هكذا حبيسة في كوخ منفرد تحت رعاية وحب واهتمام والدتها حتى بلغت الثامنة عشر وحينها ابتسم لها القدر .
في الفصل الأخير يتحدث الكاتب عن زيارة جماعة توثيق الفلكلور، الذين وصلوا للقرية بعد أن ضلوا طريقهم.

 

يستضيفهم أهل القرية ليتعرفوا على أفرادها، وليدهشوا -طبعًا- بتعيسة وجمالها.

يستطرد الكاتب في الحديث عن الهوة العميقة التي خلّفها الانقطاع بين أهل القرية ومحيطهم، ذهابًا إلى نهاية الحكاية؛ حيث تزوج عبد البين السائق من تعيسة، وانتقل الجميع للعاصمة الخرطوم، لتسافر بعدها تعيسة وزوجها لإحدى الدول الإسكندنافية بمساعدة المنظمات الإنسانية؛ حتى تتوفر لها بيئة ملائمة لوضعها؛ استنادًا على قصة نجاح هيلين كيلر في التغلب على وضعها.

 

 

تأتي رواية "تعيسة"للدكتور بشرى الفاضل، لتذكرنا بأن الاندماج العرقي في السودان ممثلًا في "تعيسة"، يمكنه أن يكون جميلًا جدًا طالما لا أنه لا يعي الاختلاف الموجود في الأصل، ولا تحيط به عين رقيبة تذكره بالفروقات المفروضة عليه. 

 

 

 

 

لماذا رفض ت. س. إليوت نشر رواية "مزرعة الحيوان"لأورويل؟

$
0
0

 

 

 

في الرسالة التي يرفض بها ت. س. إليوت نشر رواية جورج أورويل الرمزية "مزرعة الحيوان"يبرر قائلًا: "ليس لدينا قناعة، بأن هذه هي وجهة النظر الصحيحة لانتقاد الوضع السياسي".

 

نشرت هذه الرسالة إلكترونيًا لأول مرة على موقع المكتبة البريطانية، إلى جانب العديد من الوثائق التي تتعلق بكتاب القرن العشرين.

 

رسالة إليوت التي بدأها بـ "عزيزي أورويل"في 13 تموز 1944 عندما كان مديرًا لدار النشر "فيبر وفيبر"التي رفضت نشر رواية "مزرعة الحيوان"، وصف فيها إليوت نقاط قوة الرواية بقوله:

 

"نحن متفقون على أن الرواية قطعة مميزة من الكتابة، وأنه قد تم التعامل مع القصة بشكل بارع، وأن السرد يحافظ على اهتمام القارئ؛ وهذا شيء استطاع القليل من الكتاب تحقيقه منذ غوليفر".

 

 

"مزرعة الحيوان"، قصة هجت الستالينية وأظهرت ستالين كخائن، تم رفضها من قبل أربعة ناشرين على الأقل، وكان أكثرهم يتفق مع إليوت بأنها جدلية جدًا لوقت كانت فيه المملكة المتحدة في تحالف مع الاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا. 

 

 

"أظن أن عدم رضاي الشخصي عن القصة الرمزية هو أن أثرها نافٍ. يجب عليها أن تحفز بعض التعاطف مع ما يريده الكاتب، بالإضافة إلى التعاطف مع اعتراضاته على شيء معين: ووجهة النظر الإيجابية، التي أفهم أنها تروتسكية، ليست مقنعة".

 

"رغم ذلك، فإن خنازيرك أكثر ذكاء من بقية الحيوانات، ولهذا فإنها الأكثر أهلية لإدارة المزرعة، في الحقيقة، لم يكن سيكون لمزرعة الحيوان وجود بدونها؛ بالتالي يمكن المجادلة بأن المزرعة لم تكن بحاجة للشيوعية بل إلى المزيد من الخنازير شديدة الحب للعمل". يقول إليوت.

 

 

نشرت دار "سيكر وواربرغ"رواية "مزرعة الحيوان"في آب 1945. كتب أورويل في مقدمة الكتاب التي لم تطبع حتى عام 1972 أنه "كان من الواضح عند كتابة الرواية في عام 1943 أن نشر الكتاب سيكون شيء صعب". يكمل أورويل: 

 

"إذا حاول الناشرون والمحررون إبقاء بعض المواضيع غير مطبوعة فإن هذا ليس لخوفهم من المحاكمة بل من الرأي العام. في هذا البلد، الجبن الثقافي هو أكبر عدو لأي كاتب أو صحافي، ولا أظن أن هذه النقطة تمت مناقشتها بشكل كافٍ".

 

"في هذه اللحظة، ما يطلبه الرأي السائد هو الإعجاب غير الناقد لروسيا السوفييتية. الكل يعرف هذا وتقريبًا الكل يتصرف تبعًا له. أي انتقاد جدي للنظام السوفياتي، إي إفصاح عن وقائع تود الحكومة السوفيتية إخفائها، لا يتم طبعه".

 

 

 

رسالة إليوت هي واحدة من 300 وثيقة تم حفظها الكترونيًا من قبل المكتبة البريطانية، مزيج من المسودات، المذكرات، الرسائل والدفاتر لكتاب من فيرجينيا وولف إلى أنجيلا كارتر وتيد هيوز.

 

الأرشيف الأدبي يكشف أن أورويل لم يكن الكاتب الوحيد الذي تعرض لسلسة من الرفض فالمكتبة أيضًا حفظت مجموعة رسائل رفض لرواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه"، وتظهر كيف حاولت راعيته هارييت شو ويفر البحث عن مطبعة للرواية التي نشرتها على شكل سلسلة في مجلة The Egoist.

 

إحدى المطابع أخبرت ويفر أنهم "لن ياخذوا على عاتقهم أي عمل ذا صفة مشكوكة حتى لو كان كلاسيكيًا"وطلبت أخرى "حذف بعض الفقرات التي اعترض عليها البعض". القانون البريطاني حمل المطبعة مسؤولية طباعة أي كتاب اعترضت عليه الحكومة، لكن الناشر الأمريكي ب. و. هيوبش وافق أخيرًا على طباعة رواية جويس.

 

الأرشيف يحتوي أيضًا على رسالة من وولف في عام 1918، ترفض فيها نشر "عوليس". وولف تخبر ويفر أن "طول الرواية لا يقهر بالنسبة لنا … لا نستطيع إيجاد أحد ليساعدنا، وعلى معدلنا، فإن كتابًا مكونًا من 300 صفحة سيحتاج إلى سنتين لإنتاجه، وهذا بالطبع شيء غير مقبول لك أو للسيد جويس".

 

 

 

المقال مترجم؛ لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

 

طبل الصفيح؛ تعدد السرد وطرح التساؤلات

$
0
0

 

 

تكمن قيمة هذا العمل في صدقه اتجاه الإنسان؛ عندما منحت الأكاديمية جائزة نوبل لغونتر غراس، كانت تعلم أن الإنسان يحتل شأنًا مقدسًا في كتاباته.

 

طبل الصفيح عملٌ منهكٌ للقارئ المحترف؛ أستطيع تفهّم من يقرأ الورقات الأولى ويتوقف، ليس لمللٍ قد يعتريه، بقدر ما هو تعب نتيجة الجهد الهائل الذي تتطلبه قراءة هذا النص المعقد الذي حبكت أجزائه باحترافية عالية، كان التكلف عنصرًا طاغيًا عليها.

 

بقي أوسكار بالنسبة لي حالة إنسانية كغيرها من الحالات التي نقابلها في حياتنا اليومية، حتى وهبه غراس حياة خالدة من خلال الغرفة التي نزل بها في مصحه العقلي، عندما اتهم دون وجه حق.

 

المراحل التي عاشها أوسكار تخبرك عن أثر التحول في حياة الإنسان؛ الحياة التي عاشها بعد الحرب العالمية الأولى، حياته قبل الحرب الثانية، وكذلك بعد الحرب؛ وحده طبل الصفيح رفيقه الأول.

 

لقد أجاد الأديب الألماني في التعبير عن قلقه بعد الحرب الثانية، وبدا طاغيًا أثر التشتت والصراع الذي عاناه الفرد الأوروبي، الألماني تحديدًا على كتاباته.

 

تصدعات رجل القرن العشرين، في النصف الأول منه، مقلق ومخيف، ووسط كل هذا تبقى الكوميديا بسوداويتها تحارب إلى جانب ذلك الإنسان، علها تخفف بعض وجعه وفي النص الكثير من ذلك الهروب من أرض واقع الدمار والحرب والموت والدم والتهجير.

 

 

من أعظم تقنيات هذا النص الفاخر أسلوب السرد الذي تنوع بين المتكلم والغائب، وبينهما يظهر ويختفي ذلك الصوت الذي يبدو كأنه يحارب أوسكار، كل هذا تم في سياق مزج بين الواقعية وإسقاطات دينية عبثية. لن تصيبك غرابة السرد بحيرة رغم بعض التشتت الذي سوف يزول وفق خلفيتك السابقة ومعرفتك بروايات عظيمة.

 

كانت هذه أدوات غراس في الأصل لمحاكاة الظروف السياسية في تلك الحقبة -الثلاثينات والأربعينات-، لكنها كانت واقعية سحرية صادمة، وليست فقط فنتازيا سحرية كحذاء سندريلا في النص الأوروبي، أو مصباح علاء الدين في النص العربي.

 

يبدو جليًا أثر السردية العربية على الكاتب من حيث خروج حكايات صغيرة من وسط حكاية أكبر وفق وحدات سردية هائلة.

 

مرهقة هي الرواية التي تبدأ بجملة مخيفة كهذه "أعترف بأنني نزيل مصحة للأمراض العقلية"؛ تعيق تقييمك للكثير من الأحداث الأولى، تبقى عالقة في ذهنك حتى بعد نهاية الرواية وتسأل نفسك هل ما قرأته تجاوز حدود الجملة الإخبارية، أم أن الجمل مجرد خبر ضمن سياق النص؟

 

مرهق لطفل أن يتحتم عليه الاختيار بين العمل في المتجر مع والده وبين انتظار تحقيق أمنية الحصول على "الطبل"؛ في عيده الثالث يرتبط أوسكار بطبله لنهاية حكايته.

 

السؤال الذي كان يلحّ عليّ بقوة أثناء الرواية؛ هل كان يحتاج أوسكار أن يجعلني في كل هذه الحيرة من نقاشات دينية بين اليهودية والمسيحية وإسقاطها على الواقع؟ هل كنا نحن نحتاج هذا التشتت الدرامي مع النص لمعرفة الإنسان الذي عايش الحرب والحب والترحال وفقد الأحبة؟

 

وبعد انتهائي من الرواية، تساءلت ما إذا كان تيودور أدورنو راضٍ عن هذا العمل بعد تحديه منجزات العمل الروائي الأماني بعد الحرب.

 

عندما قرأت هذا النص الزاخر تذكرت مباشرة نصًا آخر جميلًا وقويًا لسلمان رشدي، تحت عنوان "أطفال منتصف الليل"، هذا النص خرج، نعم خرج من رحم رواية طبل الصفيح دون جدال، وأكاد أجزم أن سلمان رشدي لو سئل عن تأثره في الرواية عند كتابة هذا النصّ لردّ بالإيجاب.

 

لم يكن من السهل الشعور الكامل والمطلق بعظمة الترجمة فنحن نتحدث عن نص ألماني ولغة قد لا تجد مرادفات لبعض كلماتها في القاموس العربي، وكما قال المترجم وفق هذا النص "إن ترجمة أعمال غراس لا تعني سوى شيء واحد، وهو تحويل حشيش مزدهر إلى تبن يابس". (انظر صـ12-15).

 

أشكر غراس أن العمل لم يكن كبعض الروايات التي تأتي دون فصول أو ترقيم، أو حتى تلك النجوم التي تفصل مشهدًا أو مقطعًا عن الآخر؛ فهذا توافق مع حجمها الكبير.

 

أخيرًا؛ هذا العمل الفريد هو عبارة ثلاثية للكاتب، وقد تلاها: القط والفأر وسنوات الكلاب، التي ستحمل فيما بعد اسم "ثلاثية غدانسينغ". 

 

 

 


5 أعمال أدبية واقعيّة لمحبي الرُّعب

$
0
0

 

 

 

اعتدتُ أن أقضي الكثير من الوقت في تخيُّل نوع البحث الذي يحتاج الكُتَّاب القيام به ليجعلوا كُتبهم مُقنعة أكثر، وأن أُفكِّر بالأماكن التي زاروها والأسئلة التي سألوها والكتُب التي كان عليهم أن يقرؤوها، لكن في النهاية توقَّفت عن التساؤل وبدأت أقرأ، فأنا لا أقرأ الكثير من الكتب غير الخياليَّة، لكن اتضح أنَّه عندما أفعل، فإنني أنجذب للنوع الذي أتخيَّل أنَّه سيجذب اهتمام محبّي روايات الإثارة والرُّعب؛ الأمراض والجثث والخوف.

 

أستعرُض هُنا لائحة من خمسة أعمال غير خيالية ستلائم ذوق محبي الرعب:

 

 

1- داء الكَلَب: تاريخ ثقافي لأكثر مرض شيطاني في العالم، لبيلي واسيك ومونيكا مورفي

 

حتَّى في الوقت المُعاصر، يُنظر لداء الكلب على أنَّه مرض خطير وغامض يجب أن نخافه جميعًا، وفي أيَّامه الأولى، كان سرُّه أعظم، فالمرض الذي أصبحنا نعرفه كداء الكلب كان أساس كثير من قصص المُستذبين والأحياء الأموات، وتاريخه يتقاطع مع أسماء كبيرة مثل لويس باستور، كما أنَّه لمس كل زاوية وكل طبقة، وحتَّى الآن يُسبب رعبًا.

 

 

2- عمل الدم: حكاية الطب وجرائم القتل في الثورة العلميَّة، لهولي تاكر

 

هذه قِصَّة عن الأيَّام الأولى لعمليَّات نقل الدم، وهي مليئة بالعلم والتشويق والفضائح، فهي سلسلة من التجارب تتضمَّن عمليات نقل دم الحيوانات للبشر، وتوثيق للنقاشات حول الطريقة التي تعارضت هذه التجارُب فيها مع إجراءات طبيَّة كانت موجودة منذ فترة طويلة مثل الفَصد، ومبادئ دينيَّة محفوظة بِشدَّة، مثل كون الروح موجودة في الدم، والأفضل من ذلك هو أنَّه يُقرأ كلغُز جريمة قتل.

 

 

3- جامد: حياة الجُثث البشريَّة المُثيرة للاهتمام، لماري روتش

تُعتبر ماري روتش من أفضل كُتَّاب الكُتُب الواقعية؛ غير الخياليَّة (وأعني بالأفضل الأكثر إمتاعًا وفكاهة وإثارة للاهتمام).

في هذا الكتاب تغوص بنا روتش في تاريخ الجُثث، والوسائل التي لجأ إليها الناس ليحصلوا عليها، وكُلُّ الطُرُق المتنوِّعة التي استخدمت فيها، كما أن التاريخ الذي يحويه هذا الكتاب يتداخل مع الكتب الأخرى في هذه اللائحة، ويُنقِّب عن مواضيع مُثيرة جدًّا مثل المحاولات الأوَّليَّة لزراعة الرؤوس، وروتش راوية جيِّدة بقدر كونها كاتبة جيِّدة؛ ستجد نفسك تتمنَّى أن تجلس معها في مقهى وتسمتع لها لساعات.

 

 

4- قوس الموت: داخل المُختبر الشرعي الأسطوري، مزرعة الجسد حيث يروي الموتى الحكاية، لويليام باس وجون جيفيرسون

 

هذا الكتاب مُختلف قليلًا، فهو مُذكِّرات واحد من أهم علماء أنثروبولجيا الطب الشرعي في العالم، وهو أوَّل من أوجد "مزرعة الجسد"على جانب تلَّة في شرق ولاية تينسي، ويروي هذا الكتاب بعض الحالات التي تمكَّن من حلِّها بسبب عمله هُناك؛ وتلك التي لم يستطع حلّها أيضًا. هذا الكتاب قِصَّة حقيقيَّة، ولكن أكثر ما يتم مُناقشته هُنا هو مصدر إلهام لسلسلة روايات كتبها مع شريكه في الكتابة تحت اسم جيفرسون باس.

 

 

5- الصرخة: مُغامرات مُقشعرة للأبدان في علم الخوف، لمارجي كير

 

هذا الكتاب نصفه مُذكِّرات، ونصفه الآخر تجربة اجتماعيَّة لما يعني الشعور بالخوف ولماذا نشعر أنَّنا مُجبرون على أنّ نبحث عنه.

في محاولاتها الجهيدة لتفهم، تُسافر كير حول العالم لتبحث عن أكثر التجارب رُعبًا وتُشارك تجربتها لكُل واحدة، وبينما لم تستطع أن تُقنعني بجاذبيَّة الأفعوانيَّات، جعلتني أُريد أن أحاول أن أزور منزلًا مسكونًا لأوَّل مرَّة (اشتريتُ تذاكر لليلة الهالوين)، كما أنَّني حتمًا أوصي أن يُقرأ هذا الكتاب بنسخته المطبوعة، فالكاتبة تقوم برواية الكتاب المسموع، وصوتها لا يُناسب الموضوع.

 

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا. 

 

مذهلات توجب قراءة "الحب في زمن الكوليرا"

$
0
0

 

 

هذه المراجعة هي ملاحظات كاتب منبهر بما احتوته رواية "الحب في زمن الكوليرا"لغابريل ماركيز بترجمة الرائع صالح علماني.

 

ولعل البداية تكون من فكرة الرواية التي ذكر ماركيز في أحد لقاءاته أنه استوحاها من قصة حب بين أمه وأبيه ثم أضاف لها حبكة بقصة قرأها في الصحف عن حب كان بين عجوزين وانتهى نهاية مأساوية ذكرها في روايته.

 

معرفة هذا مهم للقارئ والكاتب؛ فالقارئ سيتعجب من قدرة ماركيز ويتفهم أن الكثير من الروايات هي انعكاس للواقع ، ومهم للكاتب حتى يلتقط أفكاراً من محيطه دون أن يخجل في تضمينها لروايته.

 

بدأ ماركيز روايته بومضة للخلف، وهذا من أعسر الأمور على الكاتب وأخطرها على القارئ؛ فكل ما سيكتبه تاليًا هو شيء عُرفت نهايته أو على الأقل هي منظورة للقارئ. فبماذا عساك تجذب القارئ وأنت للتو قد كشفت له قَدَر البطل من وراء حُجُب!

 

 

على أن ماركيز قد أبقى بعض الفضول للقارئ ليحاول معرفة مآل طلب ذلك العجوز؛ من هنا راح يمارس بكل ثقة سرد المواقف من الماضي، ساكبًا فيها حِكمًا وأفكارًا تأسر القارئ، ثم أضاف لها تأريخًا لحقبة زمنية ليؤكد أن الرواية انعكاس للمجتمع وهي مرجع الباحثين في للمستقبل لما تحتويه على مواقف لكل زمن، فتنبئك عما جرى فيه.

فها هو يذكر رهبة مجتمعه من الكتب واستثناءهم بعض كتب حكايات الأطفال التي هي في حقيقتها تحتوي على الفساد الأعظم.

 

تحدث عن حطام امرأة تزوجت فوجدت في الزواج وجعًا وألمًا حيث لم تتوقع أن تكون فيما يصفه "خادمة مرفهة"، وهذا ليس تعييبًا في خدمة المرأة لبيتها ولكنه انتقاد لرغبة المجتمع في أن تكون النساء كل النساء مبدعات في الطبخ والتنظيف حتى لو كان ذلك ضد رغباتهن واهتمامهن.

 

 

وكانت تلك البداية للكشف عن واقع زواج يظنه الناس على أحسن حال وفي واقعه خراب ينتظر سقوط جدرانه!

 

ثم يدلف إلى بيان اعتراضه على زواج شخصين لا يعرفان بعضهما ولا تربطهما أي صلة!

 

لا ينفك ماركيز ينقل واقع مجتمعه ثم يقول رأيه بحكمة تطرب يومك؛

 

"الشيء الوحيد الذي أعتبره أسوأ من اعتلال الصحة هو سوء السمعة."

 

 

في هذه الرواية ظهر ماركيز الفيلسوف على لسان أحد أبطال الرواية:

 

"لست ثريًا؛ أنا فقير يملك مالاً."

 

 

 

ثم يثبت لنا ماركيز أن الحكمة على لسان البطل لا تعني مثاليته، فهو حكيم في بعض المواقف وأبله في أخرى كما هو واقع الحياة!
وفي مشهد عظيم يصف علاقة الابن بوالده وشبهه به حين يقول:

 

"يعرف المرء أنه قد بدأ يشيخ حين يبدأ بالتشابه مع أبيه".

 

 

 

وبذكر الأب، يتمثل أمامي مشهد تقلّب فيه ماركيز بالذكريات بين حال البطل الآن ثم ماضيه مع الأب ثم حاله الآن ثم عودة لماضيه مع الأم وكل ذلك في صفحة واحدة كأنما هي صورٌ يقلبها بين يديك.
وهذه الجزئية مهمة للكاتب أن يعلم بجوازها في التأليف فهي تمنحه سهولة في التنقل بين الأحداث دون الحاجة لمزيد سبب أو حبكة ثانوية.

 

 

 

ثم يظهر ماركيز الرومانسي المغلوب على أمره الذي يخاف الموت فيقول:

 

"ما يؤلمني في الموت ألا أموت حبًا."

 

 

 

ويكاشف ماركيز خفايا النفس مع القارئ لتظهر في معاناة البطل الذي يقاوم وخز ألم سعادته برغبته في موت رجل سرق حب حياته!

 

 

 

ويستمر بتلك المكاشفات الثقيلة على نفس القارئ باكتشاف الأم أن:

 

"حب الأولاد ليس نابعاً من كونهم أبناء، وإنما منشؤه صداقة التربية."

 

 

 

 

ماركيز يمارس السحر حين يعلمنا ويمتعنا ويوجعنا بوصف المرض:

 

"كان يشعر بزمجرة القط النائم في كليتيه، ويحس بخرير الدم في شرايينه. كان يستيقظ أحيانًا في الصباح كسمكة لا تجد الهواء لتتنفس".

 

 

 

ويأتي بعدها تساؤل: هل قسى ماركيز على مجتمعه أم نقل الحقيقة المرة حين قسم النساء إلى صنفين فقط: صنف في متعة باكورة الزواج وصنف أعزب للأبد، أما غير ذلك من متزوجات وأرامل وجدات فكن شيئًا مختلفًا، يحسبن عمرهن بما تبقى لهن من زمن على الموت!

 

 

 

هل يحق لنا أن ننسب ما قيل في الرواية لماركيز وكأنه يتبناه؟ بالتأكيد الأمر ليس كذلك؛ فالروائي ينقل الصورة بعينه أحيانًا وبعيون الآخرين أحايين كثيرة، فيما يرونه ويفعلونه في مجتمعهم الذي هو بالنسبة للقارئ مجتمعًا موازيًا. وهذا درس آخر للكاتب؛ أن ينقل الواقع حتى لو كان مؤلمًا ومخجلًا ولا يتفق معه؛ فالكاتب ليس مُنظِرًا أو واعظًا، مع حقه في عرض رأيه على لسان شخوص الرواية دون أن يميل إليها، فيرفع رأيه ويخفض غيره؛ فالقارئ ذكي فطن ولا يقبل الخداع.

 

يكاد ماركيز لا ينسى شيئًا في هذه الرواية حتى الصلع؛ جاء على ذكره ونقل معاناة وتجارب من حاول مقاومته بالطب تارة وبالخرافة تارة أخرى.

 

 

كما لم يترك هذه الرواية دون أن يفضح الفساد في طبقات المجتمع وينقل صوراً من تذاكيهم وتلاعبهم بالأنظمة والقوانين.

 

 

السؤال الذي أطرحه على نفسي: ماذا تبقى لدى ماركيز ليكتبه في بقية رواياته وهل سأقرأ فيها شيئا لم يأت على ذكره في رائعته "الحب في زمن الكوليرا"؟

 

 

 

 

 

ألف عام وعام على المسرح العربيّ

$
0
0

 

 

من الغريب القول أن المسرح العربي لم يظهر إلا مؤخرًا في أواسط القرن الماضي؛ في هذا المقال محاولة لتوثيق بعض الصلات المتعلقة ببدايات المسرح العربي، وكشف الحقائق التي تدحض إنكار المسرح عند العرب.

هل مر حقًا ألف عام على المسرح العربي؟ لقد استقيت هذا العنوان من كتاب للمستشرقة السوفيتية تمارا ألكساندروفنا، تقول في مقدمته:

 

"وهل من المعقول أن يكون مر الرقم ألف عام وعام بالضبط؟

لابد لي من الاستدراك والقول إن الرقم لا يمت إلى الدقة العددية بصلة، ... فإني أسرع لأذكرك أن عبارة "ألف عام وعام"يقصد بها الكثرة في الكثير من اللغات الشرقية، حينما يراد التبسيط، أو تعني الكثير والعديد، وبالفارسية كلمة ألف العدد الكثير."

 

 

 

 

لمحة تاريخية: ما هو المسرح؟

باليونانية "theatron"؛ أحد فنون الأداء، يهتم بموضوع التمثيل لقصص وملاحم تاريخية أو اجتماعية أمام حشد ضخم من الجمهور لنقل القصة بشكل حي بهدف تثقيفي أو تعليمي أو ترفيهي، باستخدام مزيج من الكلام، الحركة، الرقص، الموسيقى، الصوت وحتى الحركات البهلوانية أو الإيمائية.

بالإضافة للنمط الروائي الحواري التقليدي، يمكن للمسرح أن يأخذ شكل أوبرا، باليه، كابوكي، الرقص الهندي، أوبرا صينية، تقليد، مسرحيات شعبية أو البانتو.

 

 

نشأة المسرح:

لا يمكن البت تمامًا في تاريخ نشأة المسرح، إلا أنه فن يوناني قديم، يعتمد اللغة الشعرية، فكما يرى أرسطو في كتابه فن الشعر أن اليونان عرفوا الشعر الغنائي، ثم بدأ بالتطور حتى وصلوا إلى الشعر الملحمي، وهو ما يمكن تمثيله على خشبة المسرح، ثم بدأ انقسم إلى قسمين: شعر التراجيديا وشعر الكوميديا (المأساة والملهاة)، وبعدها بدأت التراجيديا بالتطور حتى وصلت إلى الحالة التي هي عليها الآن، وكما أورد أرسطو في كتابه فن الشعر، أن اسخيليوس أول من رفع عدد الممثلين من واحد إلى اثنين وقلل من أهمية الجوقة الموسيقية وجعل الأهمية الكبرى للحوار.

 

كون التراجيديا محاكاة لفعل، فالفعل يقتضي وجود بعض الأشخاص ذوي المميزات لتأديته، إن المسبب لهذه الأفعال هما الفكر والشخصية، وعليهما يعتمد عليه نجاح الشخصية من عدمه.  

 

وأجزاء التراجيديا كما نص عليها أرسطو ستة؛ الحبكة، الشخصية، اللغة، الفكر، المرئيات، المسرحية والغناء.

 

أما قواعد الحبكة الدرامية كما يراها أرسطو؛ فقد تم التعريف بأن التراجيديا حدث تام وكامل وذو عظم معين، والكامل هو ما له بداية ووسط ونهاية، فالبداية لا تعقب شيئًا بالضرورة ولكن يعقبها شيء ذا أهمية وضرورة، أما النهاية هي التي تعقب شيء بالضرورة ولا شيء يعقبها، والوسط هو ما يعقب شيء بالضرورة ويعقبه شيء.

 

يمكن القول أن الحد الصحيح والكافي للحبكة، هو الطول الذي يسمح للبطل بالانتقال من خلال سلسلة أحداث حتمية من حال الشقاوة للسعادة أو العكس.

 

 

لا يمكن إنكار الرأي الذي يقول أن المسرح العربي لازال في مرحلته الجنينية إلى هذا الوقت، ولكن هذا يعني أن هناك نطفة مسرحية تزرع في رحم الثقافة العربية.

 

إن أول محاولة مسرحية عربيًا كانت في العصر العباسي على يد ابن دانيال؛ فيما يعرف بمسرح خيال الظل، الذي يعتمد على حركة الدمى، وقد وجد هذا المسرح لتسلية الفقراء الذين تهمهم مناقشة الأمور السياسية والاجتماعية، ولفضح استغلال النظام السياسي، مما كان سببًا في عمل السلطة الحاكمة على الحد من حركته وتطوره.

 

لقد كانت هذه نهاية مسرح خيال الظل، أو بالأحرى نهاية الشوط الأول الذي كان على الأدب العربي أن يقطعه، لكن لابد من الإشارة أن السبب الكامن وراء عدم معرفة العرب للمسرح برأيي، هو أن الشعر عند العرب بدأ بكونه غنائيًا ولم يتطور إلى ملحمي، لذا لم ظهر أي إشارات للمسرح عند العرب، بعكس الحالة اليونانية، أضف لذلك أن المجتمع اليوناني هو مجتمع متحضر هادئ مدنيّ، أما المجتمع العربي فقد كان قبليًا دائم الهجرة والترحال، نتيجة لعدم الاستقرار لم نلمح عند العرب الأوائل أي نوع من الأدب المسرحي.

 

من الجدير بالذكر أن مسرح خيال الظل لم يجد أي اهتمام في تاريخ الحضارة العربية حتى النصف الثاني من القرن العشرين، بفضل المخطوطات النادرة للعروض ومكتشفات المؤرخين، ومع أن مسرح خيال الظل لم يترك أثرًا خاصا على تطور المسرح العربي المحترف، وهناك بعض الآراء التي ترفض رفضًا تامًا اعتباره شكلًا من أشكال المسرح، يعتمد وجهة النظر هذه مجموعة من النقاد منهم محمد مندور، فؤاد دوارة ومحمود تيمور.

 

لاحقًا، وبعد أن انشدّ اللبنانيون إلى فلك التأثير الأوروبي، أصبحوا أول من لفت النظر لمقارنة الثقافة المحلية التي سحقها الأتراك بالثقافة الغربية، وقد استمد اللبنانيون مثلهم الأعلى في التطور، عصر التنوير الفرنسي في القرن الثامن عشر، كضرورة ضد الاقطاعية المتخلفة، وهكذا التحمت طموحات الشرقي العربي مع الأفكار الأوروبية.

 

 

عندما أصدر بطرس البستاني خلال أعوام 1866 – 1869 معجمه الشهير "محيط المحيط"، ضمنه مصطلحي المسرح والخشبة، مع شرح يقول أن هذه الكلمة تعني مكان اللعب، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر مصطلح الرواية التشخصية، وحتى ذلك الحين كانت المسرحيات المدرسية بدائية في لبنان، إلى أن ظهرت مسرحية (داود الملك لبطرس البستاني عام 1906) التي يمكن عدها عملًا مسرحيًا أصيلًا ذا تركيبة متكاملة ولغة جديدة وشخصيات مشوقة.

 

 

في عام 1876 ظهرت أول تراجيديا عربية متمثلةً بمسرحية المروءة والوفاء لخليل اليازجي وهو الابن الأصغر لناصيف اليازجي. هذه المسرحية قال عنها جورجي زيدان أنها مسرحية فريدة من نوعها في الأدب العربي، ثم أضاف أن ظهورها يشكل خطوة هامة في تاريخ الأدب المسرحي، لأنها تقترب من النماذج الدرامية لكبار الكلاسيكيين الأوربيين.

 

في مصر كان لافتتاح دار الأوبرا دورًا مهمًا في تطور المسرح، إذ إن العرب لم يعرفوا أبنية المسرح بعد تدمير المسارح الرومانية القديمة.

 

إن أول محاولة عربية جادة لإلقاء الضوء على الظاهرة الثقافية والاجتماعية للمسرح العربي تعود إلى يعقوب لاندو، وذلك في كتابه (دراسات في المسرح والسينما عند العرب) عام 1958.

 

فقد وضع لاندو قائمة تضم 610 مسرحيات أصيلة معروفة من قبل القارئ والمتفرج، في ثمانية أنماط: الفارس، المسرحية التاريخية، الميلودراما، الدراما، التراجيديا، الكوميديا، المسرحية السياسية والمسرحية الرمزية.  

ويبقى هذا التصنيف في حدود الشرطية والمنطقية العرجاء، لأن الجنس يختلط بالمواضيع المطروحة؛ فالفارس يمكن أن يكون مكرس سياسيًا، والمسرحية التاريخية قد تأخذ شكلًا رمزيًا.

 

إن الحرب العالمية الأولى والثورة الاشتراكية العظمى قد وضعا حدًا للمعايير القديمة، فلم تعد المهمة الأساسية لرجال الثقافة بعث التراث التقليدي، بل أصبح اهتمامهم يتوجه نحو استيعاب المنجزات الحديثة والبحث عن أساليب واقعية لربط أواصر الحياة.

 

وقد وصل الفن المسرحي في مصر مستوى عالٍ من الرقي بالمقارنة مع بقية الدول العربية، في عام 1930 تم افتتاح أول معهد مسرحي، وفي عام 1933 نظمت أول مسابقة لأفضل مسرحية اشتركت فيها 43 مسرحية.

 

وفي عام 1934 تم تأسيس نقابة الممثلين المصريين، وفي عام 1935 تم تأسيس فرقة قومية للتمثيل وقد دُعي لرئاستها الشاعر اللبناني البارز خليل مطران.

 

في العراق تم تأسيس أول قسم للمسرح عام 1940 تابع لمعهد الفنون الجميلة في بغداد، وفي عام 1968 جرى ضم قسم المسرح لجامعة بغداد. في لبنان أسس أنطون ملتقى ومنير أبو دبس أستوديو للمسرح عام 1960، افتتح على أساسه بعد ذلك قسم للفن المسرحي في جامعة بيروت. وفي تونس أسس حسن زميدلي مدرسة للمسرح عام 1959.

وأقيم في المغرب عام 1974مهرجان لمسارح الشباب في البلاد العربية، وفي عام 1975 أقيم لأول مرة في طرابلس عاصمة ليبيا مهرجان للفنون الشعبية للبلاد العربية كافة.

 

 

لكن، ما هو شكل الفن المسرحي في البلاد العربية الآن؟

إن الجواب على هذا السؤال ليس سهلًا؛ فلوحة تطور الفن المسرحي في البلاد العربية مختلفة ومتنوعة وغير ثابتة، لكن هناك أمر واحد لا شك فيه؛ أن جميع الصعوبات التي تواجه المسارح العربية اليوم متعلقة بالنمو واستيعاب السبل الجديدة التي يؤمل منها إخراج المسرح العربي إلى الساحة الدولية.

 

 

جميع ما ورد أعلاه هو مجرد محاولة لتقليب صفحات التاريخ للمسرح على عجالة وتفنيد الاعتقاد السائد بأن المسرح العربي مفاجئ ودخيل، في سعي للفت الانتباه لهذا الموضوع لطرحه مجددًا من قبل المهتمين والباحثين.

 

 

 

المصادر والمراجع :

فن الشعر لأرسطو – ترجمة وتقديم الدكتور ابراهيم مادة – مكتبة الانجلو المصرية

تاريخ الأدب العربي الحديث – كريمسكي ص598

ألف عام وعام على المسرح العربي – تمارا الكساندروفنا ترجمة توفيق المؤذن – الطبعة الأولى دار الفارابي

 

 

 

 

ثقافة تويتر: حرية التعبير أو مسؤولية التعبير كما يراها الغذامي

$
0
0

 

 

جاء كتاب "ثقافة تويتر - حرية التعبير أو مسؤولية التعبير"للكاتب السعودي والناقد الدكتور عبدالله الغذامي، في 168 صفحة، وهو صادر عن المركز الثقافي العربي بطبعة أولى لعام 2016. ينحو الغذاميفي هذا الكتاب إلى محاولة لاستقراء الخطاب الثقافي الساري بين مستخدمي تويتر، ممزوجةً بمحاولة لتحليل الظواهر المنتشرة عليه، بين المغردين العرب خاصّة. 

 

 

يوزّع الغذامي كتابه على ستة فصول تسبقها مقدّمة توضّح أسباب كتابة الكتاب، وشيئًا من نهجه. جاءت الفصول مرتبة على النحو الآتي: 1- وجوه تويتر / الحقيقة المافوق تفاعلية 2- صناعة المعاني وسؤال تويتر (المؤسسة المجازية) 3- المعنى الوسائلي 4- المكشوفة الكاشفة 5- تغريدات الرهط ونقدها 6- تويتر: البيان الثقافي. اقرأ أيضًا: "بوب موب عمي": تجربة في الحداثة السائلة.

 

 

 

قد تشي هذه العناوين بصعوبة في القراءة، إلّا أنّ القارئ سيجد، على العكس تمامًا، أنّ الكتاب سلسٌ وفيه ممّا يمتاز به تويتر من روح الخفّة والسرعة، فالفصول أغلبها مقسّم على مباحث كثيرة، جاءت معظمها قصيرة. اقرأ أيضًا: 3 مواقع عربية تقدم لك الكتب الصوتية.

 

 

يبدأ الغذامي كتابه، وينهيه، بالإشارة إلى الموقع بصيغة التأنيث، لصلة وثيقة –برأيه- بالثرثرة، وهو شيء تمتاز به النساء على الرجال، لكنّه شيءٌ محمود كما يشير الغذامي على عكس ما يحاول النسق الذكوري العربي أن يشير. فالثرثرة امتياز لا منقصة، وفيها إشارة إلى القدرة على الحديث والاستماع بكفاءة عاليتين في اللحظة عينها

 

"هناك مقولة ثقافية لغوية تشير إلى أن ظاهرة الثرثرة عند النساء هي ناتج عن مهارة ذهنية لا يمتلكها الرجل وتختص بها المرأة، وليس كما تميل الثقافة النسقية بجعلها عيبًا توصم به المرأة وتترفع عنه الفحولة، والميزة آتية من دراسات تشير إلى قدرة الذهن المؤنث على مهارتين لغويتين معًا وفي وقت واحد، وهما مهارة الإرسال والاستقبال مجتمعتين..."– ص55.

 

 

 

ومن وأهم مباحث الكتاب كذلك: الحرية في التعبير، ومسؤولية التعبير، إذ تعد الأخيرة الثمن الغالي المترتب على حرية التعبير، كما يظهر هذا في أغلب فصول الكتاب. في الفصل الثاني، يتحدث الغذامي عن مصانع الثقافة: الشعر، والصحافة، والشاشة الزرقاء، وكيف تعمل الحيلة المجازية في الشعر والصحافة ومؤخراً تويتر على تمرير القبحيات الثقافية واعتبارها جماليات لا قبحيات! اقرأ أيضًا: لماذا رفض ت. س. إليوت نشر رواية "مزرعة الحيوان"لأورويل؟

 

يمكننا هنا تتبّع منطق ما في ترتيب الفصول، خاصّة بعد أن صنّف الغذامي في فصله الأوّل بعض الشخصيّات، وما تمثله من مرجعيّات ثقافيّة (الطائر الثري، الشيخ والمريد، نهضة الرعاع، الشيخ المستقل، اللص الصغير، إلخ).

 

 

يشير الغذامي في الفصل الثاني أيضًا إلى الاستحياء الحقوقي. إذ يذكر أن الثقافة النسقية تحمل تضارباً بين قيمتين علويتين؛ هما: القيمة الحقوقية، وقيمة التسامح، حيث يُعتبر التقاضي عيب ويتعارض مع ما تدعو إليه الثقافة من المروءة والصبر والتسامح، في مقابل الإشادة بفحول الشعراء الهجّائين وتخليد عدوانهم وقبحياتهم بكل فخر. وهو عين التناقض! اقرأ أيضًا: غازي القصيبي ولغز يعقوب العريان.

 

كما ويشير إلى أن الموروث الثقافي على حاله دون أن يتعرض للنقد، بل يتم إظهار التسامح على أنه نقيض للحقوق الشخصية، حيث يُجعل التسامح قيمة اجتماعية، بينما التقاضي يحبس داخل القيمة الذاتية، ومن تسامح يتنازل عن حقه من أجل خاطر الحق الاجتماعي، وبهذا يتعطل التقاضي ويصبح التسامح وسيلة لإسقاط الحقوق وبالتالي تشيع التجاوزات ويصطنع لها الحيل لتنفذ بدون حساب. وهو برأي الكاتب يدل على مأزق ثقافي بسبب غياب الثقافة الحقوقية وذكر أمثلة على هذا الغياب لقضايا تنازل أصحابها عن حقهم القانوني من أجل خاطر المجتمع والمصلحين وتُرك المسيء فيها دون عقاب (يمكن الرجوع إلى القضية الشهيرة بين سلمان العودة وداود الشريان). اقرأ أيضًا: الدخول إلى زنزانة سلمان العودة.

 

يتحدث الكاتب في الفصل الثالث: عن الوسيلة والصورة وأنهما تتغلبان على الفكرة في صناعة المعاني والأحكام. ويقارن في هذا بين الصورة المكرّسة في ذهن الرجل الأبيض عن الرجل الأسود، حتّى بعد كلّ هذه السنين من محاربة العنصرية، وبين وجهٍ جديد مشابه، لكنّه يختلف من حيث هو صناعة لصورة نمطيّة/ تحقيريّة لشخصٍ ما عبر الوسم (الهاشتاق)

 

"وسيأتي زمن تويتر ليعزز هذا المفهوم ويكشفه على الفضاء المفتوح بإسهام متصل من كل حساب من حسابات تويتر، ويتولى الفرد المفرد دوره في صناعة صور يحاول ترسيخها، عبر لعبة الوسوم (الهاشتاقات)، وجاءت العبارة التهديدية: سأهشتقك، أي سأجعلك صورة للفرجة المفتوحة..."– ص108+109.

 

 

 

ويصف الكاتب تويتر، في الفصل الرابع، بالكاشفة المكشوفة في إشارة أن من يدخل تويتر كأنما يدخل بيتاً زجاجياً يظل فيه مكشوفاً بقدر ما يكشف غيره، وكيف أن القدسية الافتراضية للرموز تنكسر في تويتر لتتحول إلى واقعية بشرية تُظهر المرء مثلما هو بنواقصه كما بفضائله. اقرأ أيضًا: "شيء خطير جدًا سيحدث في هذه القرية"؛ قصة لم تنشر لماركيز.

 

 

ويشير، في الفصل الخامس، إلى مصطلح يطلق عليه الرهطوية وهي كتلة من المتابعين في تويتر عابرة للحسابات، تتمثل قولَ شخص ما وتعتبره قدوة عليا تتماهي معه، ويصبحون وقوده النفسي والعقلي ويختلفون تماماً عن المتابعين الذين يستقلون بآرائهم وخياراتهم، ولا تجد هذه الكتلة الرهطوية حرجاً في استخدام أي وسيلة من أجل السيطرة على المخالف وقمع النقد. اقرأ أيضًا: تعيسة ووجع الهوية في السودان.

 

 

يدلّل الغذامي على كلامه هذا من خلال عرضه لخطاب شخصيتين شهيرتين في فضاء تويتر، هما "أحمد بن راشد بن سعيد"، و"محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ". ليعود ويؤكد من بعد

 

 

"أن نقد الخطاب لا يعني نقد شخصين معينين، ولو صار الأمر بهذا الحصر لتقلص معنى النظرية النقدية إلى درجة التلاشي..."– ص116.

 

 

ويتناول الكاتب الفصل الأخير (تعريفه الشخصي) على تويتر بالتوضيح، وهو ما يصف المغرد به نفسه في أعلى صفحته ويكون عهداً عليه "إن كل قول نقوله في تويتر هو مسؤولية أخلاقية وقانونية، ذاتية واعتبارية. ولا يمكن أن نقول إن تويتر مساحة حرة لنا ونقف عند ذلك...". 
 

 

 

في الكتاب شواهد كثيرة، من حسابات مختلفة، ومواقف تتباين بين العام (استقراءات الغذامي من حسابات الآخرين)، والخاص (شواهد حصلت معه، كظهور الهاشتاغ المعادي له #الغذامي_يقيم_بن_سعيد_وال_الشيخ).

 

 

يجب الإشارة أخيرًا إلى ندرة مثل هذا النوع من التحليل الثقافي لمواقع التواصل الاجتماعي عربيًا، ومن هنا تحديدًا تنبع أهمّية هذا الكتاب، لكنّه يظلّ حبيس بيئته، إذ أنّ أغلب الأمثلة المطروحة تتناول الشأن الخليجي في أبعد الحدود، أو الشأن السعودي في الغالب الأعم، وهو ما يحدّ من إمكانيّة تطبيق ما ورد فيه على دولٍ يكثر استخدام الموقع فيها، كما تختلف طبيعة الثقافة فيها عن الثقافة الخليجيّة، كمصر مثلًا. 

 

 

اقرأ أيضًا: 

لماذا تتغيّب مشاهد الولادة عن الأدب؟

القراءة السريعة: كيف تضاعف سرعتك في القراءة؟

5 كُتّاب شباب يعدون بالكثير

جوهر الإنسان الخليفة في "القلم"

 

 

 

مارون عبّود؛ قمّة لبنانيّة مطمورة

$
0
0

 

 

 

ولد مارون عبود عام ١٨٨٦م، لكنه يعتبر نفسه وُلد عام ١٩٣٤ وهو تاريخ أول مقال نقدي كتبه، كان منذ طفولته شقيًا حاد الملاحظة عيارًا طويل اللسان، كأنما رُزق في فمه مخلبًا لا لسانًا، حاضر البديهة ساخر الإجابة.

تأثر عبود كثيرًا بجده الذي لازمه وعلمه السريانية والدين، ولو أن أباه كان يعتقد أنه راضع لبن بقر لن يفلح، لازم جده فترة وحمله على التدين والصلاة أغلب الوقت

 

"فكانت صبوته صلوات متتابعة فكأنه كان كاهنًا بالمقلوب، نشأ نشأة زميتة في كنف رجل يرى الضحك جريمة، فكان يهز له العصا كلما خف وقاره فيعود إلى الترصن، وكان صباه وشبابه رصانة لا قيمة لها لأنها مصطنعة وضد طبعه، فأضاع ذاته زمنا طويلا ولم يعثر عليها إلا في ظهر العمر وصار أخيرًا كما يقول أبو نواس: وشيبي بحمد الله غير وقارِ!"

 

 

 

ترك المدرسة عام ١٩٠٦م ولم يكن سلاحه من المعرفة قويًا، ولكنه ثقّف نفسه ففاق الكثيرين "فهو رجل لا خلفه ولا قدامه، ولولا الدرس ما عرف كوعه من بوعه".

 

لم يكن يقيم وزنًا لا لكبار قومه ولا لتقاليدهم الدينية اعتدادا بنفسه وثقة بها، عوقب كثيرًا على هذه الهرطقة من أهله ومدرسته، لكن لم يردعه شيء عما يريد، فقد سمى ابنه (محمد) نكاية بالطائفيين وثار عليه كثيرون فيه هذا (راجع رسائله مع الريحاني)، وتجد هذا الاعتداد والثقة في كل ما يكتب فهو رجل قد "عمِل نفسه على ذوقه"وأحيلك على (أحاديث القرية)و (وجوه وحكايات) (وأقزام جبابرة)، ففيها من قصص القرية وأخبار دراسته أيام الصبا ما يُرقص قلب من كان له ذوق ورهافة حسّ. اقرأ أيضًا: ألف عام وعام على المسرح العربيّ.

 

 

أنشأ وهو طالب صحيفة مدرسية أسماها الصاعقة، كأنما ظن نفسه إله البرق، كان شعارها: "إياك ترفعْ هامةً تهوي عليك الصاعقة"  وسخر فيها بما أغضبَ إدارة المدرسة فوبخته وأزالتها.

 

امتهن الصحافة أولَ أمره وهو ابن عشرين سنة تقريبًا؛ "يوم كان الصحافي منتوفًا يعدّ نهاره سعيدًا إذا دعي إلى غداء أو عشاء"، وظل ممارسًا لها ثمان سنوات، في جريدةالروضة وجريدة النصيرالتي كان لا يتنازل عن كتابة مقالها الافتتاحي لأحد ولا حتى أفلاطون لو بعث كما يقول، وجريدة لبنانثم أخيرًا في جريدة الحكمةالتي أسسها في جبيل، والأدب ربيب الصحافة، فتمرّس فيها وتعلم أصول النقد ووصف الشخصيات.

 

تنقل في حياته من صحفي إلى مدرس إلى مزارع وبائع أيام الحرب لشدة الفاقة، ثم إلى موظف حكومي ثم إلى مدرّس مرة ثانية فمدير مدرسة فناقد! وكان النقد لذته التي لا يشبع منها. اقرأ أيضًا: طبل الصفيح؛ تعدد السرد وطرح التساؤلات.

 

كان ثائر النفس عصاميّا لا يتسلق على أحد ولا يرضخ لصعب، عنيدًا حرًا، وربما حرّض طلاب المدرسة إذا ثاروا أو أضربوا لسبب يستحق، ويخطب فيهم إذا لزم الأمر، وإذا كان سبب الإضراب تافهًا ثناهم عنه بحزم، وسرعان ما يستجيب له الطلاب لشدة حبهم له لدرجة العبادة.

 

أماأسلوبهفواقعي رومانسي، وكان يحب السجع أول نشأته، وله في هذا قصة في غاية الظرافة والحلاوة مع جده حيث طلب منه كتابة رثاء لوفاة إحدى عجائز القرية ليلقيها في القداس فملأها بالسجع وتجاوز بالعجوز حدّ القديسين فغضب جده وما تركها له، ويعتبِر مارون أن ما كتبه في هذه العجوز هو أول موضوع أدبي، كان ثمَـنُه تحية حارة من عصا جدّه، فأحيلك -عزيزي القارئ- على القصة في وجوه وحكايات ولن تندم على قراءتها، وبعد هذه القصة طلّق السجع والغريب، وصار أسلوبه عذبًا كأنما يطعمك سكرَ نبات، يكتب كأنما يحدثك حديثاً له روح، سهل العبارة صحيحَها، يكثر من العامي الفصيح فكأنّ كتابته بعضُ حديث أهل بيتك لك، وهذا رأيه فيما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب:

 

"فالعامية تصير فصيحة بعناء يسير وتهذيب قليل، ولا بد من طمر الخندق الذي حفرَه التحذلق بين الكتّاب وبين القراء والسامعين"

 

 

والفصحى التي يريد هي الفصحى النديّة لا الجافة اليابسة، لا يحب الغريب، ليس كأستاذه الذي لم يكن يرضى عن الكلمة إذا كان وزنها أقل من رطل، نادرًا ما يُغرب، وإذا فعل قصد به السخرية أحيانًا أو إذا انفعل ناقدًا، وأسلوبه العام كأحاديث السّـمَـرْ حلوٌ خفيف ساخر ضاحك لا جمود فيه ولا تصنّع، وهو أيضًا سَمَرٌ نقدي فصيح عذب معرفيّ، يلذّ لقارئه ولا يمله مهما أطال، ومهما أخذ مارون في أنواع الموضوعات فسواء عليه وعرُها وسهلُها، جدّها وهزلها، يتصرّف فيها أبرع تصرّف، ويأتي بالكلام فيها صافيًا كالبلّور المذاب، ترى من خلال صفاء روحه جمال قريته وثبات جبالها وصحة هواءها، ولطالما تاه مارون في قريته ووصفها وصفًا جميلاً، ولا عجب فإنه "يحب في الدنيا أربعة أشياء: الله ولبنان وعين كفاع (قريته) .. وكلَّ كلمة كتبها"، لكنه لم يحب بيروت ولا ضجيجها ورفض الانتقال لها. اقرأ أيضًا: مذهلات توجب قراءة "الحب في زمن الكوليرا".

 

 

أما قصصه قصيرَها وطويلَها ففي غاية العذوبة والسلاسة، وهي في القرية ومن القرية ولكنها لكل أحد.

 

دافع مارون عبود عن إقليمية الأدب، واعتبر أن كل القُصّاص العالميين كانت قصصهم إقليمية ولهذا السبب أحبها الناس، تجد في قصصه تاريخ الزمن الذي عاش فيه والزمن الذي قبله بقليل، وأخبارَ ذلك العهد وطبيعة عيشه وتعاملهم وشيئًا من المسميات العثمانية وكلماتها، بأسلوب يترقرق عذوبة وجمالًا، على فكاهة جُبل عليها.

 

 

في أسلوبه الكثيرُ من التضمين للأشعار والأمثال عاميّها وفصيحها والفصيح أكثر، وقلما يخلو مقال له عن قصة أو نكتة أو مَثـَل، يستلهم القران والتوراة والإنجيل وأساطيرَ الأخيرتين، وأساطيرَ العرب وشخصياتهم وأخبارهم واليونان وقصصهم وأعلامهم، ومن لم يعرف طرفًا من هذه الأساطير والأخبار يفوته الكثير من سخرية الرجل وحلاوة نقده.

 

 

الألفاظ لدى مارون عبود "كالأحياء: مواليد ووفيّات وهو لا يحب إحياء الموتى"، لذا كان يهرب من اللفظة التقليدية المنتشرة ولا يصكّ بها وجه القارئ، فالكلمة عنده "كالمرأة متى كثر عشاقها لا تبقى تلك العقيلة المصونة".

 

 

تأثر عبود كثيرًا بالجاحظ، فهو الذي "فتح له الدربَ"وتأثر بالشدياق ولم يُفلِـته، حامي الدم، سريع الغضب بلا جهْلٍ ولا غطرسة، خفيف الروح يسكنه المرح وحب الحياة والسخرية وحديث الناس والحديث إليهم، أحب الحياة فعاش شابّ الروح طيلة عمره. اقرأ أيضًا: أفضل أماكن القراءة في بيروت.

 

 

وكتاباته السياسية والاجتماعيةمتنوعة وجادة وناقدة، ناقش فيها التربية والطلبة والدراسة ونُظُـم لبنان الدراسية والسياسية، بالإضافة إلى العثمانيين وطرفًا من حياتهم، واشتدّ وأرخى وسخِر وصوّب وبيَّـن، وهو في هذا المجال لا يقل عذوبة وحلاوة عن نقده الأدبي ولكنه لم يبلغه، فإنه في الحديث الأدبي طار وحلّق ورقّص وغنّى بما لم يستطعه في الكتابات السياسية والاجتماعية، فإنه كان إذا أخذ في الأدب والنقد كتب بكل بروحه وعقله بل وبكل جوارحه وطاوَعَه طبعُه وامتدت له ثقافته، واسترسل كفرَسٍ أُطلق عنانه فاستولى على الأمدِ.

 

 

يقول عن طقوس كتابته:

 

"أرأيت الدجاجة البيّاضة كيف تحوّم طويلا على باب القنّ ولا تدخل؟ هكذا أظلّ أفعل حتى أرى نفسي ربخَت [كذا] على الطاولة وكتبْت، إني أقاسي كثيرا قبل البدء في الكتابة، ومتى بدأت مضيت إلى النهاية"

 

 

 

تُرجم أدب عبود كثيرًا إلى الروسية، يعزو ذلك إلى واقعية أدبه التي تناسب المزاج الروسي.

 

إلى جانب مرحه وفكاهته، كان عبود جادّا في حياته، لم ينقطع -منذ رشده- عن الكتابة يومًا واحدًا!

 

لا تجد للمرأة والحب أثرًا في كتبه بل في روحه فقط كما قال، وكان شديد الجلد صبورًا على القراءة، يستيقظُ باكرًا ويعتزّ إذا صاح الديك بعد استيقاظه، ويجلس في مكتبته التي تحتوي ستة آلاف كتاب وما لا يحصى من المجلات، جدير بالذكر أنه باعها مرتين واحترقت أخيرًا بضربة صاعقة، فكأنها بيعت مرة ثالثة للسماء عام ١٩٥١. اقرأ أيضًا: أغانٍ أدبية مقتبسة عن كتب.

 

 

 

يجلس عبود في مكتبته إلى المساء مطالعا قارئًا، ولا يصعب عليه كتابٌ مهما كان ثقيلًا "فله معدة تقطع الصوّان وما على ضرسه مرّ"، ويجيب على من يستغرب غزارة إنتاجه:

 

"إنهم لو عرفوا أنني صرفت حياتي كلها في هذا الميدان ما استغربوا، ولو كنت حرصت كما يجب على عدم ضياعها لكان لي أضعاف ما لي".

 

 

 

ولقد ظل إلى آخر حياته يُنتج إنتاجا ذا قيمة، يقول لك كتابه: هذا رجل مات منذ زمن، وربما سلَخ الأشهر في درْس أديب واحد قبل نقده، فهو لا يقرأ الكتب التي ينقدها قراءة عجلى "إنه يقرأ وشهوده الكتب: يتصفحها بكل ما لكلمة تصفّح من معنى، راجع المعجم إذا شئت"ورجعتُ له وإذا التصفّح: نظرُ التعرّف للشيء، وأصل المادة يدلّ على عَرْضٍ وعِرَض.

 

 

كان صاحب وسواس في صحته، واشترى كتاب طبٍّ يطالع فيه فكان إذا سمع انتشار مرض في بلد ما، سارع إلى ذلك الكتاب وقرأ عن ذلك المرض، وهكذا "صار اختصاصيًا يُصابُ بالمرض الذي يريد ساعة يريد، كلما أحس بحركة في جسده انتقى لها أخطر الأمراض وتوهم أنه مصاب به". اقرأ أيضًا: 9 أغلفة مميزة لأعمال أدبية.

 

كان يدخّن قرابة مئة سيجارة في اليوم، نصحه الدكتور أن يخفضها إلى عشرين سيجارة فقط، يمنعه الأطباء من القراءة فكأنهم يحرّضونه عليها، وما قصّر في الأعمار طول.. النظر!

 

إنه يحارب بالكتب ويتحارب مع الكتب، ولا هدنة بينه وبينها، ظلّ إلى آخر عمره صالحًا للمعارك.

 

 

سأله أحدهم كم كسبتَ من أول كتاب طبعته؟ قال اسألني: كم خسرت!

حسنًا.. كيف أنت مع القروش؟ قال: قم نبّشني!

 

 

عارك الحياة وطاحنها فما طحنت له عزيمة، عمل بائعًا للخمر الذي كان يقطّره ويخمره بنفسه، ويتنقل به من قرية لقرية أيام الحرب العالمية الأولى يوم أن أكل الناسَ الجوعُ فأكل الناسُ بعضهم حقيقة لا مجازاً، وباع مكتبته من الفقر ودفن بيديه ما لا يُحصي، ورأى من هول الحرب ما يقصف العمر، وأعال أهله وأقاربه حينها، وله رسائل مرة ومحزنة بينه وبين أقاربه، وتجد مارون يشير في ثنايا كتبه إلى هذا التعب والمرض والحرب والانقطاع والفقر إشارة من يريد أن ينسى، لأنه كالحياة لا يقف، فلم يَثنه ذلك عن الاستمرار في النقد والكتابة والإنتاج، توقف أثناء الحرب عن الكتابة لسدّ لقمة العيش، وبعد الحرب العالمية الأولى عاود الكتابة ولم يتوقف، ولماذا يتوقف؟

 

 

"أليس إذا وقفنا عند كل كارثة سنقف طول العمر؟

 

أنقعد في دنيانا كمن يتلهى في غرف الانتظار؟  فلأمضينّ في مهمتي فلا حربَ، لا غارات جوية ولا غازات خانقة تعوقني عن أداء رسالتي، ومتى فطست فما أنا بأول ولا بآخر من فطسوا! فلنمضِ! إن الصمت ليس للأحياء"

 

 

 

 

في آخر عمره، حين جاوز الخامسة والسبعين، كان يحس بدوّار يتزايد مع الأيام، إلى أن أقعده المرض، كان يقوم من فراشه فيدركه دوّاره ويطرحه أرضًا، ولكنه يقوم مرة واثنين، يحاول النهوض جاهدًا فقد صعب عليه الانقطاع عن العمل وهو الذي قضى حياته نشاطًا محمومًا مستمرًا، وفي هذه المرحلة مع العمر كانت بعض أعماله الأدبية مخطوطة مثل الشعر العامي وفارس آغا الذي يعتز به كثيرًا ويعتبره قمة أعماله، وكل أعماله قمة.

 

تطور الدوار إلى أن أصبح يصيبه إذا قرأ أو تكلم طويلًا، فامتنع عن كل هذا، ودونك هذه القصة اللطيفة في آخر عمره:

 

زاره سعيد عقل وكان مارون في غاية من المرض والتعب، فقال له بعد حديث: بتجدّد شبابك مارون بك؟ بدّي جبلك فيروز معي بأقرب فرصة! ارتعش مارون عندما سمع: فيروز تجديد شباب صوت فيروز! حقيقة أم خيال؟ وفي لحظة صمت انطلق مارون وبعفوية مطلقة يغني: مين قال؟ حكيتو وحاكاني.. عا درب مدرستي.. كانت عم تشتي.. ولولا وقفت.. رنخت [كذا] فستاني.. وشو همّ.. كنا زغار.. ومشوار شفتو وما رجع مشوار"

 

وكانتْ من كلمات سعيد عقل، ثم قال مارون: لا تعجب.. أحفظ كثير من شعرك، فقال له سعيد متأثرًا: المرة الجيّة منزّل السما عا الأرض، ونسمع فيروز تغنّي لك!

 

 

 

توقف أخيرًا عن القراءة والمشي وشرب الكحول والقهوة التي أدمنها طيلة عمره، وكان يأخذ إبرة في العضل يوميًا ولا يأكل إلا الطعام الخفيف وكان آخر لقاء صفحي معه في ١٩٦٢م قام به رياض الريّس لجريدة المحرر.

 

 

فقد القدرة على الكلام آخر أيامه واكتفى بالإشارة، وآخر مرة أمسك القلم لم يستطع أن يكمل التوقيع الذي أراده.

توفي الأحد ١٩٦٢م ونعته الإذاعة اللبنانية نعيًا جميلا نكتفي بصدره:

 

"هوى من سماء لبنان مساءً كوكبٌ طالما أشرقَ في دنيا الأدب وعالمِ الفكر، …، هو المرحوم الأديب الكبير مارون عبود".

 

 

 

يستطيع المرء هزيمة أي شيء، إلا المرض والموت، كذا قال مارون.

 

لقد عاش هذا المحارب مخلصًا للأدب زاهدًا في الناس وقربهم، عاشقًا للنقد والمعرفة والحياة، عارك الحياة ولم يستسلم قط، خلّد قريته ولولاه ما عرف الناس عين كفاع، وإنك لتحزن لقلة شهرته بين الناس على طول عمره وغزارة إنتاجه، ولعل هذا راجعٌ إلى شدته في النقد، وصراحته فيه وعدم مجاملته لأحد، ولو صانع وجامل لحصل على أصدقاء كثيرين وارتاح من كثير من المتاعب، ولكنه حبّ الأدب ومثالية المعنى.

 

 

اقرأ أيضًا: 

كيف تحوّل القراءة وقودًا للكتابة؟

الساعة الخامسة والعشرون؛ ساعة النهاية المؤلمة للإنسان

القراءة السريعة: كيف تضاعف سرعتك في القراءة؟

أنطون تشيخوف: ما بعد حداثيّ سابق لزمنه

 

 

 

المؤمن الصادق: أن تتحرر من الحرية

$
0
0

 

 

 

"المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"؛  لإيريك هوفر، من ترجمة الراحل غازي القصيبي. هذا الكتاب الذي ألفه عامل بسيط أثناء عمله في ميناء سان فرانسيسكو، ومع ذلك يقدم رؤى رائعة تجاه طبيعة الحركات التي تستمد جذوتها الأولى من الجماهير، كما يقدم تعريفه لتلك الحركات وأوجه الشبه والاختلاف بينها وبين الجيوش، ورغم أن الكتاب نشر في عام ١٩٥١، إلا أنه ينطبق على أغلب الحركات سواء كانت سياسية أم ثورية أم دينية أم شعبية، كما يقدم تفسيرات منطقية لنزعة الفرد غير المبررة للانخراط في تنظيم يسلبه فرديته ليصبح عبدًا لنزعات الجماعة، يلخصها باقتباسه "واستخدموا القاذورات سلاحاً لهم"، حيث تتوقد نارها عبر الأتباع المحبطين، وبعد أن تنتهي حفلة رفض الواقع، يقفز المتطرفون ليقودوا السفينة دون رحمة، وإذا كتب للحركة الاستمرار فإن الرجال العمليين سيتولون الباقي لتتحول إلى ما يشبه السلطة القديمة.

 

القسم الأول: جاذبية الحركات الجماهيرية

تجذب الحركات الجماهيرية الأتباع لأسباب أهمها: الرغبة في التغيير، فكل ما يريده الأتباع المحبطون في الغالب هو الهروب من أنفسهم، لذلك بزغ نجم الحركات الدينية في الماضي، كالمسيحية والإسلام ثم حركة الإصلاح البروتستانتي، ثم أتت الحركات الثورية والسياسية، كالثورات الفرنسية والإنجليزية والبلشفية والحركات القومية النازية واليابانية وغيرها، كل تلك الحركات كانت تذيب الأتباع في المجموع وتعطيهم البديل المنتظر عن أنفسهم التي يكرهونها وواقعهم الذي يهربون منه، إنها تحول أصحاب الدكاكين الصغيرة إلى عمال وجنود في حلم كبير وأمل جديد ينتظرونه، يقول هنري ثورو:

 

"عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته، حتى عندما يجد ألماً في أمعائه، فإنه يبادر إلى محاولة لإصلاح العالم!"

 

 

هؤلاء المحبطون غير راضين عن أنفسهم وبنفس الوقت لديهم إحساس بالقوة، ومشحونون بالأمل. الراغبين بالتغيير تتوقد لديهم الآمال الجامحة، الأمل بجنة في السماء، أو جنة على الأرض.
 

 

إحباط + إحساس بالقوة + آمال جامحة = أتباع متوقعون لأي حركة، لا يهم ما أهداف الحركة، الأهم أن تلبي الشوق إلى الخلاص من الذات، بل إن المطرودين من أي حركة جماهيرية هم أتباع محتملون لأي حركة أخرى، حتى لو كانت العدو الأول لحركتهم. هكذا نفهم أن الشيوعين كانوا ينضمون فورًا للنازية إذا انسلخوا عن الشيوعية.

 

المحبطون يجدون في الحركة بديلاً لأنفسهم أو لجزء منها، والإيمان بقضية مقدسة هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدوه بأنفسهم.

 


 

 

 

القسم الثاني: الأتباع المتوقعون

الطبقة الوسطى (الغالبية) هي التي تحفظ توازن أي أمة، بينما ينفرد الصفوة بالمناصب والتعليم والتفوق، ولا يتبقى للطبقة الدنيا شيء فتمتلئ بالغوغاء، ويُقصد بالغوغاء المجرمون والمنبوذون وفاقدو التوازن والعاجزون والفاشلون وغيرهم، والمفارقة أن من يصنعون التاريخ ليسوا الأغلبية من الطبقة الوسطى، بل الصفوة والغوغاء، والغوغاء هنا هم أتباع مثاليون لأي حركة، لأنهم لا يكنون أي احترام للوضع الراهن ولا يرون أملاً في العلاج، ويفضلون الانصهار في عمل جماعي ويؤمنون بالحلول الراديكالية واقتلاع النظام القائم، سواء عبر ثورة أو هجرة جماعية أو حركة قومية أو جماعة متطرفة. المنبوذون هم من يشكّل حجر الزاوية سواء في بناء عالم جديد كما فعل المهاجرون المنبوذون من أوروبا حين بنوا أمريكا، أو في نشوء حركة ثورية أو مد قومي كما في الحركات الشيوعية والثورات الشعبية والقومية. في الكتاب تحليل نفسي عجيب لمختلف فئات المنبوذين.

 

 

كما أن الفقراء ليسوا جميعاً أتباع محتملون، لأن الذين يعيشون على الكفاف والذين عاشوا مدة طويلة في جو الفقر لا يفضلون تغيير الأوضاع الراهنة، لكن حديثي الفقر والذين فقدوا اتزانهم لا يستطيعون تحمل المأساة؛ يسكنهم الشوق للعودة لمجد الماضي، كما أن الفقراء فقراً مدقعاً لا يملكون سوى البؤس ويفتقدون لما يملأ فراغ يومهم فهم ليسوا كفقراء الكفاف الذي يعيشون صراعاً يومياً للبحث عن لقمة العيش.
 

أما الفقراء الذين تعودوا على العبودية فقد لا يشكون من تسلط النظام القائم بعكس الأحرار، الحرية عبء كبير لا يستطيعون تحمله.
 

وعلى النقيض نجد أن الذين يتمتعون بروابط اجتماعية قوية لا يميلون للانضمام لأي حركة، وكذلك الذين ينطوون تحت ستار قبلي أو عرقي أو ديني كبير وحميم، فهم يشعرون بالانتماء للجماعة ولا يحبذون تغييرها، لذا تعمد التحركات الجماهيرية وحتى الثورية والدينية لتحطيم الروابط القائمة وجعل الانتماء الحركي أو الديني الجديد في المقدمة وإجبار الفرد على أن يفضّل القائد على أهله وعشيرته ولو خيّر بينه وبين أهله لفضل التخلي عنهم فداء للحركة/ الدين/ الثورة/ القائد.
 

 

 

القسم الثالث: العمل الجماعي والتضحية بالنفس

المحبطون لا يهربون من وضعهم القائم، هم في الحقيقة يهربون من أنفسهم، وهذه الرغبة تتجسد في الاندفاع للعمل الجماعي ومحاولة طمس الذات، أن يكون الفشل جماعياً لا يعني أنك السبب، بينما فشلك في تحقيق ذاتك هي مسؤوليتك وحدك، وهي مسؤولية جسيمة يعمد البعض للهرب منها.

 

عندما يذوب الفرد في الجماعة يصبح جزءاً من الآلة الضخمة، ويكف عن أن يكون فلان، يصبح شيوعيًا، ألمانيًا، مسيحيًا، مسلمًا، عضواً في القبيلة العريقة، قوميًا عربيًا، أيًا كان المجموع، المهم ألا يكون فردًا، بل ذرة في جنس عريق ذو ماضٍ ضارب في القدم ومستقبل يلوح بالبشائر.

 

الاستعداد للتضحية بالنفس يتطلب عقيدة مخلصة تؤمن أنها تتبع الحقيقة المطلقة، وهذا هو دور الجماعة التي توصل أتباعها للإيمان الأعمى، لدرجة أن جنودًا يابانيين رفضوا لسنوات تصديق أن اليابان هُزمت. المؤمن الصادق لديه القدرة على أن يغمض عينيه ويسد أذنيه، بل إن باسكال قال عن العقيدة الفاعلة أنها لابد أن تعارض الطبيعة والمنطق والرغبة.

 

إن الحركات القوية تنجح في استبدال الحاضر بالمستقبل الذي ما هو الا انعكاس للماضي، ترى الحاضر شيئًا قذرًا لا قيمة له، لذلك تعمد إلى التطلع لمستقبل بديل مشرق والذي قد يكون عودة لتصورات عن أمجاد الماضي التليد.

 

كما أن الحركات عادة تكون مليئة بالشحن العاطفي والمشاعر المتأججة، ولا سيما الحركات الدينية والمتطرفة، فالمتطرف أصلاً قَدره أن يمتلئ بالشعور بالنقص فيلتصق في جماعته بتشنج ليهرب من روحه المنهزمة وذنوبه المترامية، ويصبح مستعدًا للموت فداء للتيار الذي آمن به وخلصه من تلك المشاعر المريعة.

 


 

 

 

القسم الرابع: البداية والنهاية

الحركات الموصوفة بالكتاب ليست كلها شريرة، ولا يهدف الكتاب لتصنيفها بل لفهم طبيعتها، لذلك فالكثير من التحليل ينطبق على الحركات التي يمكن اعتبارها خيّرة، وجميعها تتشارك في البداية والتطور والنهاية.
 

كل الحركات والثورات تنطلق من المثقفين ورجال الكلمة، الذين يضيقون ذرعًا بالوضع القائم فيقومون بتعرية النظام، وقد يكون ذلك ليس لرغبتهم في صلاح المجتمع والبيئة بل لأغراض شخصية في جوهر الأمر، إلا أن المهم أن يبدأ الأمر من رجال فكر وثقافة ودين يثق بهم المجتمع المتعايش بطبيعته مع الوضع الحالي، وهنا يكون النظام على خيار بين استمالة رجل الكلمة واجتذابه لصفه أو إسكاته وقمعه، وغالبًا ما يكون بالإمكان استمالته لأن قهَره وآلامه في الحقيقة ناتجة عن أمور شخصية وإن اصطبغت بالشفقة والرحمة تجاه العامة.
 

المثير أن المثقف عندما يهيئ البيئة الخصبة للتغيير لا يفعل ذلك كما يأمل لصالح المستنيرين بل للمتطرفين والحركات الشمولية، وهنا يقفز المتطرف للواجهة بعد انتهاء المرحلة الأولى، ويستفيق المثقف من أحلامه وطوباويته.

 

 

عندما يغيب المتطرف فإن الانتقال يكون من مرحلة رجال عمليين لرجال عمليين آخرين، لكن المتطرف هو الذي يستطيع تكوين قوة جماهيرية في هذا الوقت المتشنج، ووقتها فإن من يصاب بالهلع هم المثقفون الذين صلوا لمثل هذا اليوم. هذه هي البيئة التي يبدع فيها المتطرف الذي يقفز على مكتسبات المثقفين ويرغب في بداية جديدة كليًا، هو يستمر في ترديد الشعارات ذاتها التي أطلقها رجال الكلمة، ويعلم ما تريده الجماهير، تريد أن تتخلص من فردانيتها البائسة والانزواء تحت ظل القائد الملهم، فيقبض على كل شيء بلا هوادة، ويحولهم لعبيد، وكل ذلك من أجل الأمل المنشود، لا وقت هنا سوى للأمة العظيمة، والجميع هنا ذرات في ذلك الغبار الوطني والقومي والديني.

 

 

كل حركة تضع هدفًا قريباً ومباشرًا لأتباعها حتى إذا وصلت السلطة وتجاوزت المرحلة الديناميكية وضعت هدفًا بعيدًا كالمخدر الذي يكبح اندفاع الجموع، ولذلك كانت الستالينية بحق أفيونًا للجماهير (وهي التي وصفت الدين بأنه أفيون الشعوب)، ولذلك ففي هذه اللحظة الحاسمة من عمر الحركة، يأتي دور الرجال العمليين الذين يحافظون على المكتسبات ويعطون الآمال البعيدة بعد أن انتهى دور المتطرفين، ولكن إن استمر المتطرف كما استمر هتلر مثلاً، فقد يكون ذلك دلالة على قرب انهيار الحركة.

 

لو أن هتلر مات في منتصف الثلاثينات لربما قاد النازية رجل عملي مثل هيرمان غورينغ للاستقرار. في هذه المرحلة يتم تحنيط الرجال القدامى ووضع القداسة عليهم ويصبحون كالأساطير والقديسين، وتبدأ مرحلة التدريب المستمر والقمع.

 

 

تتبلور الحركة الثورية في صورة مؤسسات وطنية، وقيام الكنيسة يعني انتهاء المد الديني. يصبح مفهوم الولاء والجماعة هنا مهمًا جدًا لكن الاندفاع القديم لم يعد يحكم.

 

 

 

 

لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات الرومانسيَّة؟

$
0
0

 

 

يختلف القرّاء كثيرًا في أذواقهم، وينعكس ذلك على نوع الأدب الذي يفضلونه؛ لكن عندما يأتي الأمر للروايات الرومانسيَّة، يبدو أنَّ هناك تخوّفًا ما يمنع القرّاء من الإقبال عليها!

 

 

في الحقيقة، يمتلئ الخيال الرومانسي الحديث بالدروس حول أكثر ما يُقدِّره المُفكِّرون المستقلون، أو ما يجب عليهم أن يقدِّروه، فإذا كُنت قارئًا باحثًا عن روايات تفهم أهميَّة العمل والسوق وتُروِّج المناقب البرجوازيَّة، وتدعم بحماس تجارب ميلان في العيش، يجب أن تقرأ الروايات الرومانسيَّة. اقرأ أيضًا: ماذا على المرأة الحامل أن تقرأ؟

 

 

التركيبة الأساسيَّة لمُعظم الروايات الرومانسيَّة ليست مُعقَّدة جدًّا، حيث يتم تقديم البطل والبطلة للقارئ ولبعضهما باكرًا جدًّا، وكما يعرف القُرَّاء الأذكياء، حتَّى عندما تدَّعي الشخصيَّتان الرئيستان أنَّهما يكرهان بعضهما، فمن المُقدَّر لهما أن يحظيا بنهاية سعيدة عندما تأتي صفحات الرواية الأخيرة، ولذلك، فإن عمل الكاتب الرومنسي أن يضع عقبة في طريقيهما، أحيانًا، تكون هذه العقبة إهانة سابقة (مثل إهانة السيِّد دارسي لإليزابيث بينيت في بداية رواية جين أوستين "فخر وكبرياء")، وأحيانًا ماضِ مُعذَّب (مثل زوجة السيد روتشيستر الأولى المجنونة المحبوسة في عليَّة قصر ثورنفيلد). اقرأ أيضًا: مذهلات توجب قراءة "الحب في زمن الكوليرا".

 

 

حقًّا يمكن للعقبة المُخيِّبة للآمال أن تكون أي شيء؛ أخ كبير ذو حماية مُفرطة، اختلاف في الطبقة الاجتماعيَّة، توقيت سيء جدًّا، لباس اختير بشكل سيء أو قلادة شيطانيَّة ملعونة؛ كل ما على الكاتب أن يُبقي البطل والبطلة بعيدين لِعدَّة صفحات مُعذِّبة، ليصل بهما وبالقارئ إلى نهاية سعيدة مُرضية يستحقانها. اقرأ أيضًا: تأريخ التمييز العرقي في رواية "عاملة المنزل".

 

 

ولكن المُثير للاهتمام حقًا هو كيف تكون هذه العقبة في الغالب هي العمل، فبينما زادت رواية "خمسون درجة من الرمادي- Fifty shades of gray"أُلفتنا بشكل مُزعج بالصنف الفرعي "الملياردير الغامض"للروايات الرومانسيَّة، والتي يُصبح فيها البطل مصدرًا لا مُتناهيًا من الثروة بينما لا يفعل الكثير ليحصُل عليها أو ليُحافظ على استمراريتها، تقوم الروايات الرومانسية الأخرى بالمحافظة على الواقعيَّة بطريقة أفضل نوعًا ما.

 

 

يبدأ كتاب ميليا أليكساندر "التحام القلب"، مثلًا، باكتشاف البطلة أن جدها مات قبل لحظات من أن يبيع أعمال العائلة في البناء من دون علمها، والبطل، طبعًا، هو الشخص الذي كان من مُستعدًّا للشراء، وهُنا، يبدأ الصراع. اقرأ أيضًا: "بوب موب عمي": تجربة في الحداثة السائلة.

 

 

العظيم في "التحام القلب"هو أنَّه لدينا الفُرصة لنسمع تفاصيل عمل البطلة، فهي قلقة لأنَّ جدَّها اشترى مُعدَّات بناء بدلًا من استئجارها دون أن يكون قادرًا على القيام بعملٍ كافٍ ليُغطي الثمن، وهي قلقة بشأن مصير موظفيها المئتين، ونستطيع أن نراها خلال الرواية تعمل وتُفكِّر بشكل مُستمر بالشركة يوميًّا.

 

 

مع هذا، فالمُشكلة في "التحام القلب"، هي ما يبتلي الروايات المُعاصرة أو الروايات الرومانسيَّة التي تحدث في الوقت الحاضر، فالشركة التي تُريد شراء شركة البطلة لأعمال البناء تُريد أن تُدمِّر مكاتب الشركة، أن تُغيِّر التقسيم ثُمَّ تُعيد تطوير المُلكيَّة الثمينة التي يمتلكونها على واجهة النهر، أما البطلة فتعترض بسبب ارتباطها عاطفيًّا بالعمل، وهذا كليشيه مألوف، وهو موجود في الخيال الرومانسي المُعاصر كما في الثقافة الشعبيَّة؛ الشركة الكبيرة دائمًا هي الشريرة، والبطل الذي يعمل لديها يستطيع أن يُخلِّص نفسه ويفوز بقلب البطلة عندما يُدرك أن المحلَّات العائليَّة مُهمَّة أكثر من الشركات الكبيرة التي لا يُعرف لها وجه، ولكن حسب "أطلس هزَّ كتفيه"، ليس الأمر كذلك. اقرأ أيضًا: الإيقاع المتحول لرواية "جنوب الحدود، غرب الشمس".

 

 

لذلك، أنا أُفضِّل النقاشات المُعقَّدة والتي لا تُشكِّل فارقًا كبيرًا للأعمال الموجودة في الروايات الرومانسيَّة التاريخيَّة، (تلك التي تحتوي الأبطال عارين الصدور والبطلات المُرتديات للمشدَّات)، والتي تحدث بين الأرستقراطيين في الغالب، هذه الحكايات تستطيع أن تقود لجدالات حول أدوار الجندر؛ "يجب أن تحصل أنت على عمل مثير للاهتمام وأنا يجب أن أتعلم التطريز؟ كيف يكون هذا عادلًا؟"أو "أتتوقع منِّي حقًّا أن أتخلَّى عن عملي عندما نتزوَّج؟"أو بركة الامتياز الأرستقراطي المُختلطة؛ "قامر أبي بثروة العائلة، لذلك يجب أن أعمل، ولكن ليس لدي أي مهارات!"أو "أُحبُّ أن أكون كاتبة/عالمة/مُهندسة معماريَّة، ولكن هذا لا يحدث لأبناء طبقتي الاجتماعيَّة"أو الطبقة الاجتماعيَّة والفُرصة "أجل، لقد سرقتُ محفظتك، ولكنني طُردتُ من عملي كمُربيَّة بسبب "إغوائي"لسيِّد المنزل، وأليس من الأفضل أن أسرق بدلًا من أن أُصبح مومسًا؟"، وبسبب الصراعات العميقة حول العمل عبر التاريخ، يكون العمل في الرواية الرومانسيَّة مصدرًا للصراع. اقرأ أيضًا: 5 كُتّاب شباب يعدون بالكثير.

 

 

في كتاب ساربينا جيفري "كيف تتودَّد لسيِّدة مُتردِّدة"، البطلة مينيرفا هي كاتبة قوطيَّة تُريد أن تُرتِّب خِطبة مُزيَّفة لرجل غير مُناسب لتحاول أن تُشجِّع جدتها على أن تُعطيها إرثها، (قد تكون العُقدة الرومانسيَّة بسيطة، ولكن هُناك تنويعات مُبهجة جدًّا وتعقيدات مُزيَّنة لتُكتشف)، وما تكتشفه مينيرفا بدلًا من ذلك هو محامٍ ومُعجب، إذ يقول: "قرأتُها كُلَّها،"عن كُتبها ويضيف: "عندما تكون مع النَّاس، تُخفي نفسها وراء سُخريتها الذكيَّة وآراءها الناقدة، ولكنَّك ترى مينيرفا الحقيقيَّة في رواياتها، وأنا أُحبُّ مينيرفا تلك."اقرأ أيضًا: كاريزما غرينوي في "العطر".

 

 

ترمي عاطفته الصادقة واحترامه منيرفا في حلقة مفرغة وتجد أنَّها لا تكرهه بعد كُل شيء، ولك هُنا تأتي العقبة الإجباريَّة؛ تعتقد أنَّ مهنتيهما تعني أنَّها لن تستطيع الحصول عليه أبدًا، فمجلس الملك يطلب زوجة ذات أصل، الأمر الذي تعتقد أنَّها لن تستطيع أن تكونه أبدًا، فهي لا تستطيع أن تلعب دور الزوجة العاشقة حصريًّا، وهو سيكره حاجتها لأن تكتُب، وبعد مئتي صفحة، يجدان طريقة ليُتابعا مهنتيهما وعلاقتهما العاطفيَّة.

 

 

بطلة كتاب لورا كينسال "قمر مُنتصف صيف"، مُخترعة آلات طائرة، ويجب على طالب يدها أن يتعلَّم أن محاولته أن يُبقيها آمنة بمنعها من العمل على آلاتها واختبارها مُضر لها مثل أي إصابة جسديَّة.

 

 

وبطلة كتاب تيسا داير "أسبوع لتكون سيِّئًا"هي عالمة جيولوجيا تحاول بيأس أن توصل أحفورتها المُكتشفة حديثًا لأدنبره من أجل ندوة، ويقع الدوق الذي يحاول مُساعدتها في حُبِّها بسبب شغفها الأكاديمي وهو يُساعدها لتُحقِّق أهدافها المهنيَّة. اقرأ أيضًا: أغانٍ أدبية مقتبسة عن كتب.

 

 

أما فايوليت واترفولد من كتاب "مؤامرة الكونتيسة"لكورتني ميللان، فاستخدمت سيباستيان مالير كغطاء لبحثها النباتي لسنوات، وعندما يُقرِّر ألا يستمر معها، يُجبرها هذا على إخراج عملها في العلن ومواجهة انجذابها نحوه.

 

 

وفي "مُلكي حتى مُنتصف الليل"لليندا موني، يقف البطل والبطلة في مُنتصف معرض في قصر الكريستال ليتناقشا حول الهدم الإبداعي والتقدُّمات التقنيَّة في الآليَّة الزراعيَّة والسؤال حول إذا ما كانت قوَّة العمل ستتحرَّك من الريف للمدينة، (بعد وقت قصير من هذا، يُقبِّلان بعضهما في زاوية معزولة)، في كُل هذه القصص، كان شغف الشخصيَّات بعملها يقارب -على الأقل- أهميَّة شغفها ببعضها. اقرأ أيضًا: "الطنطورية"حكاية فلسطين التي تسكننا.

 

 

لكن، نقاشي المُفضَّل حول العمل، يحدُث في "حرير للإغراء"للوريتا تشايس، فهنا يجب على دوق كليفدون أن يتعلَّم أن يُقدِّر وحتى أن يُشارك المناقب البرجوازيَّة للبطلة الخيَّاطة مارسيلين نوروت، فعملها، كما يقول لها: "هذا ليس عملًا بل عُطلة لكِ،"ويبدآن العمل معًا جامعين اتصالاته مع مواهبها، وفي نهاية الكتاب، أصبحا شريكين في العمل وفي السرير.

 

 

في الروايات الرومانسيَّة كهذه، تقدير عمل البطلة يعني تقدير البطلة، فالمرأة الحُرَّة لأن تكون نفسها في حياتها العمليَّة حُرَّة لأن تكون نفسها في حياتها العاطفيَّة، والنهاية السعيدة غير مُمكنة دون هذا. اقرأ أيضًا: 8 سلاسل خيال علمي كتبتها نساء.

 

 

ولكنَّ الروايات الرومنسيَّة لا تُقدِّم حركة في مجال العمل وحسب، بل تُقدِّم دروسًا مُتقنة أيضًا.

 

 

الثقة والحفاظ على الوعود، كما يُناقش عمل الاقتصادي دايردري ماكلوسكي، مناقب مُهمَّة للحفاظ على نوع من الثقافة يسمح لاقتصاديَّات السوق لتعمل، وهي أيضًا مُهمَّة لعُقدة العديد من الروايات الرومانسيَّة.

 

 

في كتاب كورتني ميلان "غير مُقفل"، مثلًا، يتم إغاضة الليدي إيلان وارين وتعذيبها كامرأة صغيرة من قبل إيرل ويستفيلد وأصدقاءه، وعندما يعود للندن بعد سنوات، أكبر سنًّا وأكثر حكمة، يكون عليه أن يُقنعها أنَّه تغيَّر وأنَّه يستحق ثقتها. اقرأ أيضًا: تولستوي يُلقّب شكسبير بالكاتب التافه وأورويل يكشف السبب.

 

في الحقيقة سلسلة كاملة من أربع كُتب موضوعة حول مجموعة معارف الليدي إيلان تُعتبر تأمُّلًا مُمتدًا حول كيف نتعلَّم أن نثق بالناس وما يعنيه أن نفعل ذلك.

 

 

المقال مترجم، لقراءة النصّ الأصلي اضغط هنا.

 

 

اقرأ أيضًا: 

الفيلسوفة جوديث بتلر؛ حول أهميَّة الإنسانيَّات ولمَ نقرأ

الإحساس بالنهاية؛ أن تقول كلّ شيء دفعة واحدة

5 كتب ممنوعة هي الأكثر شهرة!

5 مقاطع موسيقيّة تساعدك على التركيز أثناء القراءة

 

 

 


حكاية التهام لرواية يخبّئ في جيبه قصيدة

$
0
0

 

 

وأخيرًا، في آخر صباح يجمعني بهذا الكتاب؛ لم أتعب منه حقًا، وإنما تعبت من الأصوات التي تضج بداخلي؛ لأنني مثل كل العرب، أخاف من الحقيقة!

 

صباحًا وحين كنت أقرأ آخر جزء من الرواية وأعاتب عينيّ اللتين أغمضتا رغما عني: قلبت الصفحة إلى الفصل الحادي عشر؛ ليفاجئني الأمر: ليس الوقت مناسبًا لتسأم، لا تتثاءب، اشرب قهوتك وَ "صَحْصِح معي".

 

ثم يأتي صوت بائع الحليب، ثمّ "زِيْــــــــك"الطويلة التي يصدرها شباك الجارة الخشبي حين تفتحه صباحًا، تليه نقنقات فراخ العجوز الساكن في قبو العمارة، بعدها ينسرب صوت البقال يدلل على الأجبان التي تصنعها زوجته، أصوات تأتي مختلطة ومتداخلة عادة، لا أدري اليوم لماذا تتابع وكأنها نوتة موسيقية أدرك ما تعنيه كل قطعة منها، إلا سباب الأطفال الذي كان يجيء مثل نشاز الفن المعاصر، الأدب المعاصر، القيم المعاصرة... الـ ... ضع أي شيء مكان النقاط الثلاث الأخيرة وأتبِعها بكلمة (المعاصر) وسأثنّي على اقتراحك!

 

 

سأخبركم شيئاً بصراحة، أنتم –جميعكم- لن تحبّوا هذه الرواية، أراهن على ذلك؛ لأنها تفضح كل شيء، إلا إذا كان قد تغيّر معيار حب الناس للأشياء، وأراهن مرة أخرى على أنه -حتى هذه اللحظة على الأقل– لم يتغير.

هل ظننتم أن العنوان "الرومانسيّ جداً"هو طاقة ورد يحملها عاشق ويقطع آلاف الأميال لينقذ حبه من الموت؟ مخطئون، الرواية ليست عاطفية إطلاقًا، هي تحارب العواطف المستفزّة التي يضجّ بها عصرنا العجيب!

 

سوف تشعر مبدئياً بأن كل ما تقرأه الآن حقيقة، ثم فجأة، ستسقط من قمة خيالك على واقع أنك تحلُم، وأنت الواثق تمام الثقة بأن هذه الفتاة تهذي، تسترسل في هذيانها، وترقص ثملة وحسب، تفكّرُ للحظةٍ في تبليغ أقرب مشفى عن حالتها.

 

 

يا للشقاء يا أصدقاء، كيف صار الحق في الحياة تهمة!

هل عرفتم الآن عم تتحدث الرواية؟ ليس بعد؟ إنها تتحدث عنّا، بكل جرأة!

 

ها هي تتحدث عن المهام المستحيلة، عن تنظيف الشبابيك – مثلاً - كمهمة مستحيلة، لا أعني تنظيف زجاج نوافذ البيت تلك المهمة يمكن أن تؤديها بمهارة أقل (الفتيات الصانعات) كفاءة، إنما أعني نوافذ الأفكار، نوافذ الإحساس، نوافذ الحياة، النظر النقي، القراءة الذكية، الرؤية الثاقبة، الأفق الرحب، القيود الوهمية، الذهن الشجاع، والمرآة الصادقة!

 

تشعر للحظة بأنك في حضرة سوق الموت، لشدة ما تصرّ الروائية على أن كلُاً منّا – بلا استثناء – حتى أنت، كائن "أهبل"لا يهمك أن تعرف من أي أتيت، لا يعنيك ما يحصل معك أو ما يدور مِن حولك، لا شأن لك بالقادم أو بالغاية التي ستنتهي إليها، كل ذلك يديره آخرون مغرضون ممَن حولك وأنت تترنح، لا تزال تترنح، وتدندن مخمورًا: "خدني معك على درب بعيدة".

 

مرة تجد نفسك في حي شعبي مصري، مرة ثانية في سكن طالبات عربيات في دولة نائية تتقاسم فيه النزيلات كل شيء - إلا المودة طبعًا -  هذه المرة لن أقول "بلا استثناء"فمثلاً حين تطلب إحداهن مشط الأخرى؛ لأنها أضاعت مشطها مؤخرًا ولم تدر في أي زاوية حشر المسكين ضمن الفوضى المسيطرة، أو في أي كيس قمامة قرر الرحيل هربًا من شعرها الذي أكل عليه الإهمال وشرب حتى تجعّد وتقصف.

 

(المشط الهارب) إنه عنوان شهيّ لفكرة قصة جديدة، هكذا تفكر فتاة ثالثة من بين النزيلات في كتابة قصتها الجديدة، بينما تلقّط الأفكار لأعمالها القادمة من حنق ونزق وخناقات الصبايا الأخريات.

 

 

هكذا تمامًا؛ لا تحس إحداهن بزميلتها ولا تشاطرها المودة أو تتعاطف معها مطلقًا، لدرجة أن تتقاسم قصة عشق وليدة عبر "واتسآب"بالتحديد مع الفتاة التي سرقت عشيق زميلتها النزيلة، في ذات الوقت الذي تربت فيه على كتف النزيلة الزميلة – يفترض أنهما مقربتان -  محاولة تهدئتها بعد أن تركها عشيقها وفرّ مع أخرى.

 

 

هل مللتم من الوصف؟ حتى أنا مللت؛ لأنه صورة للواقع، وقد غصنا بما فيه الكفاية في قرف الواقع!

 

 

عوالم تدوس الأحلام البسيطة لتصعد، أحلام (أسامة) و (أمينة) وأحلامي وأحلام صديقتي الكاتبة، مع ذلك ظلّت عوالم ناقصة، وقد تمنيت لو أنني وجدت عالماً مكتملاً مؤثثاً بالشكل الذي يليق بحياة شبه مكتملة، لكن، ظلّ كل عالم مقضوم الطرف كتفاحة (Apple) إحدى آخر صيحات التكنولوجيا التي يلهث وراءها العالم، والناس الذين أعد نفسي إحداهن.

 

 

في بؤرة النقص وفي المكان المقضوم تحديدًا كانت بلورة تدور وتعكس أفكار الانحدار المخيف في الثقافة الجمعية للمجتمع العربي، تعرض فيلماً متصل الأحداث، تسرد: كيف انسلّ المجتمع شيئاً فشيئاً من لغته، عاداته، أخلاقه.

 

 

كيف تقف إحدى الفتيات بوقاحة لتخبر من وراء الكاميرا الغشاشة أنها تصرف للعناية بأظافرها مقدار ما تصرفه تسع عائلات في العالم السفلي، خلال شهر كامل، على كل شيء.

 

 

كيف دخلت ثقافة الجمال المشوهة، ومقاييسه وتحديد كل شيء فيه فسحة ومساحة، كيف فُرضت المقاييس والأطوال والأوزان والأحجام، كيف تسللت تقليعات غريبة مثل: تقشير الاكواع كيميائيًا، فرد الشعر الأجعد، تغيير الأشياء التي كانت لطيفة على طبيعتها، أو منع التعرق وتنظيف الإبط من اللون والرائحة.

 

 

ألا يرى هذا العالم أن رائحة بعض الأخلاق تصبح نتنة مثلاً، وبعض عوالقها تحتاج إلى النتف بعناية، ألا يرى كيف أن بعض الشوائب العالقة بالعقول تحتاج للتقشير والاستئصال ولو بكتاب واحد، أو أن القلب والعقل يحتاجان للتضخيم أكثر من غيرهما!

 

 

كيف فهم هذا العالم الانفتاح، كيف فسّر السير إلى الأمام، كيف تشرّب الحرية بهذا القدر من التشوه، كيف انفتح ليتماهى شيئًا فشيئًا، كيف أصبح لزجًا ثم أكثر لزوجة، هلاميًا، ثم تلاشى!

 

في الرواية تشعر مثلاً بأنك في حضرة فوارس الزمن الأول كله من العهد السابق للبداية، ومؤسسها، وقبل الأخير/ الأخير الذي وصلتَ إليه، تشعر بغصة التفكير في: لماذا كلما تقدّم الزمن قتلتنا الأسئلة وضيعتنا المتاهات؟

 

 

هذه الشخصيات النادرة والمستحيلة هل وجدت في أزمان لا تليق بها؟ أم أن تسعين بالمائة من بنات زماننا لا يعرفن طريق السعادة التي تبتدئ بغمزة رجل من زماننا المائع؟ هذه التوليفة التي لا توجد إلا في أخيلة المجانين!

 

وهذه الرواية، رواية ساخرة، تشعر بأنها تمد لسانها لك هازئة كلما قلبت صفحة جديدة أو انتقلت إلى فصل جديد، لكنها غريبة إلى درجة أن تعتصر روحك دموعها وتنتحب حواسك ويبكي كل جزء فيك وأنت ترى الحقيقة، لا تستحق حتى أن تشعل عود ثقاب لتحيلها رماداّ!

 

 

هذا النوع من السخرية الذي يجلب الضحك المجروح إلى حَنجرتك المشروخة بشهيق روحك: إنها سخرية المُتنبي: "ضحكٌ كالبُكا"

 

 

هل فوجئت بأن حياتك التي تؤثثها بعناية، ليست سوى مشاع للسخرية، إنها ربما حتى لا تستحق أن تكون حلماً، بالأصح (كابوساً) تبصق عن يسارك ثلاثاً حين تستيقظ منه!

 

لقد فكرت وأنا أقرأ الرواية، بأنها أمة جاءت في هيئة امرأة تشكو مغتصبيها بنحيب صامت، ثم أخذت تتعرى ظنًا أنها تفيض إغراءً، بينما كانت تفضح بؤس تفاصيلها، وترهل جلدها، وندوبها، شيئاً فشيئاً!

 

 

 

العزيزة/ مُنْجِية:

لقد حان وقت سؤالي لكِ وقد غامرتِ لإيقاظ الضمير، واستعادة الشرف، وتحريك النخوة: ألا تقتضي المغامرة وجود الشرف والنخوة والضمير أصلاً؟

وكما تقولين دائماً:

 

"هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه أرضًا، ويخبطها على الحائط، ويرمي بها من أعلى جسر عالمي!"

 

 

إنه فعلاً أمر يدعو للضحك، أن يفعل ذلك أحد، وطبيعي أن يتهم بالجنون أيضاً، فحتى أنا يبدو أنني سأتضامن مع (منى) والبقية وأقلب الطاولة ضدك، الآن فهمت بينما أضحك ودمعتي جارية لماذا كانوا يرون (أمينة) مجنونة!

 

سأصارعك كأسامة والآخرين: "صديقتي أنت تفسدين كل شيء بتأويل الأمور بطريقة غريبة ومملة، حاولي أن تعيشي حياة طبيعيّة، توقّفي عن التحليق".

 

حينَ سمعت كلمات ناشزة مثل الضمير، الشرف والنخوة، لا شك أنك سمعت خطأ، فالموجود يا صديقتي للأسف: الحمير، الترف، والنشوة!

 

 

أقول: في المرة القادمة سأهديك "نكشات أذن قطنية"، هل يسرّك فعلاً أن تخرجي من السجن بحماس مقضوم؟ أبقي حماسك جميلاً وتحمّسي للتقشير الكيميائي للكوعين والفخذين والإبطين، أليس ذلك مستحِق؟ آه، التشقير أيضاً يستحق المغامرة، ليست كايلي ومادونّا وشقراوات الإعلام أحق منك بالبروز، فالبروز الصناعي أو الطبيعي هو من حقك في كل الأحوال.

 

 

أنت شخص يؤمن بأننا نتعرض لمؤامرة، كأننا مهمّون مثلاً، أخبريني: من نحن ليتآمر علينا غيرُنا؟ نحن دمويون، مرضى، وعديمو الثقة بأنفسنا، فشلة، ضائعون، أيّ هراء تعتقدين؟ ربما تكونين جزءًا من مؤامرة، ومن مصلحتك أن تروّجي للمؤامرة!

 

 

بالمناسبة: عليكِ أن تضيفي إلى مرضيكِ (الببليومانيا والببليوفيليا) مرضاً ثالثاً اسمه (فيوبابوسايدفزيا) هذا المرض أنا اخترعته وحددت مكوناته وأسميته بهذا الاسم، ومعناه: السفر بالخيال إلى الأزمنة السابقة؛ للإتيان بأفكار مستحيلة تثير الفوضى والشغب في محيطنا المثالي!

 

 

 

لماذا عليك أن تقرأ المزيد من الروايات؟

$
0
0

 

 

في مرحلة ما، يجد القارئ نفسه في موضع يضطر فيه لتفسير قراءته للروايات، أولئك الذين يعتبرون أنفسهم "سلطة معرفية"على القرّاء، يعجبهم تبني الرأي الذي يدّعي كون الرواية أدب رخيص، لا تسمن قراءته ولا تغني من جوع.  

 

 

الحقيقة التي يمكن أن نقولها نحن القراء تجاه الروايات، تتلخص بأننا تمكنّا من استنطاق الزمان وسرنا عبر متاهاته، سافرنا إلى الماضي والمستقبل بعيدًا عن كل القوانين الفيزيائية، صنعنا أصدقاء في قرون مضت وأزمان لم تأت بعد، وكل هذا بفضل الروايات.

 

نحن نحبّ الروايات ونقرأها لأننا لا نكتفي بالحياة على الأرض، ونريد الانطلاق نحو الفضاء، نحن نعيش بصحبة شخصيات روائية تجعل ذاكرتنا تحتفظ بكل ألوان المشاعر المختلفة.

 

عندما تكون في ذروة الحماس وأنت تسعى لقص أحداث رواية إلى شخص آخر، يقابلك بالحماس نفسه إلى أن يقطع عليك بسؤاله "ما نوع الكتاب"وعندما تخبره أنه "رواية"تتبدل ملامحه برسمً مُشفق ويسألك "لماذا عليك قراءة الروايات؟"ويكون السؤال برد فعل لا يختلف لمن يكتب الروايات أيضًا.

 

هذه الإيماءة التي لا بد أن تكون واجهتها كقارئ من الذين ينتقصون حق الرواية كجنس أدبي، يمكن أن نتفق على كونها فهمًا قاصرًا أُلصق جزافًا بالرواية وزج بها في الدرك الأسفل، كنوع رخيص من الكتب لا يستحق القراءة، بل قد يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك باعتبارها قراءة الروايات شيئًا مُخجلًا لا يجدر البوح به.

 

 

إن الروايات وحدها من تمتلك القدرة على تنشيط المخيلّة البشرية وجعلها حيّة، تخبرك كيف ترسم صورة الحياة التي تقرأها وكيف تُسكن كل شخصية منها في أي بقعة من المكان المتخيل في عقلك؛ كيف يبدو شكل الشخصية، كيف هو صوتها، كيف هو تعبيرها عندما تتحدث؟

 

 

تُعلّمنا الروايات كيف نصنع الحوارات مع الآخرين، كيف نناقش بإيجابية، تخبرنا متى علينا التوقف عن الخوض في حديث ومتى علينا أن ندخل به، تدربنا الروايات على فهم الشخصيات بعيدًا عن الألغاز التي تحيط بها.

 

إن الرواية خوض في عقول البشر، في جوهر أنفسهم؛ نحن لا نبقى أنفسنا عندما نقرأ الرواية ولا نخرج كما نحن عندما ننهيها.

 

الروايات تمنحنا الحياة الأخرى الموازية لعالمنا؛ باستخدام الروايات نقارب بين الكتب وواقعنا، نقارن ونسقط ونستعير الأمثلة والتشبيهات التي تعيننا على فهم حياتنا.

 

يقول النوبلي ماريو فارغاس يوسا: إن الرواية جاءت بعيدًا عن تخصيص المعارف واستطاعت جمعها كلها ببساطة. في ذات السياق كان الفيزيائي أمريكي الجنسية "ليوزيلارد"يفكر من باب العبث بفكرة تفاعل نووي متسلسل وهو يجوب الشوارع، لم يخف أن الإلهام قد أتى إليه في أمر صناعة الأسلحة التي أحبها نتيجة غرامه برواية "العالم متحررًا"التي تنبأت بسلاح يمتلك قوى غير محدودة في المستقبل والتي كتبها رائد الخيال العلمي هربرت جورج ويلز.

 

عندما أتى العالم الفيزيائي الأمريكي، صانع السلاح النووي "أوبنهايمر"إلى الفيزيائي الشاب ويلسون ليطلبه للانضمام إلى مختبره في الجبال، كان ويلسون لايزال هامًا بغرام رواية الألماني توماس التي تعرف باسم "الجبل السحري"، كان لهذه الرواية القدرة على ربط الواقع بطريقة مثيرة في عقل الفيزيائي ويلسون ودفعه للموافقة.

 

 

لقد تمكنت الرواية وحدها من حث الإلهام وتقديم العلوم بقالب أدبي يمكن للإنسان العادي أن يبسط فهم الأمر من خلاله، قدمت الرواية التاريخ بكافة أشكاله، وقدمت الحياة الاجتماعية بكافة صورها؛ لقد تناولت الرواية كُلّ شيء.

 

عندما تقرأ الرواية يمكنك ببساطة أن تفهم العالم بشكل أفضل وتدرك أنه مكان أفضل، عليك حقًا أن تفكر ماذا سيكون جوابك في المرة القادمة، عندما يخبرك أحدهم أن الرواية ليست محتوى يُثري ثقافتك ومعرفتك.

"ما بعد الظلام"ودهشة موراكامي التي لا تنطفئ

$
0
0

 

 

تندر الكتب التي تصنع دهشة قارئها ولكن حين أقرأ هاروكي موراكامي، في كلّ مرّة هناك دهشة مختلفة. 

 

التقيت بأفكاره للمرة الأولى في رواية (كافكا على الشاطئ)؛ رواية تحتفل بسحر الحياة في أجواء غرائبية تناضل بنا نحو التغيير، ثم انطلقت إلى روايته (نعاس) التي تجعلنا نقف على ضفة أخرى من ضفاف الوجود، ضفة اليقظة، إذ أيقظت فّي إدراك حقيقة النوم الذي إن لم آخذ منه القليل أخذ مني الكثير!

 

أخبرتني مرةً صديقتي أنها شاهدت مقابلة للكاتب موراكامي حين سُئل -لا أذكر نص السؤال- ولكن فيما معناه: كيف تستلهم أفكارك؟ كانت إجابته -غير نصية- أنه يكتب كما لو أنه يشاهد المدينة من الأعلى عبر منطاد طائر في الهواء، وأظنه قصد بذلك تحديدًا روايته (ما بعد الظلام).

 

 

عودة لها؛ فالرواية تتحدث عن ليلة واحدة من ليالي طوكيو المؤرقة، إذ نغوص معه في الظّلام الوديع أحيانًا والمريب دائمًا، تدور أحداثها في سبع ساعات من الترقّب والدهشة التي يصنعها موراكامي في تفاصيل حكاياته المتفرقة في فصولها والمتلاقية تحت أستار ذلك الظلام.

 

إنه الليل، الوقت الممتلئ بالأسرار والأحلام التي تحرّك رحى العقل:

 

"يتّحد كل إنسان بآخر في احتياجاته على نحو يفوق ما يفرّقهم من ظروف متباينة يجلّيها النهار، فكل الأفكار الصباحية هي نتاج رحى الآمال الليلية."

 

 

تبدأ الرواية وكأن عيونًا ترصد المدينة من أعلى في نظرة شاملة وعلى نطاق واسع، لتُظهر ذلك الكيان الإنساني الاجتماعي الذي يشكّل الحياة.

 

تبدأ الرواية في الساعة 11:56 ليلًا حيث تاريخ اليوم يوشك أن يتغيّر. ثلاث حكايات متباينة تترابط فيما بعد لتشكّل الحياة التي تتواصل بصوت عميق لأنين المدينة في ساعات الليل المتأخرة.

 

الفتاة ماري التي تجلس في ذلك الوقت على المائدة تقرأ كتابًا في مطعم المدينة، الشخصيّة البطوليّة التي جعلها موراكامي ممثِّلةً للشخصية الغامضة والمستقلة في ذاتها وأفكارها ومبادئها، ومن الجانب الآخر تظهر أختها إيري التي تتمتّع بالجمال الساحر؛ ثنائي يختلف في كل شيء، إيري الهائمة في الظهّور والتجمّل والاستعراض وماري حيث العقل والحكمة. 

 

يربط بينهما الفتى الموسيقيّ تاكاهاشي، يتحدّث إلى ماري عن أختها، ويُبدي اعجابه بماري وتعاطفه معها ومع أختها الغارقة في اللاوعي!

 

حكايتان تتوازيان في أستار الظلام، لتتلاقيا مع ضوء الصباح القادم. 

 

على صعيد آخر، يظهر وجه الحياة الذي يُنبئ بالشّرور، شيراكاوا، إحدى الشخصيات المراوغة اللّعوبة، التي تنتعش بروح الجريمة والسّطو وتجارة الجسد، مستترةً بالعتمة، كأن لا شيء يشهد عليه بما يفعل. 

 

تتعدّد شخصيات موراكامي في أحداث ليلية متباينة المظاهر، متشابهة المعاني إلى حدٍّ ما. نسبُر متاهات النفس البشرية، حيث الآمال مختلطة بالآلام،هناك دائمًا ما يختبئ في الفؤاد ولا يستطيع صاحبه إلا أن يشعر به ليلًا، وحده، دون أن يخترقه بالمعرفة شخص سواه، لذلك كان الليل مليء بالأسرار.

 

حتّى "الساعة 6:52 صباحًا، إذ يبدأ الليل بالانجلاء، وحيث يبدأ يوم جديد، تتحول زاوية الرؤية العلوية عن وسط المدينة إلى ضاحية سكنية هادئة حيث تعود الحياة إلى شوارعها، يجري توصيل صحف الصباح وأشخاص يسيرون إلى واجباتهم وأناس يحيّون بعضهم بعضًا. 

 

ربما يكون يومًا كباقي الأيام أو قد يكون يومًا مميزًا من نواح عديدة على نحو يُرسخه في الذاكرة."

 

"تدلف ذات العين إلى بيت من البيوت المتشابهة، تحديدًا إلى نافذة غرفة إيري شقيقة ماري، إذ ثمّة شيء يحاول ارسال الوعي إلى إيري، ودون أن تعوقها الأشياء الأخرى، تستغرق علامات الأشياء القادمة وقتًا حتى تكبر في ضوء الصباح الجديد…"

 

 

هكذا ينهي موراكامي روايته بنهاية مفتوحة وعلى قرّائه أن يروا نهايتها في الحياة التي يعيشونها من وحدة، اغتراب أو توق إلى التواصل الإنساني؛ فحتى الآن، في بداية كل يوم جديد وبالنسبة إلى معظم الناس، ما زال يومهم صفحة بيضاء لم يُسَطّر بها شيء. 

 

أسلوب الأديب مارون عبود النقدي ورؤيته للنقد

$
0
0

 

 

إن الأدب عند مارون عبّود لا يستقيم إلا "بنقد لا هوادة فيه، وإن مهمة الناقد كمهمة الأثري ينبش القناطير المقنطرة من التراب ليعثر على تمثال أكله الصدأ"لا يقلّد أحدًا، قلمٌ من دمِ صاحبِه لا شرقيٌ ولا غربيّ، يردّ على طه حسين والرافعي وزكي مبارك كما يردّ على شوبنهور وغوته وهيجو، ولما أكثروا عليه بالاستشهاد بأدباء الغرب في آراء أدبية يخالفهم فيها قال:

 

"ما هؤلاء إلا متقدمون في الأخوّة في خدمة هيكل الأدب وسدنته، إن هم إلا بشر بل أفراد من نوابغ الأدب والفرد لا يؤلف أمة، والأمّة ولو كانت الشمسُ لا تغيب عنها، لا تؤلّف العالم!"

 

 

يلذّ لعبود النقد كثيرًا ولا يشبع منه، وهو يرى أن

 

"النقد إعلان بلا أجرة، ولا أتلقى منه سوى السب والشتم وسواد الوجه، فالويل جزاءُ ناقدٍ في أمة لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء، ألم يقل أناتول فرانس: آه من النقد كم جعل لي من أعداء، فماذا نقول وأدباؤنا رِقاق الجلود؟ وأدبهم شوكولاهي ينماع إذا أحرّ النقد؟"

 

 

كاد نقدُه أن يعرّضه للضرب والقتل عدة مرات، وكان يتلقّى رسائل وعيد تحرمه النوم، بل غاظت إحدى مقالاته جماعةً من قومه فخرج له سبعون رجلا بالسلاح، وظل في حماية أربعة من جنود الحكومة حتى انحلت المشكلة، و تلقى الكثير من رسائل السب والشتم على نقده المرّ، ووُصف بـ ذا الذنب الأعقف وصاحب الأذن الطويلة وكان يسمّي هذه الشتائم التي ما تنفكّ تنهال عليه بأنها (الأسماء الحسنى) وعتب عليه بعض أصدقاءه وقال له: لقد قضيتَ على كل من كتب أو نشر، فارفُق بالكتاب والأدباء واستبقِ بعضهم كي لا تكون وحدك في الميدان وجلبا للسلامة منهم، فأجابه:

 

"إني في السلامة على مذهب الطغرائي، ولا أريد للأدب أن يصبح لعبة يتلهى بها من يفرقعون أصابعهم ويتوهمون أنهم قذفوا قنابل تنسف الأرض فتخرج أثقالها، ثم يعجبون كيف لا يقول الناس: مالها!"

 

 

 لم يمنعه كل هذا من المُضيّ لما كرّس حياته له، فقد أخذ على نفسه القسَم "أنا مارون عبود أقسمت وأقسم بحياة مارون عبود أعز الناس عندي ألا أكتب في باب النقد إلا ما أعتقدُه حقا، وإن أخطأت فأنا غير مسؤول."

 

 نقدُه قنطرة القبول ولا مجاملة في عبوره، ومن وقف عليه إما جازه بحق وإما سقط بلا أوبة، سقوطَ العقّاد عنده، وكانوا يهدونه الكتب والدواوين لينقدها، فلا يصانع أحدًا، وربما كتب عن تردده في نقد مادح له ولكنه يعود فينقده بلا مجاملة ولا رحمة، إذ "يجدّ في نقد المبتدئ إذا رجى منه خيرًا وشعرا، وإذا غلِط الكبار وجبَ أن يكونوا عِبرة للطريّ عُودُهم"وهو كفيلٌ بذلك، ولكنّ هذه الصراحة والحِدّة الساخرة لا تمرُّ بلا ثمن، وقد دفع مارون هذا الثمن راضيًا أو شبه راضٍ، من صداقاته وعلاقته مع أحبابه وسِبابٍ وشتائم كان يتلقّاها باستمرار، ولا عجب؛ "فقديمًا ما كان النقد مفرّق الأحباب"، ولكنه لا يبالي بذلك و لم يراعِ مرةً الصداقة في نقده الشعرَ والكُتب، “فالصداقة تزول والحقيقة تبقى للأبد” وما أصدق هذا وأعزّه اليوم.

 

كان مرة في مؤتمر تحدث الملقي فيه عن النقد الأدبي وقال: إن النقد أفقد مارون ثلاثة أرباع أصدقاءه، فالتفت أمين نخلة إلى مارون وأشار بسبابته إلى صدره كمن يقول: أنا آخر واحد!

 

 

كان يُسأل بعد كل فصل: "ماذا بينك وبين فلان؟ وإذا لم يكن ثمة شيء بينك وبينه، فلماذا كل هذا النقد المرّ؟ حقًا إن الناقد مسكين! إذا قرّظ أو أثنى قالوا: له غرض ومدلس ومحاب، وإذا قسا وشرّح قالوا: حسود قاس شرس، وإن تهكم بأدب يضحك الثكلى قالوا: وقح لا يحترم شعور البشر! مالي ولهم؟ أَكُلُّ هبنّقة يريد أن نجعل منه أبا الطيب؟ ماذا نعمل لنرضي الناس؟! لا أدري!

والحق أقول لك: ليس لي في الأدب حبيب أعطف عليه، ولا صديق ولا خليل في المختبر والنقد، وإني ألجأ للفصد متى رأيت الضغط عاليًا، وإلى الكيّ إن كان آخر الدواء، وإنني أتوخى تبيين العيوب لأنقذ أصحابي من شرها."

 

 

إنه لا يبحث عن تبرير لهذه الحدّة النقدية، ولا يعتذر منها لأحد، إنها طبعه؛

 

"إن شيئا فينا يحثنا ويدفعنا إلى معاداة الناس عداء لا نفيد منه إلا السباب واللعنات والقداسات لأمنا وأبينا، وهذه العلقمية والعقربية والنصال والنضال لا يد لي فيها، أرأيت (أيّ) التي أعجز تعليلها ذاك النحوي فقال: أيّ كذا خُلِقَت، الحق أقول لك: مارون كذا خُلقْ!"

 

 

يكره تقديم الكتب لأيٍ كان، "لأن فيها احتقارًا لذوق القرّاء الفنّي، وهذه التقاريظ مثل صياح الباعة على البضاعة، ولا يبطل زعمهَم إلا نار المطبخ والنقد"واليوم يُخبرك المقرّظ أن هذا الكتاب الذي يقرّظه يسُد ثغرة في المكتبة العربية، وما درى أنه لو وُضع الكتابُ ومؤلّفه ومقدِّمُّه معًا ما سدّوا ثغرةً في جدار، ولكنه زيف المعرفة والمصانعة.

 

يحتدُّ في نقده ساخرًا سخرية غير فجة ولا مسفّة، ولكنه يجعلك تضحك من قلبك، وإذا أحرّ النقد تبيّنتَ دقة ملحظه ورهافة حسّه، وسعة معرفته بالأدب العربي والغربي، وغيرته على الأدب وإخلاصه للفن، وعدم تقديسه للكبار أبدًا.

 

هو لا ينقد الأدب إلا بمثله، فنقدُهُ أدبٌ بحاله، أسلوبًا وروحًا وتشبيهاتٍ ووصفًا "فلا يعنيه من الزهرة إلا جمالها وعطرها، أما العلم الذي يحلل عناصر جذورها والجذع والورق والألياف فلا يلتجئ إليه لئلا يفسد عليه النشوة التي دبت فيه حين وقعت عينه على عينها"

 

متماسك الشخصية صلب الإقدام لا يحرِن ولا تقلص شفتاه عن وضح الفمِ في أي معركة يخوضها، لا يليّنُه هجوم المنتقَدين عليه، ولا يثنيه العتب ولا يستميله المدح، لا يقدس أحدًا ولا يبالي بعظيم وشهير، ومهما مدح الناسُ كتابًا فهو لا يبالي بذلك "فأثر الهرّاجين في الناس ابن يومه ومنذ متى والفن يقوّم باستحسان الجمهور له؟"

 

لم يكد يسلم منه أحد، وما نقد أحدًا دون أن يمعط إذنه أو يفركها قليلًا، اللهم إلا عمر أبو ريشة فكان نقده له أخف ما نقد، وعوتب في ذلك، ولكنه لم يغير رأيه لإعجابه بشعره غاية الإعجاب، أما نقده لطه حسين، عباس العقاد، بشارة الخوري، سعيد عقل، الزيات، الرافعي، حافظ، شوقي وغيرهم، فأمَرّ من الصِّبر وأحرّ من الجمر وأكثر إضحاكًا من نكتة على السجيّة، ويمدحهم فيما استحقوا، غير هيّاب ولا متراجع عمّا يقوله.

 

وحين نقد أدباء مصر في كتابه (في المختبر)

 

"أغضب عبّاد الأصنام من أجل توحيد الأدب فانهالت عليه الرسائل سوداء وحمراء ممن يفكرون بعقول جيرانهم! ونصحوه أن يتناول غير مشيخة أدباء مصر الموقر، فيَـدُهُ أقصر من أن تنال الثريا، فضرب على هذه العطعطة ومضى، يعزيه إخلاص المنصفين وراحة ضميره"

 

 

وإنّ مطالعة نقده في بحر كتبه خيرُ مران وتثقيف لحاسة الذوق والنقد ووزن الأدب وتقييمه، وأنا زعيمٌ لك -ولو أن هذه العبارة لا تعجب مارون ويراها مما أحياه طه حسين من الموتى ولعله فاته الحديث- أن قراءتك له ستحدّ من رمح قلمك ورهافة حسك، وبصرِك بجيّد الأدب ورديئه، إن كان طبعك مؤاتيًا.

 

ولعلي لا أثقل عليك إن بسطتُّ لك طرفًا من نقدات مارون عبود لأدباء عصره وتقييمه لهم في مقالات قادمة، ورؤيته للأدب والأديب والصِّنعة الأدبية، وأمُرّ بك في كل ذلك مِشيةَ حبيبة الأعشى .. لا ريثٌ ولا عجَلُ .. سأعبرُ بك مضيقًا قصيرًا وعليّ نجاتك، فاتَّـكِئ لكن لا تنمْ.

 

حروب الظّل؛ عندما تُكشف الأسرار من الداخل

$
0
0

 

 

تبدو عبارة "حائز جائزة بوليتزر"على غلاف أي كتاب مغرية للقارئ المهتم بشؤون الصحافة. فرغم اقتصار الترشح لنيل تلك الجائزة على المواطنين الأمريكيين فحسب، ورغم أنها تُمنح لمجالات أخرى أيضاً كالآداب والموسيقى، تظل "البوليتزر"في عُرف النقاد، هي الجائزة الأرفع في عالم الصحافة.

 

في عام 2009، حصل فريق مراسلي جريدة النيويورك تايمز، على جائزة بوليتزر في مجال أفضل تقرير في الشؤون الدولية. تكوّن هذا الفريق من ثلاثة أشخاص، رجلين وسيدة، وكان "مارك مازيتي"أحد أعضاء هذا الفريق.

 

 

 

في عام 2012، قابل مارك مازيتي الوكيلَ الأدبي سكوت مويرز، الذي "حثه على النظر بعمق أكبر، في الموضوعات التي يكتب عنها في النيويورك تايمز". ومن هنا، وُلدت في رأسه فكرة تأليف كتاب، يكشف فيه الكثير من الأسرار حول عمل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، السي آي إيه، في الكثير من الدول. ويذكر مازيتي أن كتابه نتاج مئات المقابلات في الولايات المتحدة وفي الخارج، مع عسكريين وضباط مخابرات سابقين وحاليين.

 

 

بعد 15 شهراً من العمل الدؤوب، وفي التاسع من نيسان 2013، صدر كتاب مازيتي عن دار بينجوين الأمريكية. وفي عام 2015، صدرت النسخة العربية منه عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، من ترجمة أنطوان باسيل، تحت عنوان "حروب الظل". ويقع الكتاب في 338 صفحة، وهو مقسم إلى ستة عشر فصلاً.

 

يبتدئ مازيتي كتابه بذكر قصة بناء سجن غوانتانامو. القصة ورد ذكرها في كتاب ألفه "خوسيه رودريغيز"، الذي كان في السابق واحداً من كبار ضباط المركز الأمريكي لمكافحة الإرهاب. حيث يذكر رودريغيز في كتابه أنه هو صاحب فكرة بناء سجن في القاعدة الأمريكية في كوبا، لوضع مقاتلي طالبان الذين تقبض عليهم القوات الأمريكية فيه، حيث سيكون هذا السجن خارج نطاق سلطة المحاكم الأميركية.

 

 

في الفصل الأول أيضاً، يخبرنا مازيتي تفاصيل مثيرة عن قصة اعتقال الملا "خير الله خيرخوا"، أحد قادة طالبان أو وزير داخليتها. ففي شباط 2002، حاولت قوات الكوماندوز الأمريكية اعتقاله في أفغانستان، لكنه تمكن من الفرار إلى باكستان. هناك، جرت محاولات لإقناعه أن يستسلم ويصبح مخبراً للسي آي إيه، وعندما رفضها، طوقت قوات الأمن الباكستانية المنزل الذي يختبئ فيه، وسلمته إلى ضباط السي آي إيه. "وشرع الملا خيرخوا في رحلته الطويلة إلى خليج غوانتانامو في كوبا ليصبح واحداً من أول نزلاء الجزيرة".

 

 

يُفرد الكاتب فصلين من كتابه، الخامس والثاني عشر، للحديث عن اليمن وملاحقة سي آي إيه لعناصر القاعدة فيه. حيث يكشف تفاصيل اغتيال "سنان الحارثي"، وهو العقل المدبر لتفجير المدمّرة الأميركية "كول"في العام 2000. تحدث أيضاً عن "إبراهيم العسيري"، حيث أطلق عليه لقب "سيد صناعة القنابل في اليمن"، ووصفه بأنه "صاحب موهبة مشؤومة في العثور على وسائل إبداعية لإخفاء المتفجرات".

 

 

في الفصل السادس والذي حمل عنوان "بشتوني حقيقي"، يأخذنا مازيتي إلى باكستان ليقدم شرحاً واضحاً وتفصيلياً عن الأوضاع هناك. يخبرنا أيضاً تفاصيل عن حياة نِك محمد وزير، أحد قادة طالبان باكستان، حتى يوم 18 حزيران 2004، حيث تم اغتياله بواسطة طائرة بلا طيار. يصف لنا قبره المبني من الطين، الذي أصبح محجّاً، وكُتب شاهد على القبر جاء فيه: "عاش ومات بشتونياً حقيقياً".

 

 

في الفصل السابع، يكشف مازيتي فضائح السي آي إيه المتعلقة بالتعذيب، ويسخر من التناقض بين البيانات التي يصدرها البيت الأبيض، والتي يدعي فيها أن الولايات المتحدة "ملتزمة بإلغاء التعذيب على مستوى العالم"، وبين الواقع.

 

 

يروي مازيتي قصة محنة عنصري القاعدة، أبو زبيدة وعبد الرحيم الناشري، حيث أن تعذيبهما مؤرخ بالدقيقة على تسجيلات فيديو تظهر فيها وجوه الضباط السريين بوضوح.

 

أيضاً يُفرد مازيتي فصلين من كتابه، الثامن والثالث عشر، للحديث عن الصومال وعمل السي آي إيه فيها. حيث يروي بالتفصيل قصة حياة ميشيل بالارين. وتأتي اعترافاتها في مقابلة أجراها المؤلف بنفسه معها، حيث اعترفت أن برنامجها للمساعدة الغذائية الإنسانية كان غطاء لجمع الاستخبارات. واستطاعت الحصول على تمويل من البنتاغون بقيمة 200 ألف دولار مع تعهد بالمزيد في حال أثبت البرنامج فاعليته.

 

 

في كتابه يروي مارك مازيتي أيضاً قصة آرثر كيلر، وهو جاسوس أميركي، أُرسل أولاً إلى العراق عام 2003 للقيام بمهمتين وجيزتين، ومن ثم إلى باكستان. وساعدت المعلومات التي قدمها إلى سي آي إيه على اغتيال كل من "أبو خباب المصري"و "خالد حبيب". وتأتي هذه القصة من مقابلة أجراها المؤلف بنفسه معه، بعد أن عاد إلى الولايات المتحدة واعتزل العمل في الـ"سي آي إيه".

 

 

ومن ضمن المفاجآت التي يحتويها الكتاب، يُفرد الكاتب فصلاً يروي فيه قصة التعاون بين البنتاغون وشركة يوتيرن ميديا في عام 2007، لتطوير ألعاب للهواتف النقالة يُراد منها التأثير في الرأي العام في العالم الإسلامي. ويقول الكاتب ص197: "صُممت لعبة البطل العراقي بطريقة يمكن معها تعديلها بسهولة للتوافق مع أي عدد من البلدان في العالم الإسلامي. ولا تحتاج رسمات اللعبة، التي تصور الشوارع المحاطة بالمساجد وأشجار النخيل، إلى تعديل كبير، وحده الحوار سيتغير".

 

 

في فصل بعنوان "الطبيب والشيخ"، يعيد مازيتي سرد القصة المعروفة عن اغتيال أسامة بن لادن والجراح الباكستاني شاكيل أفريدي الذي وشى به. لكن الجديد في هذا الفصل هو ما يكشفه مازيتي من صراعات داخل الحكومة الأمريكية، بين السفير الأميركي ومدير سي آي إيه في باكستان. ويصف مازيتي النزاعات ص299:

 

"شرع كبار مستشاري الرئيس أوباما بعد شهر على قتل بن لادن يتحاربون علناً في اجتماع مجلس الأمن القومي حول من يتولى المسؤولية فعلاً في باكستان".

 

 

أما مصادره فتأتي من مقابلة أجراها مع اثنين من المسؤولين الحكوميين الأميركيين.

 

 

ينهي مازيتي كتابه بفصل يتحدث فيه عن قصة اغتيال المواطنين الأميركيين أنور العولقي وسمير خان بواسطة طائرة بدون طيار في اليمن، وحادثة اغتيال عبد الرحمن ابن السادسة عشرة، وهو ابن أنور العولقي، حيث استنكرت جريدة النيويورك تايمز جريمة قتل مواطنين أميركيين عن سبق إصرار وترصد ودون محاكمة. ويتعمق مازيتي في الجدل الذي دار في الولايات المتحدة، ويسرد تفاصيل القضية التي رفعها الاتحاد الأميركي للحريات المدنية إلى المحكمة الفيدرالية في واشنطن، ضد سي آي إيه.

 

 

Viewing all 248 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>