Quantcast
Channel: Inkitab Feeds
Viewing all 248 articles
Browse latest View live

نيرفانا التي يعثر عليها سدهارتا

$
0
0

ينشأ سدهارتا نشأة زاهد متعبد بين البراهميين، حيث يتتلمذ على يد أبيه التقي ويقضي أيامه في الصلاة والتأمل بصحبة غوفيندا. وهو في نظر الجميع نجم واعد وبخاصة غوفيندا الذي كان يتطلع إليه ويتبعه في كل خطوة. سدهارتا كان يلاقي القبول والإعجاب في عيون الفتيات، وقد يكون من المهم أن أذكر ذلك من باب تبيان اكتمال صفاته الجوهرية والظاهرية وهو الذي يتحول في نهاية الرواية إلى إله أو شبيه إله، ومن جهة أخرى لاعتقادي بأهمية ذلك لتفسير حب الناس له واستعدادهم لطاعته ولو جزئياً. اقرأ أيضًا: التحرر من الزمان والمكان في "لعبة الكريات الزجاجية"

 

 

يقرر سدهارتا عند رؤيته مجموعة من السامانا الحجاج تمر بالغابة أنه سيلتحق بهم، ويستبشر بالخبر تابعه غوفيندا الذي ينضم هو أيضاً إلى السامانا. والد سدهارتا يعارض رحيله مع السامانا ولكن سدهارتا يقف مكانه طوال الليل حتى ينال إذنه.

 

لا يفارق الشك قلب سدهارتا، وبعد ثلاث سنين مع السامانا، يصوم ويفكر وينتظر (ويتسول طعامه)، يكرر على مسمع غوفيندا أنه كفر بالتعاليم كلها وأنها غير مجدية، ولا يمكن أن تفسر أو تعلّم الوصول إلى النيرفانا مهما تحدثت عنه. وهنا يلتحق غوفيندا بغوتاما البوذي ويرحل سدهارتا إلى المجهول، منصرفاً عن الوعاظ ومقبلاً على نفسه التي لم يكن يعرفها.

 

توقفت قليلاً عند خيار المعلّم الثالث والأهم في حياة سدهارتا: كامالا، الغانية المشهورة التي قرر سدهارتا حينما رآها أول مرة أنها ستعلّمه الكثير، عن فنون الحب طبعاً. للوهلة الأولى بدا الاختيار مبتذل، ثم تذكرت أن الرواية منذ البداية اتخذت مساراً يبدو في ظاهره سطحياً ومتوقعاً (شاب نشأ نشأة متدينة يشعر بنقص في حياته فيبدأ رحلة البحث)، وفي واقعه عميق بالقدر الكافي لإيصال الأفكار والمشاعر التي يتبناها هيسة في هذه الرواية القصيرة عن الروحانية وماهية الإنسان والكون.

 

يتعلّم سدهارتا من كامالا ومن تاجر يعمل معه في الكتابة ثم يتوسع في عمله معه ليصبح بدوره غنياً. في البداية ظل سدهارتا يشعر بالغربة بين الناس العاديين، يحتقرهم أحياناً لمشاعرهم الوضيعة ويحسدهم أحياناً أخرى لقدرتهم على الحب والدهشة، وكثيراً ما كانوا يذكرونه بالأطفال. بعد قرابة عقدين من الانغماس في اللذات (كان يسميها سدهارتا في حياته السابقة وهم)، تحوّل سدهارتا لإنسان عادي، يغضب ويفقد صبره، يراكم المال ويسكر ويقامر وبالطبع يرتدي أكثر الثياب بذخًا.

 

ثم، وكما هو متوقع يشعر بالقرف واليأس والاقتراب من الفناء عندما يدخل عقده الرابع؛ فيهجر كل شيء حتى كامالا التي يتضح أنها تحمل ابنه في أحشائها، ويعود للنهر الذي عبره إلى المدينة عندما كان شاباً.

 

هنا يحدث الجزء الأجمل بالنسبة لي، الجزء السوريالي. يصبح سدهارتا مراكبياً يعبر بالناس النهر، ويتعلّم منه كل شيء فيضحي سعيداً لأول مرة في حياته، على الأقل حتى ظهور ابنه من كامالا، الذي لم يكن يعرف أباه وكان مدللاً معتاداً على الأمر والنهي ورفاهية حياة المدينة. جرّب سدهارتا للمرة الأولى في حياته أن يحب، وبالرغم من الألم والشقاء الذي سببه رفض ابنه له إلا أنه كان سعيداً راضياً ومصمماً على كسب وده. وبهروب ابنه عائداً إلى المدينة يعاني سدهارتا طويلاً.

 

يحاول سدهارتا شرح التحول الذي طرأ عليه لغوفيندا الذي يقابله بعد طول زمن وقد شاخ كلاهما، قائلاً إن الكلمات والأفكار هي نفس الشيء وأن الكلمات تحول ما يفكر فيه إلى أشياء سخيفة وساذجة لا يصدقها عقل ولكنه يحاول على أية حال، لإنه يطيب له أن لا تلاقي الأفكار القبول عند جميع الناس، وأنه شيء حسن.

 

يضيف سدهارتا، أن الباحث عن الحقيقة لن يجدها في حلقات الدروس، أما من يعثر عليها فيمكنه أن يختار الطريق التي يريد.

 

وفي لحظة، يقبّل غزفيندا جبين سدهارتا فيرى في وجهه العالم. أصبح سدهارتا هو الإله، ولكننا جميعاً آلهة وخطّاؤون في نفس الوقت، وفي كل لحظة نحن كل شيء، سمكة وطفل رضيع وحجر وسارق ونهر وغابة، ونحن أطفال وشباب وشيوخ، منذ البداية والزمن متصل والحيوات متصلة.

 
 

ماذا تقرأ في عيد الحب: العالم في أعين 5 شخصيات نسائية

$
0
0

يقدّم فيلم دارين أرونوفسكي "أمَ - Mother"– 2017 مرافعة خرقاء عن المرأة/الأم، التي شُوّهت صورتها تاريخيًا بواسطة الإله/الذكر. تعيش "أمّ"أرونوفسكي دور الضحية، تظهر عاجزة عن إظهار صوتها، لينتهي بها الحال وقد تمّ استبدالها بامرأة أخرى، لتعيش ذات التاريخ مرّة أخرى.

 

ثمّة أكثر من مشكلة هنا، فإن قلنا أنّ على الفن ألا ينزل ليصير خطابًا مباشرًا للدفاع عمّن يعتقد أنّهم مظلومون. فهذا الطرح في ذاته خطاب، يتوقّع صورة ما للفن، وينادي بها. وحتّى لا أنزلق أكثر فيه، ولأنّ مادّة هذا المقال هي البطلة/الأنثى في الرواية، سأتوقّف قليلًا، فاسحًا المجال للحديث عنهنّ، وفقط أرتجي ألّا يمثّل هذا العرض إضافة في خطابات الضحيّة/المُسيطر.

 

اقترب عيد الحُبّ، وقد يرغب بعضكم في قراءة شيءٍ مختلف، ولأنّ القوائم محكومة باختيار ثيمة واضحة لها، فقد وقع الاختيار على 5 شخصيّات نسائيّة مميّزة فنيًّا، مع محاولة بالانفتاح على خيارات أوسع جغرافيًا. أودّ الإشارة أيضًا، إلى أنّ عرضًا كهذا، بالضرورة مُختزِل. سواءً على مستوى العدد، أم على مستوى التقديم.

 

 

1- إيمّا بوفاري – مدام بوفاري - غوستاف فلوبير

يهرُبُ الكتّاب عادةً من الأسئلة التي تُقارب بين سيرة الكاتب وشخصيّاته، مؤكّدين على دور الخيال بالكتابة. لكنّ غوستاف فلوبير، وإن بدا ما يقوله غريبًا بدايةً، سعى للتأكيد على أنّ "إيمّا بوفاري هي أنا". وإذا نحّينا ما عاناه فلوبير من تضييق ومحاكم لنشره الرواية، فإنّ إيما بوفاري تستحقّ تصريحًا كهذا.

 

اشتُهرت بطلة فلوبير بخياناتها لزوجها الطبيب شارل بوفاري، عن حنينها لشيءٍ أكبر، لا تملكه، قبل أن يدخل في حياتها ليون، ثمّ رودولف، الذي صاحت بعد معرفته: إنّ لي عشيقًا.

أجاد فلوبير التقديم لشخصيّته، الراهبة المفتونة بأبطال الروايات الكلاسيكيّة، التي تنفرُ من المناظر الريفية، وتتوق دومًا لأبعد، كأنّ فيها شيئًا من بيت المتنبّي: حتّام نحنُ نساري النجم في الظُلَمِ ... وما سُراهُ على خُفٍّ ولا قدمِ"

 

 

2- ليدي مكبث – مكبث – شكسبير

يحاول شكسبير في مسرحيّته هذه أن يقبض على لحظة التحوّل من الخير إلى الشر عند مكبث. ويتبدّى ذلك في مشهدين؛ الأوّل حين تتنبأ الساحرات الثلاث لمكبث بالمُلك، والثانية في اللحظة التي ينقل فيها مكبث هذه النبوءة إلى زوجته.

لا نعرف الكثير عن ماضي الليدي مكبث، لكنّها تستجيب فورًا لهذه النبوءة التي طرحها مكبث أرضًا في البداية، وبسرعة بالغة، تكشف عن خطّة متكاملة لقتل الملك دنكن.

رغم ما تبديه الليدي مكبث من ثباتٍ في الموقف على عكس زوجها الذي يأكله الإحساس بالذنب، فإنّ ثمّة إشارات في المسرحية، مثل مشهد مشيها أثناء نومها، إحساسها المتأخر بالخوف من العتمة، والغموض المُصاحب لطريقة موتها، يجعل منها شخصيّة أكثر فتنة، أعند من أن تُظهر الندم أو الذنب، فتظلّ عصيّة في قوّتها وضعفها.

 

 

3- سارة – أنا سارة، سارة أنا – ربيع علم الدين

يقدّم ربيع علم الدين في روايته هذه، شخصيّة بالغة الجمال. تردُّد سارة، إقبالها وإدبارها، ينعكس ببراعة في التقنية التي كتب بها الكاتب روايته (أو الرواية التي تكتبها سارة)؛ فكلّ فصلٍ في هذه الرواية هو الفصل الأوّل، أو محاولة إعادة كتابة الفصل ذاته.

سارة، التي أخذت اسمها من الممثلة الفرنسية سارة برنار، فنّانة لبنانية تعيش في أمريكا. نعيش معها علاقتها المتردّدة مع أهلها في لبنان، مع أمّها التي تعيش في أمريكا أيضًا، مع ابنها المراهق، ذكرياتها عن الحرب الأهلية، وإصرارها على الكتابة.

 

 

4- يارا – سنة الراديو – رينيه الحايك

تبدو الرواية، للوهلة الأولى، مسلسلًا لبنانيًا يثرثر عن علاقاتٍ لا معنى لها. لكن، ما أعطى للرواية نفسًا آخر، أحالها من مجرّد مسلسلٍ فارغٍ، إلى رواية مهمّة، هي شخصيّة"يارا".

ثمّة، في شخصيّة يارا، رغبتان حادّتان ومتضادتان في نفس الآن: رغبة بتدمير الذات، ورغبة بحيازة كلّ شيء، ما جعل منها شخصيّة مركّبة، أو لنقل بوجهين، فهي قد تكون باهرةً على الورق، لكن ربّما ستشتمها لو صادفتها في الواقع.

 

 

5- فسون – متحف البراءة – أورهان باموق

في روايته قبل الأخيرة، يقدّم أورهان باموق، شخصيّتين نسائيتين، الأولى سيبيل، خطيبة كمال المُنحدرة من طبقة برجوازيّة، وقريبته فسون الفقيرة. يدّعي كمال سروره بعلاقته مع سبيل، قبل أن يلتقي بفسون، البائعة في محلٍ لتقليد الماركات العالميّة. ينقلب كيانه بعدها، مكرّسًا حياته للحظات الفرح التي يسرقها مع فسون. فسون، تلتقي مع إيما بوفاري بتوقها لما هو أكثر، راغبة بأن تحوز أكثر من المُتاح لها، لكنّها تفترق معها بهوسها بحيازة كلّ شيء أو لا شيء. تحضر حفل خطوبة كمال على سبيل، لتختفي ما يقارب السنتين بعدها، رغم وعدها كمال أن يلتقيا، كما اعتادا بعد خطوبته. وتكمل على هذا الحال من الظهور والغياب، كأنّها سرابٌ، لولاه، لما أكمل الظمآن البحث عن الواحة، حتّى نهايتها التراجيديّة.

أنشأ أورهان باموق مُتحفًا حقيقيًا، كما ذلك المذكور في الرواية، للأشياء العاديّة التي احتفظ بها كمال من وراء فسون. وإن بدا هذا الفعلُ سالبًا لوجودها، جاعلًا إياها موضوعًا لا أكثر، فإن حقيقة أنّ هذه الأشياء تخصّ امرأة بعينها، هي فسون، تلغي الفكرة السابقة، مثبّتًا صورة واحدة على جدار المُتحف، هي صورة فسون.

 

وعي المُجتمعات؛ الطريق الأمثل لإسالة الأفكار

$
0
0

 

سؤال مُباغت : أيهما أنفع للإنسان الماء أم بخاره؟
جواب سريع : بالطبع الماء!
رغم أنه لا يخفى على أحد فوائد بخار الماء إلا أن الإجابة السريعة اختارت ما يلامس حياة الناس بصورة مباشرة وقريبة، وإن جاز لي أسقطتُ الماء وبخاره على التطبيق والفكرة، أو النتيجة والسبب، وسألت نفسي وإياكم أين نفقد الحلقة دائمًا بين الأفكار وحركتها؟ وهل تكفي الفكرة فقط لتصنع تغييرًا في الواقع؟

يقول مالك بن نبي: إن الفكرة تفقد فاعليتها بدون بعض الشروط النفسية والاجتماعية التي أجملها في معرفة المستوى الحضاري والثقافي في المجتمع، ويضرب مثلًا عدم الاستفادة من التراث الخلدوني لعدم تناسق الأفكار مع الواقع المجتمعي في حينه، ومثال آخر جميل حين يتسائل عن النتيجة حال وقوع التفاحة على رأس جد نيوتن الذي عاصر عهد جيوم الفاتح بدلًا عنه؟، (كتاب مشكلة الثقافة )
يقول د. علي شريعتي: "الأيديولوجيون هم دومًا أصحاب التضحيات والجهاد العظيم في تاريخ البشرية، بينما الفلاسفة هم وجوه التاريخ الكُسالى"كتاب الإنسان والإسلام، وهنا يتكلم عن التحول الحركي للالتزام السياسي والفكري وانتقاله إلى دور المسئولية المجتمعية، ليس قدحًا في الفلسفة ولكن حتى يلمس كل فردٍ في المجتمع  نتاج الفكرة وفلسفتها؛ فالأيديولوجيا عقيدة وحركة تعمل على التغيير بدلًا عن تمثيل دور المرآة العاكسة للواقع فقط، وشريعتي له بصمته الفكرية النظرية المؤثرة في تفكيك الاستلاب الثقافي.

لكن هذه الأفكار كانت وما زالت تنضح حيويةً بفعل إسالتها بواسطته والنزول بها إلى أرض الواقع في التعيينات الاجتماعية والإنسانية حتى تسهم في تفسير وتغيير الواقع المُعاش، فلم يُعرف عنه التعري عن أعباء المجتمع والتاريخ والهوية، رغم نعته لها بالسجون إذا ما حوّلت إلى أصنامٍ تُعبد أو تُرجم، توصل شريعتي لهذا عبر قراءة التاريخ بذات الكيفية الواقعية وتجريد شخصياته وأحداثه من بُعدها الأحادي والنزول بها إلى المسار الفكري السليم، حتى تُصبح قاعدة  انطلاق  تأسيسية؛ فيرفض مثلًا  بصورة رمزية نموذج الحلاج ،ليس في قيمته الصوفية الزاهدة وإنما فكرة الذات الإنسانية الغائبة والمتنصلة من مسؤولياتها، كما يرفض نموذج ابن سينا العالم الضليع، ليس تبخيسًا لدور العلم والعلماء وإنما فكرة التقية العلمية وما صحب برجوازيتها من انحطاط قيمي وأخلاقي تجاه الإنسانية، وتهرُب  من المسؤولية تجاه المجتمعات المتأخرة التي سقطت ضحية الجهل والفقر والاستغلال الطبقي مع الاستعمار الجديد.
ودونهما ينتصر شريعتي للشخص العادي من عامة الناس المتمثل في شخص أبا ذَر الغفاري الصحابي الجليل، الذي ناضل من أجل قضيته بقلبه وجوارحه، باعتباره النموذج المتكامل الفكري والعملي لخدمة الإنسانية، واتخذه مثالًا رمزيًا للمثقف والمفكر الملتزم، الذي لا يقف عند فهم المشكلات وإنما يسعى لتقديم أفكار الحلول وآلياتها، وهنا نفهم من التاريخ أثر الروح والاعتقاد في تحريك الفرد.

يتخذ شريعتي هذه النماذج ليجعل الواقع مشتبك مع التاريخ وليس قافزًا عليه، إذ بهذه الصورة المجازية يعمل على تلخيص ما آلت إليه الأمة من حالة انفصال وغربة عن روحها، ويؤسس مركزية مهمة تدعو إلى العودة إلى الذات، إلى جوهر الحضارة وصياغة حلول مناسبة لانتكاسات الحاضر، (الوجود الحقيقي للمجتمع مرتبط بأن يفكر بنفسه ويخلق بنفسه، مثله وذهنه وقيمه وفنونه ومعتقداته وإيمانه ووعيه الديني ونظامه الطبقي واتجاهاته الاجتماعية) العودة إلى الذات، ولكن أي ذات تلك التي يعنيها؟

نقطة انطلاقته  من طرح إسلامي بعيد عن التقليد الوراثي أو النظم الشعائرية وإنما فكر أيديولوجي بمسؤولية اجتماعية تغييرية يعمل على إخراج المجتمع المسلم من الجمود والجهل، من خلال إمكاناته؛ فالعودة للذات ليست تراجعًا خلفيًا بل رؤية للتقدم بفهم الماضي والتاريخ، بهذا الاختزال الكبير لمنظومة شريعتي الفكرية الإنسانية، أردتُ الوصول لتركيزه على بناء الذات وإخراج مكنونات الإنسان، أو كما يطلق عليها الفيلسوف البريطاني راسل "الميول"وهي تلك الدوافع الغريزية ذات التأثير الأكبر في حياة الإنسان مقارنة بتأثير القصد الواعي ويمكن التعبير عنها بالرغبة في الإبداع على عمومه.

أما مالك بن نبي ورغم التعددية التي اتسم بها مشروعه الفكري إلا أنّ المشترك عنده هو المشكلات الإنسانية في إطارها الحضاري الواسع وتحديد العناصر الأساسية في الإصلاح الذاتي، فمقولته الشهيرة: (إن الإنسان إذا تحرك، تحرك المجتمع والتأريخ وإذا سكن، سكن المجتمع والتأريخ)، بها رمز لدور الإنسان وفاعليته في التاريخ الحضاري لأي مجتمع باعتباره العنصر الوحيد الذي يمتلك إرادة تعمير الأرض وتسخير الوقت، ( تأملات لمالك بن نبي)
لذا بناء الإنسان عنده له الأسبقية وكيفية البناء تعتمد على توظيف نتائج العلوم الإنسانية لصياغة معادلات النهضة، وليس برفع الشعارات والإنتصار الكاذب للذات وإنما تحريك واقع الإنسان المسلم بإستراتيجية عملية، فيقول : (الذي ينقص الإنسان المسلم، ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلامًا مُجردًا).

يرى بن نبي أن افتقاد الأفكار ليس لعدمها وإنما لأن المجتمع يهتم بتكديس الأشياء ويغفل عن الجانب المهم المتعلق باكتشاف الطاقات الخلاقة داخل الأنفس فضلًا عن استثمارها وتوجيهها كأهداف وهذه من وجهة نظره مشكلة حضارية، لا يمكن حلها إلا بالارتفاع الفكري والعملي إلى الأحداث الإنسانية.

يُرجعنا بن نبي أيضًا إلى التاريخ وبذات الفكر عند شريعتي للاشتباك معه فيقول: (لعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا) شروط النهضة،
فهو يرى من المحتم علينا في حلّ المشكلات الاجتماعية أن ننظر مكاننا في دورة التاريخ الأساسية لحضارتنا وعندها نستطيع معرفة المقومات الفعلية للنهضة والبناء بالقياس المرحلي 

 

شريعتي وبن نبي، رغم تباين المرجعيات الثقافية لأفكارهما التقيا عند نقطة واحدة ،وهي النزعة نحو ترقية الإنسان كشرط للتغيير وإن اختلق مسار توجهها ، بمعنى قيمة وحقيقة وكرامة الإنسان ،ووجود ذاته وفعاليتها  بصورة مُستقلة ،

فهل نكون قد وجدنا جزءً من حلقتنا المفقودة لإسالة الأفكار من صورتها الغازية حتى تُصبح ماءً، به ترتوي نهضتنا؟

برتراند راسل يرى أن إطلاق الميول الإنسانية بصورة حرة غير مقيدة، من شأنه أن يخدم السلام والإعمار فذات الرغبات في الإبداع قد تتحول بفعل ظروف معينة إلى رغبات في التدمير والخراب، وبما أننا نشهد الآن كثير من الدعوات نحو الإصلاح الفكري وبما أن الإصلاح لا يمكن رؤيته إلا من خلال مجتمع راشد فهل فطنت كل النُخب لضرورة تضمين الإصلاح المجتمعي لخططها تحت الدراسة وهل انتبهت المجتمعات أن وعيها دليل عافية ضرورية لرفع العبء عنها؟

 

المرأة توظف التطريز الفلسطيني في السينما والفن التشكيلي والكتب

$
0
0

 

قد تخصص مراجعتنا هذه لتشمل في السياق فلسطين، ونتناول هنا الجزء الأكثر أهمية في التراث الفلسطيني ألا وهو التطريز الفلاحي والثوب الفلسطيني. ولكن هذا الطرح الخاص بفلسطين لن ينفي أهمية أعمال فنون التطريز وأشغال الإبرة اليدوية في البادية والريف والحضر في العالم العربي. حيث اشتهرت كل النساء العربيات بفن الحياكة والتطريز وفنون القطبة تحيك خيوطها غرزات خاصة لكل بلد.

 

التطريز في فلسطين

منذ البدايات يعتبر التطريز أقدم أشكال الفن. فقد ولد مع ميلاد هذه الأرض وواكب كفاح المرأة الفلسطينية، وبقي تاريخها الخاص وعملية تأريخ الزي الفلسطيني التقليدي إبداع خاص يعبر عن رحلة طويلة وموروث ثقافي؛ كل غرزة حدوتة وقد تكون الغرزة سبقت الحدوتة.

 

بحسب سميح حمودة المؤرخ والباحث من جامعة بيرزيت يقول: "يعبِّر التطريز الفلسطيني عن مكوِّن من مكونات الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، فهو أولاً امتدادٌ لفن عريق عرفته فلسطين منذ مئاتٍ من سنين الاستيطان البشري فيها، فهو يعكس ميزة الثقافة الفلسطينية التي هي مزيج متجانس من ثقافات الشعوب المختلفة التي جاءت لهذه الأرض وسكنتها. لذا نجد التطريز الفلسطيني يختلف عن التطريز عند الشعوب الأخرى في المنطقة، التي لم تعرف التنوع والامتزاج الثقافي الذي عرفته فلسطين. من ناحية أخرى، فإنّ التطريز الفلسطيني يعكس علاقة الفلاح الفلسطيني بالأرض، ففيه الوردة وفيه السنبلة وفيه الشجرة وفيه ورقة العنب، وفيه ألوان الطبيعة المختلفة، فهو تعبير عن تعلق الفلسطيني ببيئته الطبيعية، وبما تحويه من جمالٍ في الألوان والأشياء".

 

الثوب في الأغاني والأشعار

فعلاً كما قال حمودة: "هو امتداد لفن عريق عرفته فلسطين"، ترثه الحفيدات عن الجدات. يظهر هذا جلياً في كثير من الأشعار والأغاني الشعبية الفلسطينية والمساهمات حول ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، إنما ساعدت على تعزيز هذا الموروث وإبراز أهميته.

 

وما كلمات أغنية (ستي إلها ثوب وشال) كلمات خالد جمعة وألحان سهيل خوري إلا نموذج على ذلك، انتشر بسرعة البرق في فضاء الشبكة العنكبوتية في خلفية الفيديو صور لفلسطينيات يرتدين الثوب والأغنية تحاكي مشاعر الحفيدة وتقديرها الكبير لقصة ثوب جدتها الذي حيك هناك في البلاد، والقطب المطرزة عليه وكلمات تعزز أهمية توارث الثوب من جيل إلى جيل:

 

"ستي إلها توب وشال عالتوب مطرّز غزال جنبه ورود وسنابل من حواليها سبع جبال

يا ستي توبِك محلاه تسلم إيد اللي سواه قالت طرزتو بايدي في كرمتنا البعيدة

طرزتو غرزة غرزة ولبستو ليلة عرسي هذي الغرزة من يافا وهذي الغرزة من غزة

والشال اللي ع كتافي حريرو برضو صافي لو ياستي أحكيلك طول العمر مش كافي

وعرفِت ياستي ليش شالِك عليكي غالي وصارو شالك مع توبِك أغلى عليّة من حالي"

 

 

التطريز في الأفلام الوثائقية

في الحقيقة هذه المقالة ليست بالسباقة بأي شكل من الأشكال بل على العكس؛ فهناك عشرات من المقالات ومئات من الأبحاث والدراسات ورسائل الماجستير والموسوعات الفلسطينية كلها تصب حوله، ولكن الدافع وراء كتابة هذا المقال هو عرض الفيلم الوثائقي "خيوط السرد "للمخرجة كارول منصور (2017). هذا الفيلم المحلق بالأجواء العربية والعالمية على السواء رسم فلسطين من خلال 12 امرأة فلسطينية. أمام الكاميرا، تستعيد النساء حياتهن قبل الاحتلال، حياتهن الحالية، أحلامهن وفلسطينتهن التي تربطها شيئاً فشيئاً خيوط من فن التطريز القديم. ما بين العشق لبلدهن وقصصهن معه قبل الانسلاخ عنه بفعل الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 وتراث التطريز الذي يعتبرنه أحد عناصر المقاومة ويشددن على الحفاظ عليه كجزء من الحفاظ على تراثهن: « "أمي كانت دائماً تبكي"و كما قالت الأخرى بأنها "وعدت سيدة أهدتها الثوب الفلسطيني وعدتها بألا تلبسه إلا لما تتحرر فلسطين".

(المصادر: عدة صحف ومواقع عربية)

 

حول الفيلم الذي عرض في دبي تحدثت مع إيناس قوّاس، وهي فلسطينية ولدت وعاشت خارج فلسطين تقول: "فيلم "خيوط السرد"تركني مع خليط من المشاعر. أولها فخري بهذا الشعب الذي يعكس علم وثقافة عالية ورقي في التفكير وأهمية العلم عنده التي تجسدت من خلال الفيلم مع شعوري بالحزن بأننا فعلاً شعب الشتات، وكلّ رواية لها حكاية خاصة حول ارتباطها بالأرض والتطريز، إحساسي بالذنب لعدم إدراكي لأهمية التطريز في قوميتنا وما يحمله في كلّ نقشة وفن و خيط من معانٍ وأحزان".

 

 

التطريز في الكتابة

التطريز فن يفرض نفسه بشكل عفوي، ولأنه مرتبط بالذاكرة ويترك بصمات على الشخصية الفلسطينية ونقطة وصل بين الماضي والحاضر. فتراه يخرج في المذكرات والكتب والسير الذاتية وأثناء التوثيق. وسنتناول هنا على سبيل المثال لا الحصر عدة نماذج: ففي كتابها "مسيرة أمل، خواطر من فلسطين؛ 2014[ باللغة الانجليزية] للكاتبة الفلسطينية سامية ناصر خوري (مراجعة رقية العلمي 5 ابريل 2015 ملتقى المرأة العربية):

 

تنحدر سامية من عائلة ناصر العائلة الفلسطينية من قرية بيرزيت، والتي قامت على تأسيس جامعة بيرزيت من مدرسة إلى كلية ثم إلى جامعة. نال التطريز حظه في تَذْكَارَاتها عن روب التخرج لطلبة جامعة بيرزيت. تقول في السياق: "حفل تخرج أول فوج جامعي من جامعة بيرزيت في العام 1976، ولأهمية الحدث -تخريج طلبة من فلسطين- على ترابها وعلى أرضها كان لا بد من إعطاء الطابع الفلسطيني وترسيخ أصالته وهويته بتصرف في هذا الحفل، فقمت بتصميم روب التخرج وعليه سنابل القمح وقامت بحياكة التصميم فتيات من جمعية انعاش الاسرة وخرج الروب مزين بالتطريز وما زال بنفس النمط حتى يومنا هذا".

 

 

الدكتورة عايدة النجار في كتابها "لفتا يا أصيلة :خريفية قرية"، أفردت صفحات عن الثوب الفلسطيني التقليدي المطرز والمعروف” بالثوب الفلاحي “: "ويتميز بجماله ورموزه ولأن يحمل الهوية الأصيلة التي ما زالت حية منذ لبسته الجدات الكنعانيات قبل آلاف السنين. بقي له منزلة خاصة لأنه يرمز للأمهات اللواتي طرزنه باليد بالخيط والإبرة، وبألوان الفرح المنقولة عن الأرض الفلسطينية الطيبة". كما خصصت في كتابها "القدس والبنت الشلبية"فصلاً كاملاً عنوان "ثوب القروية الشلبية"يفصل كل ما يخص التطريز وفنه وأدواته وإتقان المرأة لهذا الفن وألوان الخيوط وكلّ ما له علاقة حول ذلك في منطقة القدس وقراها. فتقول النجار: "إنه التاريخ والبيئة والحياة والمرأة الفلسطينية ومن يحب الجمال من يحافظ على هذا التراث الغني والثمين، فلنفتخر به ونحافظ على روح الجدات الجميلة".

 

 

شخصياً أنا لا أحب لا أن اقتبس من كتاباتي، لكني لم أكن بمنأى عن هذا التوجه. وأنا أيضاً لا أحب التطريز فحسب، إنما أتقن فنه وحملت معي خيوطه إلى المغترب. في قصة "رضينا بِالهم: (جريدة القدس 15 مارس 1992 رقية العلمي) أمينة الفلاحة التي تعيش في بيت بسيط في قرية فلسطينية صغيرة تعتاش من التطريز في السياق وصفت التطريز: "ورسومات تخطها بخيوط كادت تعمي عينيها فمرة ترسم عصفورا ومرة وردة مرة تطرز الميزان ومرة شجر السرو، كانت أجمل ما تطرز رسمة المكتوب وهي فعلاً على شكل مظروف تتخيله من خالها المغترب: تفتحه... تقرأه ...لتسعد أمها بكلماته لكنها تشده فأذا هو قماش رخيص".

 

 

التطريز وتوثيق التراث:

تجتمع النسوة للتطرير والفضفضة فيما بينهن تمشي الأبرة سريعاً فتخيط الأخبار والكلام. ومن المناظر المألوفة في فلسطين نساء يجلسن داير الدور يطرزن طول اليوم لحين غروب الشمس يتوقف التطريز.

من الأهمية بمكان أن لا ننسى شريحة كبيرة من النساء وثقن كل ما يتعلق بذلك الفن وأتت فكرة جمع تاريخ التطريز بكل مكنوناته كشكل من أشكال ترسيخ الهوية. فخرجت عشرات الكتب مثل كتاب "التطريز الفلسطيني لوداد قعوار وتانيا ناصر"، كذلك مها السقا التي جمعت الكثير من الأثواب والقطع المطرزة وضمتها إلى مجموعتها التراثية وسميحة خليل من جمعية إنعاش الأسرة، قامت على تأسيس مركز للأبحاث الفلسطينية متفرع من جمعية إنعاش الأسرة وكان باكورة نتاج المركز مشروع توثيق التطريز بكل جوانبه فتكاتفت الجهود الاكاديمية والبحث الميداني لجمع كل ما يخص هذا، فأنتشر الباحثون في جميع أرجاء الوطن وجمعوا شفاهياً قصة كل عٍرق وتاريخ ألوان الخيوط ووثقوا كل غرزة خاصة بالقرى والمدن ومضارب البدو، وسُخرت الشرائح الثقافية للمساعدة وكتابة هذا التجمع، ونتج عن ذلك موسوعتين الموسوعة الأولى "الأزياء الشعبية الفلسطينية"والثانية "دليل فن التطريز الفلسطيني"حيث ساهم مثقفون وفنانون في تحرير وجمع هذا المخزون الثقافي هؤلاء مؤرخون خصصوا حياتهم لإنقاذ هذا التراث من الاندثار.

 

 

التطريز والثوب الفلاحي في الفن التشكيلي الفلسطيني

ركزت الفنانات التشكيليات في فلسطين والمهجر على الثوب الفلسطيني وظهر التطريز جلياً في اللوحات والجداريات والأشغال اليدوية الفنية الأخرى فمعظم اللوحات تتجمل بالمرأة وهي ترتدي الثوب المطرز:  على سبيل المثال لا الحصر أعمال الفنانات: سامية الزرو وفيرا تماري وتمام الأكحل وفاتن طوباسي وغيرهن.

 

لماذا الغرزة التراثية وملابس الفلسطينية المطرزة يظهر جلياً في رسومات وإبداعات الفنانات الفلسطينيات؟ طرحت هذا السؤال على الرسامة الفلسطينية شيماء الفاروقي، وهي نفسها تمرر ريشتها وتبرز التطريز في لوحاتها، حول ذلك قالت:

 

 

"تركز الفنانات التشكيليات في فلسطين ، على إبراز التطريز الفلاحي.لأن الفنانة الفلسطينية ابنة بيئتها والتطريز من الأمور المهمة جداً لما له من انعكاس لتراثها وحضارتها وتشبثها بالوطن المسلوب، خاصة وأن تراثنا وثقافتنا تتعرض لهجمة كبيرة من قبل العدو الصهيوني حتى أنهم في بعض الأحيان ينسبونه لهم كما ترى تمسك المرأة الفلسطينية بهذا الثوب الذي ينسج بأنامل فلسطينية واقتنائه يعد مهم جداً وسعره مكلف نظراً لأنه يطرز يدوياً، وأخيراً إن التطريز هو رمز فلسطيني فمجرد وضعه في اللوحة يعني الكثير من ناحية وطنية، ثقافية، وتراثية".

 

 

أقول لكم: هذا قليل من كثير والحديث عن توظيف المرأة في إبداعاتها لإبراز مثل هذا الفن لا يعني نفيه في الفن التشكيلي ككل، واذا كان تجسيد التطريز والثوب في اللوحات الفنية مسألة أساسية لا يجعلنا نغفل هذا التوظيف الذي يبرز بشكلٍ واضح في أعمال الفنان والمبدع الفلسطيني أيضاً لأنه القاسم المشترك للذاكرة الثقافية. والتطريز بزخارفه وألوانه وأشكاله هو مسألة إنتماء وحلقة وصل بين الداخل والخارج وفي كل أنحاءفلسطين وفي المهجر. ونشره في الفضاء الرقمي بصورة جلية وبكثافة جعل الغرزة تفرض نفسها في كثير من المجالات لا لشيء إلا أنه يأتي ضمن الحفاظ على التراث الشعبي من الاندثار والضياع ويصب في تأصيل الهوية الوطنية وما هذا النتاج الفني الذي يدور حول الفُلك  إنما يأتي بشكل تلقائي وعفوي فيفرض مقولة طالما رددها لنا السلف: [لكي لا ننسى]!

 
 

لماذا فكّر الصحفي الحائز على جائزة إيمي باري بيترسن بالانتحار؟

$
0
0

في عام 1994، حصل الصحفي باري بيترسن مراسل قناة CBS الأمريكية على جائزة إيمي، عن تقريره المعنون "روح سراييفو"، والذي عُرض في البرنامج الأسبوعي "صباح الأحد". في أواخر عام 2008، اتصل بيترسن بمعالجه النفسي، وطلب منه أن يحدد له موعداً طبياً ليناقشا موضوع تخطيط بيترسن للانتحار. وفي عام 2010، حصل بيترسن على جائزة إيمي ثانية عن تغطيته الصحفية للركود العالمي في الصين.

 

يبدو الأمر كاللغز. من هو باري بيترسن؟ وما الذي أوصله من قمة النجاح إلى حافة الانتحار؟ وكيف استعاد تألقه بعد ذلك؟

 

قبل أن نكشف ما حدث بالتفصيل سنتحدث قليلاً عن جوائز الإيمي. فخلافاً لما يعتقده الكثيرون، لا تقتصر جوائز الإيمي على المسلسلات التلفزيونية فحسب، وإن كانت هذه الأخيرة تحظى بالتغطية الإعلامية الأوسع. والحقيقة هي أن جوائز الإيمي تمنح في 29 بنداً رئيسياً، يندرج تحت كل منها عدة بنود فرعية، وبالطبع تتعلق كلها بالإنتاج التلفزيوني، فهذا هو المحور الذي تدور الجائزة حوله.

 

فجوائز الإيمي لا تُمنح للممثلين والمخرجين والكُتّاب فقط، بل أيضاً للمنتجين ومقدمي البرامج التلفزيونية على اختلاف أنواعها: إخبارية، رياضية، كوميدية، وثائقية، برامج الصباح المطولة، وأيضاً لصناع برامج الرسوم المتحركة التلفزيونية، وكذلك للبرامج التي تُقدّم على الهواء مباشرة، كالمسابقات وغيرها. ما يهمنا هنا هو الجائزة التي تُمنح للتميز في التقارير الإخبارية التلفزيونية.

 

باري بيترسن، الصحفي الأمريكي من أصل دينماركي، عمل لمدة ثلاثة عقود متواصلة، مراسلاً لقناة CBS الأمريكية، أجرى خلالها مقابلات مع العديد من المشاهير من أهمهم الممثلان بيرس بروسنان وأنتوني هوبكنز. أما الحادثة الأكثر طرافة في عمله فهي إجراؤه مقابلة مع رئيس جمهورية كيريباتي، الذي لم يجد حرجاً في إجراء مقابلة تلفزيونية لمحطة عالمية هامة دون أن يكلف نفسه عناء انتعال حذاء في قدميه العاريتين.

 

في عام 2007، عُرض أحد التقارير التلفزيونية القديمة التي قام باري بيترسن بإعدادها زمن الحرب الأفغانية السوفييتية، في فيلم Charlie Wilson’s War، وهو فيلم درامي كوميدي من بطولة الممثل توم هانكس والممثلة جوليا روبرتس، ومن إخراج مايك نيكولز.

 

منتصف العام 2010، أصدر باري بيترسن كتاباً يحوي جزءاً من مذكراته بعنوان Jan’s story. "جان"الوارد اسمها في عنوان الكتاب هي زوجة بيترسن المخلصة، التي عملت أيضاً صحفية لبعض الوقت في بدايات شبابها، قبل أن تصاب بمرض خرف الشيخوخة ألزهايمر وهي بعد في الخامسة والخمسين من عمرها، رغم أن والدتها ما تزال على قيد الحياة، وتتمتع بصحة جيدة.

 

في كتابه المكوّن من 24 فصلاً، يقصّ بيترسن العديد من ذكرياته الجميلة مع زوجته، التي كانت مفعمة بالحيوية وحب الحياة، ومحبة للمغامرة، ومضيافة. عاش الزوجان متنقلَين بين مدينتَي طوكيو وبكين، حيث أن عمل بيترسن كان يتطلب ذلك. وطوال تلك السنوات، كانت جان متكيفة مع الوضع، رغم صعوبة العيش في مدينة لا تتقن لغة أهلها، والتغير المستمر في العملات.

 

في أيلول عام 2005، بدأت تظهر بعض الأعراض الغريبة على جان، كالنسيان المفاجئ. وبعد مراجعة الطبيب المختص، شُخصت بالبداية المبكرة لمرض الألزايمر. يورد بيترسن في كتابه رسالة أرسلتها "جان"بنفسها لأصدقائها عبر الإيميل تخبرهم بالنبأ، حيث كانت ذاكرتها ما تزال جيدة نسبياً. تقول "جان"في رسالتها:

 

"لقد تمّ تشخيص حالتي بالبداية المبكرة لمرض الألزايمر. لا أعرف كيف حدث هذا لي أو لماذا.. فهو ليس مرضاً متوارثاً في عائلتي أو ما شابه، ولهذا فلا أستطيع أن أستوضح سبب إصابتي به".

 

 

يصف بيترسن بمرارة شديدة معاناته مع فقد زوجته الحبيبة تدريجياً، والأعراض المفصلة لمرضها، وكيف أتعبته رعايتها صحياً ونفسياً، حتى ألجأته إلى التخطيط للانتحار رغم كل نجاحاته المهنية وثرائه المادي. وفي مقدمة كل فصل من كتابه، عمد بيترسن إلى إيراد فقرة من موقع جمعية ألزهايمر، تصف بدقة وبالتتابع مرحلة من المراحل السبع لتطور المرض، والأعراض المتوقع ظهورها على المريض في هذه المرحلة.

 

في كتابه، يقول بيترسن:

"على مرّ السنوات، حاول الأطباء وأصدقائي وابنتاي مساعدتي لأتفهّم أنني أفقدها. ترى هل استطعت أن أحافظ على عقلي؟ أدركت أنني في ورطة عندما أعطاني المعالج النفسي رقم هاتفه الخاص، وقال لي أن أتصل به عندما أحتاج ذلك، فناقشنا موضوع الانتحار، انتحاري أنا".

 

 

رغم أنه فعل كل ما بوسعه للعناية بها، حيث قرأ العديد من الكتب والمقالات، ولجأ لاستشارة الأصدقاء، خصوصاً ممن مروا بتجارب مشابهة، ولجأ أخيراً للاستعانة بمانحة رعاية متخصصة ومقيمة، إلا أن كل ذلك لم يُجدِ نفعاً ولو حتى في تأخير أعراض المرض، ولم يفلح أي نوع من الأدوية في إيقاف تقدّم المرض، فتطور بسرعة مخيفة، وكان الحل الوحيد بعد ثلاث سنوات هو إيداع جان في مصحة متخصصة لرعاية المسنين، رغم التكاليف الباهظة.

 

لكن نقلها إلى المصحة لم يعنِ نهاية المتاعب، فقد أصيبت بالتهاب في القولون، ونُقلت إلى المستشفى، لكنها هناك ذُعرت بسبب عدم قدرتها على التعرف على المكان، فنزعت الأنابيب الوريدية وحاولت الهروب. فاضطرت أمها بنفسها أن تطلب من المسؤولين إلغاء الجراحة وإعادة ابنتها إلى المصحة، حتى لو عنى ذلك أنها ستتوفى قريباً.

 

في خريف عام 2009 ، استطاع بيترسن أن يتجاوز أزمته النفسية، فانتقل عائداً إلى الولايات المتحدة  ليبدأ بداية جديدة وعلاقة جديدة، مع سيدة كانت من الحكمة بحيث تقبلت وجود "جان"في حياتهما، حتى أنها كانت تذهب بنفسها مع "بيترسن"لزيارتها في المصحة.

 

جدير بالذكر أن المذيعة إيميلي سميث من قناة CBS، بعد صدور الكتاب بأسبوع واحد، أجرت مقابلة قصيرة مدتها ثماني دقائق مع بيترسن، ضمن فقرة Up to the minute للحديث عن كتابه، حيث رافقت كاميرا البرنامج، بيترسن، أثناء زيارته لزوجته في المصحة. والمقابلة متوفرة على موقع يوتيوب لمن يرغب بمشاهدتها.

 
 

لماذا نقرأ؟ أهم الأدباء يجيبون

$
0
0

 

"في كل مرة أعاود فيها النظر إلى الماضي أتعجب من تلك القدرة التي يمتلكها الأدب ليمنحنا بقراءته الحياة. ولو عدت الآن إلى صغري ووجدتني كما كنت حينها أحاول أن أفهم معنى وجودي في هذا العالم ، لفعلت مجدداً ما فعلته حينها  ممسكة بكتاب ومقبلةً على القراءة." 

مايا أنجلو

 

"ما من يوم من أيام طفولتنا نعيشه بحق كذلك اليوم الذي نقضيه ونحن بصحبة كتاب نحبه"

مارسيل بروست

 

 

"إن أكتفيت بقراءة ما يقرؤه الآخرون، فستفكر حتماً كما يفكرون"

هاروكي موراكامي

 

 

"الكتب التي أحببتها في طفولتي كانت  حبي الأول، لقد قرأتها مراراً حتى تغلغلت بداخلي"

دونا تارت

 

 

"أؤمن أن كلا من القراءة والكتابة من أكثر أساليب التأمل المكتشفة التي تحمل فائدةً وقيمة. فحين نقرأ للعقول الأكثر تفرداً وتميزاً على مر التاريخ فنحن كمن يمارس التأمل بصحبة عقله وعقولهم. هذا بحد ذاته أراه معجزة."

كيرت فونيجيت

 

"إن ظل استهلاكنا للكتب متدنٍ كما هو حاله الآن، فأقل ما يمكننا فعله هو الاعتراف بأن سبب ذلك يعود إلى أن القراءة أصبحت الوسيلة الأقل جاذبية في قضاء الوقت؛ فهي ليست كاللعب مع حيوانك الأليف أو مشاهدة فيلم في السينما أو الذهاب إلى الحانات. هذا كل ما في الأمر وليس كما يدعون بأن اقتناء الكتب أو استعارتها أمر مكلف مادياً."

جورج أورويل

 

 

"علينا أن نقرأ لنمنح أرواحنا فسحة من المتعة الفارهة"

هنري ميلر

 

 

"لا شعور يضاهي ذلك الذي تشعر به حين تذهب إلى سريرك وأنت تعلم أن كتاباً جيداً في انتظارك."

فلاديمير نابوكوف

 

"كأي شيء آخر فإن الممارسة هي من تصقل مواهبنا في القراءة والكتابة. إن لم نملك اليوم جيلاً شاباً من القراّء والكّتاب فَلَن نملك في المستقبل مثقفين كبار. وستموت الثقافة والديموقراطية معاً؛ إذ أن حياة كل منهما مرتبطة بالآخر."

مارجريت آتوود

 

"ما من سبيل لتحمل الوجود في هذا العالم إلا بالغرق في الأدب، فهو كالغرق في غواية الملذات الأخرى."

جوستاف فلوبرت

 

"إن اقتناء الكتب هوس واحتلال ومرض وإدمان ومس من سحر  وهو حماقة وقدر لا مفر منه، لا هواية كما يقولون. من يحب اقتناء الكتب مجبر على ذلك ولا خيار له."

جانيت ونترستون

 

 

"من أعظم متع القراءة أن كل ما فيك سيفنى فيها. ذلك الانغماس الذي يجعلك بالكاد تتذكر إنك موجود"

ايان مكوان

 

"نوعية الكتب الوحيدة التي تستحق القراءة هي تلك تخلف فيك جراحاً وطعنات. فلا تكلف  نفسك عناء قراءة كتب لا تشعر  حين تستيقظ بعد قراءتها برأسك كمن مر من توه بانفجار"

فرانز كافكا

 

 

"حين تتمرن على القراءة وتكتب نصاً في الوقت ذاته فما ستنتجه سيكون بمقدار الجهد الذي تبذله. أعلم لأنها نصيحة قديمة ولكنها حقيقية."

زادي سميث

 

 

"لم أحب القراءة يوماً حتى كدت أن أفقدها. تماماً كالتنفس فمن منكم يقول إنه يحبه ولكنك ستحبه حين يأتي شيء ما يهددك بفقده."

هاربر لي

 

"أنا على يقين بأن هناك معجزات تحصل حين تقرأ كتاباً جيداً"

ج. ك. رولينج

 

"القراءة هي الشيء الوحيد الذي يجعلك تنزلق رغماً عنك وبلا حول ولا قوة تجد نفسك بجسد شخص غيرك  وصوت آخر يحتل حنجرتك غير صوتك وروحاً آخر تسكنك غير روحك"

موريس سنداك

 

 

"جزء من الجمال الذي تشعر به وأنت تقرأ الأدب؛ اكتشافك أن ما تشعر به من لوعة هو شيء كوني يشاركك فيه الجميع وأنك لست وحيد أو معزول عن باقي البشر فالكل ينتمي للآخر."

ف سكوت فتزجرالد

 

"إنني أقرأ لأضيع نفسي ولأجدها في نفس الوقت"

ايماني موسلي

 
 
المقال مترجم جزئيًا، لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.
 
 

انتحار الكاتب التونسي نضال الغريبي؛ ليس الأول ولن يكون الأخير

$
0
0

غيب الموت الإختياري المدون والكاتب نضال الغريبي، فقد أعلنت تونس نبأ انتحاره في 28 مارس 2018 في بوحجلة بولاية القيروان. وكان لوقع خبر انتحاره المباغت أثراً كبيراً وحزيناً بين الأوساط الثقافية والأهم الرسالة التي ترك، معلناً فيها قراره بإنهاء حياته.

ترك انتحار الغريبي الكثير من التساؤلات عن الأسباب والدوافع لهذا الفعل،  لكن الأكثرية أجمعت بأن السبب الحقيقي للانتحار كونه عاطلاً عن العمل منذ تخرجه من الجامعة،أو هكذا توصلت التحاليل ورد عائلته الرسمي حول هذا الاستفسار، ولأنه يعيش في ولاية القيروان إحدى أكبر الولايات التي تهيمن البطالة على واقع شبابها.

الغريبي شاب موهوب في مقتبل العمر، درس الفلسفة وفن التصوير، هو أيضاً كاتب وشاعر في آن وناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، وكلما كان يستدعي الأمر، يستبدل كل هذا ويعود لفلاحة الأرض مع والده الفلاح.

والغريب بأن رسالة الوداع هذه، لفتت الأنظار أكثر من واقعة الانتحار نفسها؛ ففي الصحافة العربية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كان العنوان المشترك: "الغريبي ينتحر ويترك رسالة وداع مؤثرة". هذه رسالة سرعان ما انتشرت بسرعة، بقوة انتشار النار في الهشيم، فتخطف الضوء عن غياب هذا الرجل.

 

نص الرسالة وتعليق:

 

"أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة ما أبخسها ثمنها لكننا لا نرى، نملئ أبصارنا وبصائرنا دومًا بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها .. نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى من الأخضر غير يابسه حتّى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي، الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا ما صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغى..

غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعًا اذ تظنُّون بموتي أنّني أناني، لكنني في الحقيقة أبعد ما يمكن عن الأنانية، دققوا في التفاصيل، لو كنت كما تدّعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنني أعلم على يقين أنّ عائلتي المسكينة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدّعون، لكنت رميت بنفسي أمام سيارة على عجل، أو من فوق بناية عالية، لكن، حرصا مني أن لا تتلف أعضائي، التي أوصي بالتبرع بما صلح منها، لم أفعل!

سادتي، أحبّتي، عائلتي المضيّقة والموسّعة، أوصيكم بأنفسكم خيرا، وبأولادكم حبّا .. أحبّوهم لأنفسهم، لا تحبّوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك .. فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة .. علّموا أطفالكم أنّ الحبّ ليس بحرام، وأنّ الفنّ ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب..

السّاعة الآن الرابعة بعد الظهر، من السابع والعشرون من مارس سبعة عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعين وأربع أشهر واثنين وثلاثين سنة..

أحبكم جميعا دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي.. آسف من الجميع. انتهى..!!"

 

 

مما لا شك فيه بأن هذه الرسالة رسالة ضبابية... غامضة... وفيها فلسفة وحنان وحب، بل وفيها نصائح تأتي من شخص ضرب الأمور بعرض الحائط ولم يلتفت وراءه، ومع ذلك له رأي يدلي به للأحياء من بعده.

حول حيثيات الرسالة وما جاء بين سطورها، حاورت الكاتب أسامة عز الدين وسألته إن كان يقرأ الرسالة بشكل مختلف عن الانطباع السائد بأن سبب الانتحار كان البطالة. عن سياق الرسالة المؤثر قال:  "إذا كان الكاتبُ المثقف أول من سيُهزم في معركة الحياة ..فماذا نقول عن عامة الناس والذين يواجهون الحياة دون مخزون معرِفي أو ثقافي؟ إن الأولى بالكاتب والمثقف أن يساعد الناس على تجاوز الأزمات النفسية والاجتماعية،‏ أن يكون قطرة الماء التي تسقي جذور الأمل عند الناس؛ لأنه القدوة. ‏نعم، كلنا نأسف ونتعاطف مع هكذا حالات، لكن دعونا لا نهرب من الحقيقة والصراحة، فالكاتب الحقيقي هو الذي ينجح في امتحان الحياة.

الكثير منا تعرَّض لصدمات كبيرة (بطالة، لجوء، نزوح، غربة، تجارب فاشلة، اعتقال....) ‏هل الحل أن ننتحر؟ لو كان الانتحار حلاً لكان الواجب على أكثر من نصف شبابنا في عالمنا العربي الانتحار! ‏وأمر آخر، الكاتب هنا لم يهزم أمام البطالة فقط، بل بإعتقادي ومن خلال رسالته، فهو يعاني قلّة الاهتمام من مجتمعه القريب والبعيد، بالإضافة إلى حساسية مفرطة إزاء أي اتهام أو تجربة حياتيّة فاشلة،وربما عزلة ثقافية مجتمعية جعلت لديه قابلية الانهيار. ‏ختاماً، جميل أن نكون أشجاراً مثمرةً ولكن الأجمل أن تضرب جذورنا الأرض، وإلا ستقتلعنا رياح اليأس والإحباط والأزمات عند أول مواجهة!"

 

انتحار الغريبي

ذكرنا بالكثير من الكُتاب والمبدعين العرب ممن سبقوه في الانتحار، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

من مصر: أروى صالح وإسماعيل أدهم ومنير رمزي وصلاح جاهين وأسامة الدناصوري وأحمد العاصي وفخري أبو السعود. تيسير سبول من الأردن. ومن لبنان أنطون مشحور وخليل الحاوي. قاسم جبارة ومهدي الراضي وإبراهيم زاير من العراق، عبد الباسط الصوفي من سوريا، ومن الجزائر فاروق سميرة، عبد الله بو خالفة وجاك سيناك وزاهرة رابحي. عبد الرحيم أحمد أبو ذكري من السودان. راشد حسين وفرنسوا أبو سالم من فلسطين. الحبيب المسروقي من تونس. ومن المغرب حوري الحسين وكريم حوماري وسعيد الفاضلي وعبد القادر الحافوي. أنظر مقال مهند سعد "أشهر 7 أدباء قضوا منتحرين"انكتاب  01-02-2015 (انظر اشكالية الانتحار نجيب طلال الحوار المتمدن 17/11/2017 وايضاً لماذا حبال الرحيل نفس الكاتب 24/1/2017 أربع مبدعين مغاربة انتحروا الديار لندن].

بدون مقدمات وبطريقة مباشرة سألت أحد الكُتاب: "لماذا ينتحر الكاتب والمبدع؟"

ثم كان رده: "صراحة لا أعلم جواب لهذا سمعته أو تعلمته أو اقتنعت به ‏لكن ظني أنا بأنه اصطدام بين التنظير والواقع (لا يجد آخر يفهم قصده ولن يجد إلا شخص مر بتجاربه وقراءاته وقناعاته ولن يجد). ‏لابد في الحياة من مرآة تشترك معنا في الفَهم: صديق مقرب أو رفيقة أو شريكة ...‏ولا أظنه استطاع أن يقنع العامة في أي نقاش قيل، فقط يتحول لجدال ولا غالب ولا مغلوب وكله اصطدام بالواقع، ‏غالب من يقابلهن، وعاطفة تنقص يوافقها ميول لأي معلومة ثم محاولة ظهور بشكل مقابل لصاحب المعلومة ثم انتكاسة فهو يستنكر إما هو خطأ أو غيره، فما استطاع قراءة ذلك فيصل لتناقض في ذاته واضح ختامه انتحار!"

في العودة للرسالة المؤثرة التي تركها نضال الغريبي، هذا الإنسان الذي كان له من اسمه نصيب: غريبي، فقد عاش غريباً ومات بطريقة أغرب، لذلك توقف عند اسمه وطلب من الأهل التأني عند اختيار أسماء أولادهم: "اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك .. فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة."

نعم هي الغربة إذن...

وبالنسبة لرأيي الشخصي الذي لن أحيد عنه أبداً، فلا البطالة ولا نظرات الاستهجان من حب الموسيقى والفن التي عاش، ولا هذه الشطحات الخيالية التي يسافر بها الكاتب إلى الغيوم فيسقط على صخور الواقع متالماً، كل هذا وحبه لوالدته وأهله وناسه، كلها قد تكون الدافع لانتحار الغريبي، لكني مصممة، بأن الدافع الرئيس للانتحار كان حبه لهيرا إيناس، هذا حب ربما لم يكــن في متناول اليد.

سألت عز الدين: "أسامة لكن ماذا عن الهيرا إيناس؟"

أجاب:"أظنها كانت تجربة فاشلة أو قلة اهتمام، دعينا من هذا حتى لا ندخل في النوايا!"

يقول الغريبي حول هيرا إيناس في نهاية الرسالة: "أحبكم جميعا دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي."

للأسف لم يلتفت لموضوع إيناس أي من النقاد - إلى هذه العبارة -.. واكتفى الجميع بالتركيز على البطالة... قد لا يعجب رأي هذا أحد، لكن هذا ما أقول شاء من شاء وأبى من أبى.

على صفحته في الفيسبوك يكتب:

 

"ما أنا إلّا جثمان يتنفس، وبعض الأوجاع تتجاوز جدران الجسد أتساءل حين ألتاعُ أي الوجعين أختار؟ هي أجمل من هيرا... أعمق وأثرى من يوتوبيا... وأغبى مني... اشعر بكل الأشياء إلا أنا لا اشعر بي، لم تعد بي رغبة بالبكاء ولا بالضحك لم تعد بي رغبة بالحياة ولا توق للموت، كيف حالي؟".

 

وينهي بعبارته المشهورة: "ليتني كنت تافهاً "

متى يكون حضور الواقع أكثر مما يجب في كتب الأطفال؟

$
0
0

لطالما كانت الشمولية في الكتب مثار نقاش ساخن لسنين عديدة. ولقد لاحظت الباحثة في مجال التعليم بيرنيس كولينان أن الأهالي في السبعينات بدأوا يطالبون بأن تشمل كتب الأطفال كل شيء يمكن أن يوجد في حياة الأطفال الفعلية ـــ سواء أكان جيداً، سيئاً، أو غير مريح. "لقد أردنا كتباً عن الأطفال الذين فقدوا أماً أو أباً، أو الأطفال الذين لا أهل لهم؛ كتباً عن المخدرات، الجنس، الموت، الطلاق، والمشاكل الخاصة بمجموعات إثنية محددة. لقد تعبنا من متلازمة ساكني الضواحي البيض من الطبقة المتوسطة، المكررة في نصوص الأطفال و أدبهم".

 

يشير الآباء اليوم أنه لا يكفي وجود المزيد من الكتب المصورة التي تتحدث عن "المسائل الكبرى". كتبت الناشرة (والأم) دينين ميلنرمؤخراً في جريدة النيويورك تايمز عن استفادة الأطفال السود (و الأطفال البيض) من الكتب التي "تتعامل مع تجاربهم اليومية"ــــ ليس فقط الكتب التي تتحدث عن قادة استثنائيين من حركة الحقوق المدنية، أو رياضيين  و فنانين مشهورين، و الأنواع الأخرى من "المتفوقين". تؤكد ميلنر أن إعطاء الأطفال كتباً مصورة عن العبودية ليس كافياً، و ليس شاملاً فعلاً.

 

إذا كان الأطفال يستطيعون تلقي القليل جداً من الواقع، فهم يستطيعون أيضاً تلقي الكثير جداً

هنالك أيضاً مسألة التوصيفات التصويرية (الغرافيك) للموت و الفقدان في "قصص الأطفال الكلاسيكية"مثل السيدة فريسبي و فئران نيمه،  و هاري بوتر. لاشك أن الأطفال سيواجهون صعوبات لا حصر لها بينما يخوضون غمار الحياة، و سيضّرهم أي تظاهر بعكس ذلك، إلا أن تعريضهم لذلك في الكتب هو سيف ذو حدين. إذا كان الأطفال يستطيعون تلقي القليل جداً من الواقع، فهم يستطيعون أيضاً تلقي الكثير جداً. تقول كولينان، "يرى بعض البالغين أنه إذا كان من الصعب على الرجال و النساء الناضجين أن يتأقلموا مع أثر التراجيديات، فلا يجب علينا تقديمها للأطفال قبل الأوان". وتلاحظ أيضاً "أن الداعمين لهذه الفكرة، يؤكدون أن الأطفال يجب أن يمتلئوا بالضحك والمرح و المتعة، و أن الأطفال يحتاجون أن يتحرروا عبر الأدب، خصوصاً عندما لا يكون لديهم الكثير ليضحكوا بشأنه في عالمهم اليومي المعاش".

 

تؤكد كولينان أن ثمة مكاناً للواقع في الكتب التي ننصح بها للجيل القادم، إلا أن "البالغين الذين يعتقدون أن الطفولة هي وقتٌ لسعادة خالية من الهموم، يشكّكون بجدوى تعريض الأطفال لحالات يصعب حتى على البالغين فهمها أو تحملها". لكن، من وجهة نظر كولينان ، يتعامل الأطفال في الوقت الحاضر "مع المشاكل الشخصية و الاجتماعية في عمر مبكر، أفضل مما كانوا يتعاملون معها سابقاً"، و هكذا يدركون في وقت باكر من حيواتهم أن "هذا ليس عالماً هانئاً".

 

تقترح كولينان أن المطلوب، في آخر الأمر، هو خليط من الكتب التعليمية و الكتب المسلية، التي تقدم قصصاً قاسية عن التاريخ، الحرب، و الموت، بالتوازي مع تقديم عوالم خيالية يمكن أن يهرب الأطفال إليها.

 

فرحناز محمد:(فرح محمد) صحفية من جامايكا، تكتب في الشؤون الدولية، الصحة، العدالة الاجتماعية، و الثقافة.

 

المقال مترجم؛ لقراءة النص الأصلي اضغط هنا.


القارئ الدقيق؛ كيف يكون كاتبًا؟

$
0
0

القارئ الدقيق، صاحب الرؤية التفصيلية لأجمل كتب الأدب، كيف يكون كاتبًا ؟

كان  أكبر دوافعي لاقتناء رواية عبد المجيد سباطة ،ساعة الصفر وصحبني دافع آخر ،هو رغبتي الدائمة للقراءة من أصحاب الأقلام الهاربة من مجالات مهنية ،حيث رهافة الحس تتجسد في أبهى معانيها.

ساعة الصفر عمل بحجمٍ ضخم ،وهذا لأن الراوي كان جرّاحًا والجراحين دائمًا دقيقي الملاحظة لايغفلون شاردة ولا واردة إلا دوّنوها في سجلاتهم وأمعنوا النظر في حيثياتها.

ساعة الصفر من أول صفحاتها تسبح مع تيارها بعفوية نهرها اللغوي الهيّن غير المتكلف ،المنساب بعذوبة وشاعرية ساحرة تفعل فعلها في نفس كلّ محب لاقتباسات الأدب.

( ألقيت نظرة خاطفة على ساعتي اليدوية ، ففوجئت بتعطّلها إثر تسرّب المياه إليها، والمفارقة هنا أنّ عقاربها المعطلّة خلّدت توقيت الحادثة بالضبط.... ساعة الصفر " 00:00 "، منتصف الليل !

سألت نفسي ،لماذا أوقف الكاتب الزمن وقفز بِنَا عبر الأمكنة ؟

ألأن جدلية ما يحكي كانت وماتزال وربما تبقى !

أم لأن لحظة العثور على الذات في خارطة التيه لابد أن يُصفّر عندها الزمن !

تحكي ساعة الصفر عن جدلية الحياة :الهوية ،الدين،الوطن ،التطرّف ، العدالة وتأرجح الإنسان  مابين التوحش والإنسانية في خطوط مكانية حملت أحداث متوازية بين الجزائر ،فرنسا،المغرب والبوسنة كداءٍ وشفاء.

بدأت القصة بالعثور على مقبرة جماعية في قرية "لوتا"وهي قرية صغيرة هادئة جنوب غرب سراييفو ،ضمت رفات سبعة أشخاص يتضح في النهاية أنهم مثلوا خليطًا من الأعراق ومعهم شنطة الأسرار التي حوت مذكرات الراوي باللغة العربية والتي قصد الكتابة بها منعًا لتطفل الآخرين وفي بُعد خفي قد تكون خطرت على باله لأنها الذات التي يُرِيد ،ومذكرات  "بريجيت "باللغة الفرنسية ،من اعتبرها والدته وعند وفاتها اكتشف أنها مشاركة في جريمة اختطافه من أهله في المغرب انتقامًا من والده الذي خدعها باسم الحب ولكن الانتقام جاء بهذه الشراسة مع التسبب في قتل والده وجنون ووفاة والدته لأنه شماعة لانتقامٍ أكبر من طرف "الأب فرانسوا"الذي يحافظ على ظاهر الدين ويحمله مطية لأغراض دنيئة ،صاحب المشروع التنصيري الذي فشل في شمال افريقيا وزارع الكره للغير في القلوب ،

في خليط أوراق المذكرات وساعة كانت في ذات الحقيبة توقفت عقاربها عند الساعة صفر ،حملنا الكاتب على لسان الراوي المجهول والذي انتهى بمجهولية نهايته وكأنه أراد أن يجعلنا ننظر في كل شخص وكل حدث يقابلنا بحثًا عنه في عالم التيه الممتد.

(أتدري ،يخيل إليَّ أنك عصفورٌ شارد أضاع عشّه فٓتٓاه ولم يدرِ إلى أين سيقوده جناحاه ، فبحث عن الأمان في عشّ النسر ،أليس كذلك ؟)

هذا التشبيه للراوي والذي جاء على لسان العقيد رايلي "عضو قوات الحماية التابعة للأمم المتحدة"،وكما قال الراوي هو وصف دقيق لحالته وروح حملها بين جنباته ظلت تبحث عن الركون إلى متكأ يجعلها تنجو من عبثية الأشياء وعندما عرف لون العش ،تاه منه ..ليس هو التائه وإنما العش ! بين عقلٍ وقلب ،واختار صوت العقل ،لذا حمل الراوي نفسه للبحث عنها من جديد وكان..

ظهرت نور ،ذلك الملاك الطاهر التي وجد نفسه يدافع عن كل شيء بدفاعه عنها ويكشف سوء التوحش والاستغلال ويحكي لها كان يا مكان ،ليس في قديم الزمان ! اعتقد أنّ مهمته صعبة، لكنه عثر بالصدفة على المفتاح ..الحب مفتاح كنز الماضي المفقود..عن الحب ذلك الشعور الإنساني المتسامي والذي يرافق إرادة الخير في البشر والارتفاع عن حيوانية الشعور والتعامل،والسعي للإصلاح .

لا أُريد الغوص في التفاصيل وحرق حق الدهشة الفردي الخاص بكل أحد  ،كما لا أريد نقل حماسي الشخصي للكتاب فلكل قارئ درجة محددة تتحرك فيها دواخله تفاعلًا ، ولا يعني هذا أحيانًا أكثر من شيء غائر نجهله، كذكرى حدث مندس أو أماني الروح المنتظرة وربما إنسانية حكاية جعلتنا نكتشف فكرتنا التائهة ،وربما كل ذلك وأكثر مثل حالتي والتي صحبها أثر عبد المجيد سباطة القارئ ليجعلني أؤمن أكثر بأنّ القارئ الجيد للكتاب الجيد يزيد ألق إنتاج الكتابة.

الأدب في خدمة الطب والبشر

$
0
0

لقد ساهمت دقة الوصف لدى الكاتب تشالز ديكنز لبعض الأمراض التي تعاني منها شخصياته الروائية إلى مساعدة العلماء في حالات كثيرة لعل أبرزها ما حصل للاعب البوكر السمين الذي أستغرق في نوم عميق بينما كانوا يرفعون يده معلنين فوزه. وقد سمى العلماء تلك الظاهرة باسم ( متلازمة بيكويكيان ) نسبة إلى رواية تشالز ديكنز مذكرات بيكويك - The Pickwick Papers  التي كتبها عام ١٨٣٦. وتعرف هذه الظاهرة الطبية اليوم obesity hypoventilation syndome وهي تصيب بعض المصابين بالبدانة الزائدة التي تسبب ضعفاً بجهازهم التنفسي وتتثاقل أنفاسهم مسببة لهم النوم المفاجئ في أي وقت.

كما وصف ديكنز بعض الأمراض التي لم نسمع عنها سوى حديثاً كمرض ( الديسلكسيا أو عسر القراءة ). ففي روايته ( البيت الكئيب أو البيت الموحش Bleak House) نجد شخصية السيد كروك الذي يقوم بتكديس ملفات لن يقرأها أبداً. يصفه ديكنز قائلاَ: "يعرف كيف يصف الحروف كل منها على حدة وهو يعرف تلك الحروف معرفة كبيرة فقط حين تكون على حدة وحين يراها تقترب من بعضها في كلمات لايستطيع التعرف عليها ولا يقوى لسانه على نطقها".

 

ويزخر أدب ديكنز المعروف بأوصافه المفصلة والدقيقة على العديد من الأوصاف للظواهر والأمراض الطبية التي لم تحظى بالإهتمام الطبي حتى الآن كما تقول المحاضرة المختصة بأدب القرن التاسع عشر أديلي بجامعة King’s College London. إن هذه الإسهامات الأدبية التي كان لها فضل كبير في معرفة وكشف الكثير من الأمراض وأعراضها من خلال الأوصاف الدقيقة التي سردها ديكنز في كتاباته كانت محل تقدير من العاملين في المجال الطبي. وهذا يتجلى في نعي ديكنز  الذي نشرته المجلة البريطانية الطبية عام ١٨٧٠ وقد جاء فيه : "لا أحد بإستثناء هذا الرجل يملك ما يملكه رجال الطب من إيمان عميق برسالتهم تمكنهم من سبر أغوار الأمراض وأوصافها وكيف يكون إقتراب الموت".

لم يكن إهتمام ديكنز بالطب والأمور المتعلقة بالصحة محصوراً على كتاباته ولكنه كان يشارك المجتمع في الحملات التي كان ينظمها لتحسين أوضاع طبقة العمال المعرضون للمرض والإصابات بسبب ظروف عملهم. كما انه كان داعماً كبيراً لمستشفى Great Ormond Street. وقد قام كذلك كتابة مقالات بشأن مواضيع تتعلق بسوء الظروف الصحية التي تؤدي إلى موت الأطفال في بريطانيا وأبرز هذه المقالات ( البراعم المتساقطة - dropping buds ) في إشارة إلى معدلات الوفاة العالية بين صفوف الأطفال. وسوف يحتفى بإسهامات تشالز ديكنز الطبية بمعرض أطلق عليه اسم ( تشالز ديكنز: رجل علم) والذي سيكون بمتحف تشالز ديكنز بلندن خلال ( ٢٤ مايو ٢٠١٨  وحتى ١١ نوفمبر ٢٠١٨ )

 

إقتباسات طبية من أدب ديكنز

 

  • وقال هذا السيد الشيخ: "لعنة الله على هذا الولد ... لقد عاد إلى النوم!"

وانثنى المستر بكوك يقول : "هذا غلام شاذ حقاً... أينام دائما على هذا النحو؟ "

وقال الشيخ بتأن: إنه "نائم"على الدوام. وإنه ليذهب ليؤدي أعماله وهو مستغرق في النوم. ويغط وهو يخدمنا على المائدة."

قال المستر بكوك : "ما أعجب وما أغرب".

وردد الشيخ قوله:"حقاً ما أعجب وما أغرب... إني بهذا الغلام لفخور... ولن أدعه يفارقني لأي سبب من الأسباب إنه لأعجوبة من أعاجيب الطبيعة ... جو ... جو ... ارفع هذه الأشياء وافتح زجاجة أخرى... أأنت سامع؟ "

ونهض الغلام الشحيم اللحيم وفتح عينيه وازدرد الفطيرة الضخمة التي كان منشغلاً بمضغها حين استولـى النعاس عليه آخر مرة.

 

تصنيف : الأدب الطبي

رغم إسهامات ديكنز وغيره من الأدباء لخدمة الطب إلا أن ماتكتبونه لايصنف كأدب طبي فهم لم يدسوا الطب وهذا سر الإهتمام بهم فإبداعهم ودقة وصفهم لحالات طبية لم تعرف بعد ولَم يكن لها علاج ساعدت العلماء لاحقاً. كما أن الأدب الطبي يكتبه في الغالب أطباء عشقوا الأدب وقاموا بتوظيف هذه المعرفة الطبية في كتابة أدب مشوق. وهناك كتاب معروفون في هذا المجال وغالباً مايكونون هم بأنفسهم درسوا الطب ليتمكنوا من توظيفه في كتاباتهم الأدبية التي تحمل تفاصيلاً طبية بالغه العمق لايعرفها سوى طبيب خبير. أشهر هؤلاء:

  • آرتشيبالد جوزيف كرونين ( توجد له ترجمات عربية وحولت العديد من رواياته إلى أفلام).

  • روبن كوك Robin Cook( تعرف القارئ العربي عليه من خلال سلسلة روايات عالمية للجيب . وقد كانت رواية الغيبوبة التي قام بإعدادها الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق )

  • Echo Heron لا توجد كتب مترجمة لها إلى العربية

  • ميشيل ستيفن بالمير Michael Stephen Palmer  لا توجد له ترجمة بالعربية. وأشهر رواياته ترجمت إلى ٣٥ لغة وحولت إلى  فلم عام ١٩٩٦ حمل نفس عنوانها Extreme Measures ويتكلم عن أخلاقيات مهنة الطب.

  • الطبيب والروائي الفرنسي أندريه سوبيران André Soubiran لم تترجم أعماله إلى العربية.

 

أدباء العرب الأطباء

ليسوا بقلة بل هم كثر بدءاً بيوسف إدريس و مصطفى محمود وعلاء الأسواني وغيرهم كثر إلا أن كل هؤلاء الذين أبدعوا في وصف النفس والجسد البشري لم يخصصوا أبداً بعينه لخدمة الطب كما فعل الأديب الراحل أحمد خالد توفيق الذي خصص سلسلة ( سفاري) لإستعراض الكثير من الظواهر الطبية والذي لعله الوحيد من بين الكتاب العرب الذي كتب أدباَ طبياً.

حين رحل عن عالمنا أحمد خالد توفيق  لم يحظى بما حظي به تشالز ديكنز من الإحتفاء الذي لم ينقطع منذ وفاته وحتى يومنا الحاضر. ولكن تكفي أحمد خالد توفيق محبة تلاميذه  وقراءه الأوفياء الذين لم ينسوا جميله لافي حياته حيث كان من يدرسون الطب منهم يعتبرون سلسلة سفاري وكأنها أحد مراجعهم الدراسية ولا في مماته وقد شيعوه بأجمل تشييع حظي به كاتب عربي -من وجهة نظري-.

 

صورة لغلاف فلم مقتبس من رواية في الأب الطبي يتحدث عن أخلاقيات مهنة الطب

سلسلة سفاري من الأدب الطبي

 

صورة للغلام السمين الذي يعاني من متلازمة النوم المفاجئ - الصورة من رواية مذكرات بكويك للكاتب تشالز ديكنز

كيف تقاطع الطب مع الأدب: تشارلز ديكنز مثالًا

$
0
0

لقد ساهمت دقة الوصف لدى الكاتب تشالز ديكنز لبعض الأمراض التي تعاني منها شخصياته الروائية إلى مساعدة العلماء في حالات كثيرة لعل أبرزها ما حصل للاعب البوكر السمين الذي أستغرق في نوم عميق بينما كانوا يرفعون يده معلنين فوزه. وقد سمى العلماء تلك الظاهرة باسم ( متلازمة بيكويكيان ) نسبة إلى رواية تشالز ديكنز مذكرات بيكويك - The Pickwick Papers  التي كتبها عام ١٨٣٦. وتعرف هذه الظاهرة الطبية اليوم obesity hypoventilation syndome وهي تصيب بعض المصابين بالبدانة الزائدة التي تسبب ضعفاً بجهازهم التنفسي وتتثاقل أنفاسهم مسببة لهم النوم المفاجئ في أي وقت.

كما وصف ديكنز بعض الأمراض التي لم نسمع عنها سوى حديثاً كمرض ( الديسلكسيا أو عسر القراءة ). ففي روايته ( البيت الكئيب أو البيت الموحش Bleak House) نجد شخصية السيد كروك الذي يقوم بتكديس ملفات لن يقرأها أبداً. يصفه ديكنز قائلاَ: "يعرف كيف يصف الحروف كل منها على حدة وهو يعرف تلك الحروف معرفة كبيرة فقط حين تكون على حدة وحين يراها تقترب من بعضها في كلمات لايستطيع التعرف عليها ولا يقوى لسانه على نطقها".

 

ويزخر أدب ديكنز المعروف بأوصافه المفصلة والدقيقة على العديد من الأوصاف للظواهر والأمراض الطبية التي لم تحظى بالإهتمام الطبي حتى الآن كما تقول المحاضرة المختصة بأدب القرن التاسع عشر أديلي بجامعة King’s College London. إن هذه الإسهامات الأدبية التي كان لها فضل كبير في معرفة وكشف الكثير من الأمراض وأعراضها من خلال الأوصاف الدقيقة التي سردها ديكنز في كتاباته كانت محل تقدير من العاملين في المجال الطبي. وهذا يتجلى في نعي ديكنز  الذي نشرته المجلة البريطانية الطبية عام ١٨٧٠ وقد جاء فيه : "لا أحد بإستثناء هذا الرجل يملك ما يملكه رجال الطب من إيمان عميق برسالتهم تمكنهم من سبر أغوار الأمراض وأوصافها وكيف يكون إقتراب الموت".

لم يكن إهتمام ديكنز بالطب والأمور المتعلقة بالصحة محصوراً على كتاباته ولكنه كان يشارك المجتمع في الحملات التي كان ينظمها لتحسين أوضاع طبقة العمال المعرضون للمرض والإصابات بسبب ظروف عملهم. كما انه كان داعماً كبيراً لمستشفى Great Ormond Street. وقد قام كذلك كتابة مقالات بشأن مواضيع تتعلق بسوء الظروف الصحية التي تؤدي إلى موت الأطفال في بريطانيا وأبرز هذه المقالات ( البراعم المتساقطة - dropping buds ) في إشارة إلى معدلات الوفاة العالية بين صفوف الأطفال. وسوف يحتفى بإسهامات تشالز ديكنز الطبية بمعرض أطلق عليه اسم ( تشالز ديكنز: رجل علم) والذي سيكون بمتحف تشالز ديكنز بلندن خلال ( ٢٤ مايو ٢٠١٨  وحتى ١١ نوفمبر ٢٠١٨ )

 

إقتباسات طبية من أدب ديكنز

 

  • وقال هذا السيد الشيخ: "لعنة الله على هذا الولد ... لقد عاد إلى النوم!"

وانثنى المستر بكوك يقول : "هذا غلام شاذ حقاً... أينام دائما على هذا النحو؟ "

وقال الشيخ بتأن: إنه "نائم"على الدوام. وإنه ليذهب ليؤدي أعماله وهو مستغرق في النوم. ويغط وهو يخدمنا على المائدة."

قال المستر بكوك : "ما أعجب وما أغرب".

وردد الشيخ قوله:"حقاً ما أعجب وما أغرب... إني بهذا الغلام لفخور... ولن أدعه يفارقني لأي سبب من الأسباب إنه لأعجوبة من أعاجيب الطبيعة ... جو ... جو ... ارفع هذه الأشياء وافتح زجاجة أخرى... أأنت سامع؟ "

ونهض الغلام الشحيم اللحيم وفتح عينيه وازدرد الفطيرة الضخمة التي كان منشغلاً بمضغها حين استولـى النعاس عليه آخر مرة.

 

تصنيف : الأدب الطبي

رغم إسهامات ديكنز وغيره من الأدباء لخدمة الطب إلا أن ماتكتبونه لايصنف كأدب طبي فهم لم يدسوا الطب وهذا سر الإهتمام بهم فإبداعهم ودقة وصفهم لحالات طبية لم تعرف بعد ولَم يكن لها علاج ساعدت العلماء لاحقاً. كما أن الأدب الطبي يكتبه في الغالب أطباء عشقوا الأدب وقاموا بتوظيف هذه المعرفة الطبية في كتابة أدب مشوق. وهناك كتاب معروفون في هذا المجال وغالباً مايكونون هم بأنفسهم درسوا الطب ليتمكنوا من توظيفه في كتاباتهم الأدبية التي تحمل تفاصيلاً طبية بالغه العمق لايعرفها سوى طبيب خبير. أشهر هؤلاء:

  • آرتشيبالد جوزيف كرونين ( توجد له ترجمات عربية وحولت العديد من رواياته إلى أفلام).

  • روبن كوك Robin Cook( تعرف القارئ العربي عليه من خلال سلسلة روايات عالمية للجيب . وقد كانت رواية الغيبوبة التي قام بإعدادها الروائي الطبيب أحمد خالد توفيق )

  • Echo Heron لا توجد كتب مترجمة لها إلى العربية

  • ميشيل ستيفن بالمير Michael Stephen Palmer  لا توجد له ترجمة بالعربية. وأشهر رواياته ترجمت إلى ٣٥ لغة وحولت إلى  فلم عام ١٩٩٦ حمل نفس عنوانها Extreme Measures ويتكلم عن أخلاقيات مهنة الطب.

  • الطبيب والروائي الفرنسي أندريه سوبيران André Soubiran لم تترجم أعماله إلى العربية.

 

أدباء العرب الأطباء

ليسوا بقلة بل هم كثر بدءاً بيوسف إدريس و مصطفى محمود وعلاء الأسواني وغيرهم كثر إلا أن كل هؤلاء الذين أبدعوا في وصف النفس والجسد البشري لم يخصصوا أبداً بعينه لخدمة الطب كما فعل الأديب الراحل أحمد خالد توفيق الذي خصص سلسلة ( سفاري) لإستعراض الكثير من الظواهر الطبية والذي لعله الوحيد من بين الكتاب العرب الذي كتب أدباَ طبياً.

حين رحل عن عالمنا أحمد خالد توفيق  لم يحظى بما حظي به تشالز ديكنز من الإحتفاء الذي لم ينقطع منذ وفاته وحتى يومنا الحاضر. ولكن تكفي أحمد خالد توفيق محبة تلاميذه  وقراءه الأوفياء الذين لم ينسوا جميله لافي حياته حيث كان من يدرسون الطب منهم يعتبرون سلسلة سفاري وكأنها أحد مراجعهم الدراسية ولا في مماته وقد شيعوه بأجمل تشييع حظي به كاتب عربي -من وجهة نظري-.

 

صورة لغلاف فلم مقتبس من رواية في الأب الطبي يتحدث عن أخلاقيات مهنة الطب

سلسلة سفاري من الأدب الطبي

 

صورة للغلام السمين الذي يعاني من متلازمة النوم المفاجئ - الصورة من رواية مذكرات بكويك للكاتب تشالز ديكنز

عذابات الشباب في "تحت العجلة"

$
0
0

من يقرأ نبذة عن رواية هرمان هسة "تحت العجلة"قد يثنى بسرعة عن قراءة الرواية على اعتبار أنها تتناول الضغوطات الاجتماعية والسلطوية وتأثيرها على الشباب فترة المراهقة وبخاصة أثناء خوضهم لما يقال أنها أهم مرحلة من مراحل حياة الشباب: المرحلة الدراسية، ومع أن النبذة دقيقة إلا أن الرواية بلغتها السهلة الجميلة والتي نشرت لأول مرة عام 1906 وترجمت إلى العربية في هي قراءة جيدة جداً للمراهقين والأكبر سناً ولا تزال تحتفظ بقدرتها على استفزاز نقاش في أي وقت وأي مكان.

تتفحص الرواية حياة شاب بسيط ابتلي بقدرته على الحفظ والتحصيل الدراسي في مجتمع صغير يعلق آماله وخيباته على ظهور الأطفال والمراهقين. يحاول الشاب هانز تحقيق حلم الجميع باجتياز أهم اختبار سيحدد مصيره ليصبح إما قس يفخر به أبوه ومجتمعه الصغير أو حرفي بلا شأن كما تصور الرواية.

يقضي هانز أيامه في تغذية ذاكرته وعقله على حساب روحه وجسده بتحريض مستمر من والده والناظر وأحد القساوسة، مما يجعله يعاني من الصداع والوهن والتوتر النفسي بشكل متكرر. ونتيجة تخليه عن هواياته ووقت فراغه يفوز هانز بالمركز الثاني في الاختبار وبدلاً من الاستمتاع بعطلته يدفع مجدداً للدراسة حيث يحذره أحد مدرسيه من أنه سيسحق "تحت العجلة"إذا لم يسارع بمراجعة معلوماته وتعلم المزيد أثناء العطلة.

كان من المتوقع أن ينقذ هانز على يد صديقه الشاعر المتمرد الذي يثور على الدين والمجتمع والمألوف ولكن جمال القصة يكمن في المعاناة النفسية التي أضافتها معرفة الخيار الآخر، الحياة الأخرى التي يمكن له أن يعيشها لو كان من نوعية صديقه، لو أنه فقط يجرؤ على قول لا لكل من له سلطة عليه.

الجميع أراد أن يملي على هانز ما يجب فعله وحتى ما يجب أن يفكر به، كل من عرفه ممن هم أكبر سناً كانت لديهم توقعات ورغبات حاولوا أن يسيطروا على هانز لينالوها وليشعروا بشيء من الأهمية، ما عدا صديقه الشاعر الذي يبدو أنه لم يكن يكترث لشيء فيما عدا تلذذه بشاعرية الأمور ولذا فهو لم يعنى حقاً بهانز ولم يدرك أبداً حجم معاناته.

تنتهي الرواية كنهاية كل شيء وبأسلوب تقريري تعمده هسة حيث كتب روايته لإيصال العبرة وهي أن التحصيل الأكاديمي لا يجب أن يكون على حساب تغذية الروح والجسد وأن سلطة المجتمع الأبوية حتماً تسحق أرواح الشباب الجميلة والمتجسدة في فرديتهم باسم المجتمع والعائلة والوطن، وهنا يجب أن أذكر أن هسة جعل بطله هانز يتيم الأم، وأرسل له الفتيات لإرضاء غريزته كرجل فحسب، مما يجعلني أفكر بأن هسة لم يكن متحرراً حقاً من ذكورية مجتمعه مع أنه أدرك تماماً خطورة السلطة الأبوية التي تفرضها المجتمعات الذكورية على أفرادها.

 

كيف اضطهد ميلان كونديرا النساء في رواياته

$
0
0

يعد ميلان كونديرا من أعظم الكتاب والروائيين العالميين الذين ترجمت أعمالهم إلى لغات عدة من ضمنها العربية. الروائي التشيكي الذي يصر على فرنسيته أثار جدلاً واسعاً منذ الثمانينات وحتى العقد الأول من الألفية الثانية تارة بسبب نشاطه السياسي الشيوعي الإصلاحي، وتارة لهجرته إلى فرنسا وسحب الجنسية التشيكية منه، ومرة أخرى عندما اتهمته إحدى الصحف بالوشاية بأحد الطلاب المتهربين من الخدمة إلى الشرطة مما تسبب بحكم بالسجن لمدة 22 عاماً قضى الشاب معظمها في سجن للأعمال الشاقة. لم تثبت التهمة على كونديرا كما دافع أدباء عالميين عنه وعن سمعته ومع ذلك استمر اللغط.

كنا بحاجة لمن يقول لنا أن الإنجاب خيار وأن البعض لا يفضلونه، وأن الزواج يكبلنا بقيود غليظة ستسبب لنا التعاسة. ولكن ذلك الانبهار قد ولى زمانه ولم يعد أحد بحاجة لمن يرفض مأسسة الزواج والإنجاب والفكر الشمولي عامة بكافة جوانبه نيابة عنه.

 

 

القضية ضد ميلان كونديرا

ومع تسليط الضوء على هذه الروح المتمردة التي كتبت روايات فريدة من نوعها لا نزال نجد متعة غريبة بقراءتها حتى يومنا هذا منها "خفة الكائن التي لا تحتمل"، "البطء"، "رقصة الوداع"، "كتاب الضحك والنسيان"، و"حفلة التفاهة"تغاضى العالم عن ثيمة ثابتة في جميع أعمال كونديرا بحيث لا يمكن الشك بأنها مجرد تماه بريء مع شخصيات خيالية ألا وهي ازدراء الأنثى والرغبة في إذلالها في أعماله الأدبية، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا بكراهية واضحة للنساء. براعة كونديرا في خلق حوارات عفوية وجميلة حول العبث والخفة والرفض المطلق، فقط الرفض لكل ما أسس له بين الناس أعمت القراء عما هو جلي لمن يقرأ أكثر من عمل واحد لكونديرا: لن تفوز الأنثى أبداً معه ولا حتى بحوار متكافىء يضعها في كفة مقابلة لرجل أو محاولة تجسيد أي أنثى على الأقل بالقدر الذي يجسد به شخصياته الذكور.

يبصق كونديرا على كل شيء في رواياته ونحن نصفق له، لأننا عطشى لهذا القدر من اللامبالاة، كنا بحاجة لمن يقول لنا أن الإنجاب خيار وأن البعض لا يفضلونه، وأن الزواج يكبلنا بقيود غليظة ستسبب لنا التعاسة. ولكن ذلك الانبهار قد ولى زمانه ولم يعد أحد بحاجة لمن يرفض مأسسة الزواج والإنجاب والفكر الشمولي عامة بكافة جوانبه نيابة عنه.

كراهية النساء في روايات كونديرا

كراهية النساء والعدائية تجاههن وكل ما يتصل بهن يظهر جلياً لمن يقرأ أعمال كونديرا بوعي، محيطاً بثيمات كونديرا المعتادة في جميع رواياته التي تبدو في الواقع أعمالاً مفككة تعنى بالحوار بين شخصيات معظمها ثانوية ولا تروي قصة واحدة حقيقية أكثر من أنها تسخر من الحياة بشكل مجمل، يرى أن كونديرا يشيطن جمال الأنثى ويسعى لتفحيشه ليختزل وجودها بشهوة الرجل، بل ويصل به العنف ضدهن حد الرغبة في اغتصابهن في أكثر من عمل منها "الجهل"و "كتاب الضحك والنسيان"حيث يلتقي الراوي بمحررة مجلة تدفع له مقابل كتابته للمقالات بشكل سري، المحررة تصاب بالتوتر والقلق عندما يتواعدا مما يصيبها باضطراب المعدة والحاجة الملحة لاستخدام الحمام، وعندما يدرك ذلك تكون ردة فعله الرئيسية هي الرغبة باغتصابها واحتواء جسدها مع فضلاته.

اقرأ أيضاً: رؤية في "كتاب الضحك والنسيان"

 

ميلان كونديرا

هذه بعض الاقتباسات والإشارات من رواية ميلان كونديرا "رقصة الوداع"التي يكرر فيها كونديرا نفس الأفكار المسيئة للأنثى وكل ما يتعلق بالنساء:

 

  • الطبيب سكريتا يعالج عقم النساء بتبرعه بشكل سري بحيواناته المنوية، يجد جاكوب المعادي للزواج والإنجاب والأطفال عموماً والنساء الفكرة جميلة ومسلية حيث من الأفضل ولادة أطفال بذكاء الطبيب سكريتا على أي حال.

  • سكريتا: "في كل مرة كنا نصعد فيها (التل)، استطرد سكريتا، كانت "سوزي"تحاول إقناعي بضرورة الزواج. كان الصعود يضنيني إلى حد أشعر معه بأنني صرت عجوزاً، ويخيل إلي أنه لم يتبق لي غير الزواج. لكنني كنت أنجح أخيراً في التحكم بنفسي."

  • سكريتا يصرح بأن الخداع والكذب هو سلوك نمطي تتميز به الشقراوات تعليقاً على اهتمام فتاة شقراء لعازف البوق بأنها حامل منه، ويضيف: "الشعر الأشقر والشعر الأسود هما قطبا الطبيعة الإنسانية. فالشعر الأسود هو يعني الرجولة والشجاعة والصراحة والفعل، أما الأشقر فيرمز للأنوثة والحنان والضعف والسلبية...تتصرف (الشقراء أو من صبغت شعرها بالأشقر) ككائن هش، أو كدمية طائشة، تطلب الحنان والعناية والود والإطراء...يشي ظاهرها بالأناقة لكن باطنها يضمر البشاعة"

  • سكريتا: "هل تعلمان من هم أشد الناس كرهاً للنساء في هذا الكون؟ هن بنات جنسهن!""فالله جبلهن على كره غيرهن من النساء بقصد أن يجعل الجنس البشري يتكاثر."

  • جاكوب: "أمر غير معقول كيف يصمم أفراد قبيحون على الإنجاب"

  • جاكوب: "إن الأمومة هي التابو الأكبر والأخير (بعد أن كشف فرويد عن الرغبة الجنسية لدى الرضيع وقال كل شيء عن أوديب)، هي التابو الذي يخفي اللعنة الأخطر. لا صلة أوثق من تلك التي ترهن الأم إلى ابنها، وهي صلة تشوه روح الطفل إلى الأبد". "إنني أعشق جسد الأنثى، ولا أقبل أن يتحول ثدي حبيبتي إلى كيس حليب"

  • "سيستمر الجمهور في ذرف دموع الفرحة كلما رأى أما ترضع، أو رضيعاً يبتسم. وهو أمر يقززني. إن فكرة الانحناء على مهد والابتسام ببلاهة لصبي...تشعرني بالهلع"

  • روزينا التي تتهم عازف البوق زوراً بأنها حامل منه تفضل الموت على الإنجاب ويقوم جاكوب بقتلها عمداً من دون مبررات أو مقدمات وينجو بعدها بفعلته بلا عواقب.

  • الطبيب سكريتا يحاول جاهداً أن يقنع ثرياً أمريكياً بتبنيه وبنهاية الرواية يصارح الثري برغبته ويوافق الأمريكي على طلبه.

  • يعقد الراوي بسخرية مقارنة بين الأطفال والكلاب مرجحاً كفة الكلاب أكثر من مرة.

  • أولغا التي كان يرعاها جاكوب وترغبه جنسياً تكتشف أنه من قتل روزينا وتعجبها الفكرة فتقرر أنها لن تشي به للشرطة. "كلما تنامت تساؤلاتها، شعرت بتعاظم ذلك الفخر السعيد فيها، وأحست بما تحس به شابة يجري اغتصابها، فتغمرها فجأة لذة عجيبة تزداد حدتها بازدياد صدودها"

 

الرواية من القطع المتوسط وبلا شك فهذه الاقتباسات والإشارات تبدو مجتزأة لإنها كذلك بالفعل وهنالك حاجة لقراءة الرواية بأكملها لنرى أن هذه بضع اقتباسات يمتلىء بها الكتاب الذي يدور بشكل أساسي حول اتهام "روزينا"ل "كليما"بالأبوة زوراً ومحاولته التخلص من الجنين بمساعدة الثري الأمريكي "برتليف"والطبيب "سكريتا"، بينما يزور الشلالات "جاكوب"الذي حصل أخيراً على إذن بمغادرة الدولة.

 

حاولت البحث عن معلومات تخص حياته الخاصة لمعرفة المزيد عن أسباب و أعراض كراهيته للأنثى ولم أجد الكثير. الروائي الذي يناهز عمره الآن 89 لم تتغير نزعاته الكتابية لتتناول ما هو أبعد من الثيمات المعتادة: المهجر، الشيوعية والرأسمالية، الهوية، العبثية، وكراهية النساء مع اعتراف البعض بأن ازدراءه للنساء بات أقل حدة مما كان عليه.

 

أسوأ 10 روايات يمكن أن تقع بين يديك

$
0
0

سوف أتناول الحديث هنا عن أسوأ الروايات التي قرأتها في حياتي ولم أستطع نسيان ما سببته لي من ضيق لسخفها، لكي تبتعد عن اختيارها في المستقبل إن حالفك الحظ ولم تقرأها إلى الآن. 

ما أن تشاهد اسم أحد الكتب الواردة هنا عزيزي القارئ، لا تكلف نفسك عناء شراءها أو تحميلها إلكترونيًا، تجنبا للصداع والإحباط الذي ستجلبه لك تفاهة المحتوى، وإن أهداك أحدهم كتاب منها فاتركه على الرف دون أن تقرأه، تجنبًا لكره الشخص الذي أهداك مثل هذا الكتاب الرديء!

المرتبة الأولى: من نصيب باولو كويلو في إحدى أكبر إخفاقاته "فيرونكا تقرر أن تموت"

أمدح هذا الشيء عندما أقول عنه "رواية"وما هو إلا مقطع غير مترابط الأحداث والأجزاء من جريدة قديمة لإحدى المدارس. 

ربما العنوان هو الذي جذبني لاختيارها، لظني أنها رواية عميقة أو شيء من هذا القبيل، مثلا عن فتاة تقرر أن تموت من بؤس الحياة، لكن الرواية جاءت مخالفة لتوقعاتي.

فتاة سخيفة تقرر أن تنتحر لأن موطنها غير مشهور أو لسبب آخر لا أذكره. هل يعقل أن يكتب مؤلف مشهور في أنحاء العالم مثل هذا الهراء؟

صحيح أننا نعلم بأن القراءة أذواق، لكن من يجد هذه الرواية جيدة لا يفقه شيئًا في عالم الكتابة!

المرتبة الثانية: "الشقيقات"للكاتبة دانيال ستيل

أحداث خيالية تحت مسمى الواقع. أسلوب ممل ومتكلف في السرد.

تنقل الكاتبة لنا قصة أربع شقيقات، تكرر الحدث الواحد مئات المرات حتى تصيب القارئ بالملل الشديد.

لن تستفيد شيئًا من قراءة هذا الكتاب؛ ستصاب بالإحباط وستضيع وقتك هباءً وربما تتوقف عن القراءة.

المرتبة الثالثة: الخيميائي لنفس المؤلف السابق ذكره باولو كويلو

مجددا أطرح على نفسي هذا السؤال: كيف يكون باولو كويلو مشهورًا وصاحب الكتب الأكثر مبيعًا، بينما أجد كتبه ذات الصيت الخادع بغاية السوء والرداءة؟ 

بالنسبة لأسلوبه هنا فقد كان بسيطا لدرجة تجعلك تعتقد أن الرواية موجهة لمن هم دون العاشرة من العمر.

الشيء الوحيد الذي تعلمته من هذا الكتاب هو ألا اقرأ لنفس المؤلف مرة ثانية أبدًا!

المرتبة الرابعة: 1934 للكاتب ألبرتو مورافيا

كمية الهراء والسذاجة هنا كافية لملء العالم. ستصيبك بالدوار من محاولتك لفهم القصة -إن وجدت-.

أحداث غاية في الملل والسخف وكأن المؤلف كان يبعثر مجموعة من الكلمات داخل عقله مع مجموعة من الأسماء والشخصيات ثم شكلها كتابًا!

لا اعرف كيف صبر المترجم لإكمالها!

المرتبة الخامسة: زويا للكاتبة دانيال ستيل

حاولت إعطاء الكاتبة فرصة ثانية بعد "الشقيقات"لأجد "زويا"أسوأ بمراحل.

كتاب يتحدث عن فتاة لا تنفك تردد ذكرياتها القديمة عندما كانت غنية في كل فصل كالببغاء. 

إعادة للكلام نفسه في كل فصل من دون مبالغة، وإعادة أخرى مع ابنة البطلة، وكأن المؤلفة كان هدفها أن تكتب لمجرد الكتابة وإضاعة وقت القارئ المسكين. 

المرتبة السادسة: غادة الكاميليا من تأليف الكسندر دوماس الابن

يبدو أن الابن لم يرث عبقرية وموهبة أبيه في الكتابة، والسبب الوحيد الذي جعل هذه القصة شهيرة في العالم رغم افتقارها لكل مقومات الرواية الجيدة هو شهرة الأب.

المرتبة السابعة: لوليتا للكاتب فلاديمير نابوكوف

حكاية مريض نفسي يروي لنا هوسه بالفتيات المراهقات. لا تصلح أن تكون كتابا للنشر بل سيرة ذاتية لشخص يبحث عن طبيب نفسي ليعالجه.

المرتبة الثامنة: الحب والظلال لمؤلفته إيزابيل الليندي

من النوع الذي يدخلك في متاهات عديدة دون أخذ شيء ذا قيمة عند الخروج من كل هذه المتاهات.

تذكر الكاتبة لنا التفاصيل الصغيرة التافهة -التي لن تخدم مسار الأحداث-، اللهم إلا تضليلك ومساعدتك على كره ونسيان الحبكة الرئيسية إن وجدت.

المرتبة التاسعة: عشيق الليدي شارتر

الشيء الذي لم أستسيغه في هذه الرواية فضلا عن جميع مقومات الرواية السيئة آنفة الذكر هو أن الحدث الوحيد الموجود في هذه القصة، وهو خيانة زوجة لزوجها لم يكن حدثًا عظيمًا للزوج، عبر المؤلف الحبكة وكأن شيئًا لم يحدث، مما أزال عوامل الإثارة والترقب للأحداث. لا تستحق نجمة ولا انصح أحد بقرائتها.

المرتبة العاشرة: مذكرات فتاة رصينة للكاتبة سيمون دو بوفوار

لا أعرف حقًا ماذا أقول عن هذه المذكرات البلهاء، لكن ما أذكره جيدًا وما جعلني لا أنسى هذه الكتاب أن نهايته كانت من أسوأ النهايات التي قرأتها في حياتي.

إلى هنا ينتهى تعداد أسوا عشر روايات أتذكرها.

إنني لم أكتب هذا المقال لكي أذم هذه الكتب بل لإسداء نصيحة قيمة لأولئك الذين يبحثون عن النفيس من الكتب ويصرفون عن أنفسهم كل سخيف.

الجسد ليس سوى حقيبة سفر

$
0
0

لأن الجسد ليس سوى حقيبة سفر، أحمل على كتفي اليوم كتاب "الجسد حقيبة سفر"للاديبة غادة السمانواُبحر في فضاء الأدب.

أحياناً تستعصي بعض كلماتي الخروج من الروح كي ألصقها على الورق. هكذا يحدث دائمًا حين أتكلم عن كتاب لغادة السمان بالمطلق.

إن هذا الكتاب يكاد يكون تحفة فنية خالدة في متحف عتيق اسمه الأدب. تخرج غادة من شرنقة الروائية والقاصة والشاعرة لتصبح في هذا العمل مفكرة مخضرمة من الدرجة الأولى.

تتجول غادة بحقيبتها إلى عدة دول مختلفة حول العالم وتدون كل شيء تراه. تبدأ غادة بخلط المفاهيم العربية بالمفاهيم الغربية بشكلٍ أدبي متقن حد الثمالة.

غادة السمان كاتبة نصوص لا تموت  في هذا الكتاب.

إن وضعنا الاجتماعي كأمة عربية هو ذاته. وضعنا الاقتصادي يتدهور يومًا  بعد يوم. لا نزال نطالب بحقوق المرأة وحقوق الانسان كأننا نطلب إغاثة واستنجاد. لا نزال نحلم بشيء اسمه "ديموقراطية"ولا نزال نقف على محك هذا العالم البشع الذي يزداد سوءً يوماً بعد يوم.

نصوص غادة في كتاب "الجسد حقيبة سفر"، حيةً، لا تزال تنبض، قلبها يتدفق ألمًا ووجعًا، والسؤال الذي يطرح نفسه كل مرة: "لماذا أمتنا لا تتغير؟"

كلما قرأت غادة أقف برهةً وأتساءل: هل اكتفيت منكِ يا غادة؟ تكون الإجابة، لا لم أكتفِ منك يا غادة، اقرأ لك وأشعر أني أطالعك كل مرة بشكل مختلف، بحلّل مختلفة، بنبضٍ مختلف، وأبجديتي تنضج كلما خاطبتُ حروفك بعيني. كلما قرأت لغادة، أشعر وكأني كسبت المعركة، من نزفها كما قالت لأبيها في كتاب "عيناك قدري". ولأن العيون وحدها القدر يا غادة. لا أستطيع أن أكتب عنك دون تعصب فكري وإلهامي.

الحُلّة الادبية والفكرية التي تكتب بها غادة السمان نادرة ومختلفة واستثنائية. إن أناملها تطلق شرارًًا، أنامل غادة تنزف على الورق من شدة معاناة هذا الشعب الذي لم يعد له اسم هذه الأيام. سافرت غادة من ذاتها ورحلت في هذا الكتاب، تخلت عن جسدها ليتحول إلى حقيبة سقر متجولة وتجوالة.

هذا المسخ الفكري للجسد، أطلق إبداعًًا سرمديُ المدى، حي لا يموت، يتنفس رغم كل شيء.

غادة تكتب لأن الكتابة غاية بحد ذاتها بأدبها. إنها وحدها من تستطيع رسم لوحات لهذا الوطن، وعرضه في متحف الموتى دون خوف، دون تردد. إنها غادة المواطنة التي تلبست بها القراءة وتلبس بها الأدب من أوسع أبوابه.

كلماتي لا تزال عالقة يا غادة، متقوقعة داخل محبرة. حبل الوريد الذي يصل حبري على الورق يعيشُ مأزقاً دونك.

لا أريد أن أكتب نقد أدبي لأعمالك يا غادة. الكثيرون قد كتبوا، أريد كتابة رسالة آتية من الأعماق يا غادة. رسالة أبوح فيها عن كل شيء.

لأن الجسد ليس سوى حقيبة سفر يا غادة، قررت سوف ادخل سراً داخل هذه الحقيبة وأتبعك أينما ذهبتِ.

 


نجيب محفوظ ومتاهة الفهم؛ من أين تبدأ قراءته؟

$
0
0

دائمًا ما تطرح علي أسئلة من نوع؛ كيف تَفهمين نجيب محفوظ؟ نجيب محفوظ صعب، معقد؟ نجيب محفوظ فنان لكن من الصعب فهمه؟

هذهِ الأسئلة لا تمثل مشكلة إلا عندما يربط أصحابها المشكلة بهم شخصيًا وهذا أصعب أمر أطرحه عليهم و أحصل ذات الإجابة في كل مرة: لماذا لم أستوعب ولم أفهم؟ بالتأكيد الخلل في شخصي. سوف أقوم بإعادة قراءة الكتاب من جديد، من المؤكد أن عقلي لم يستوعبه.

ما الذي يجعل قراءة نجيب محفوظ مهمة صعبة؟

حقيقة الأمر أن المشكلة الحقيقة تتمثل في الكاتب والقارئ معًا؛ نجيب محفوظ يمتلك أسلوبًا عميقًا جداً فهو يصيغ الكلمة الواحدة بألف معنى دون أن يكرر جملة بشكل مباشر، وهذا أسلوب مُنهك بالنسبة للكاتب لكنه يأتي بثماره على القارئ.

من ناحية أخرى فإن نجيب محفوظ من الكتّاب الذين يميلون إلى التفاصيل؛ يتحدث عن الحارة (اسمها، موقعها، تاريخها وحتى المهن المتواجدة فيها)، الأشخاص (صفاتهم وحياتهم) بشكل مركز.

المختلف في نجيب محفوظ أن لا بطل واحد في رواياته أو قصصه القصيرة؛ فالحبكة لديه معتمدة على الجماعة، أشبه بلعبة البازل التي لا يمكنك أن تعلم صورتها سوى بالانتهاء منها، نجيب محفوظ يصنع بازل من النصوص. 

نفس نجيب محفوظ طويل في الحبكة وصناعة الموقف دون حوار يجعل قراءته تحديًا أيضًا؛ إن محفوظ لا يركز على الحوارات، إلا عندما تكون في خدمة الوصف، والوصف أسلوب ذكي وماهر.

كل ما سبق يفسر عدم فهم القارئ لأسلوب محفوظ، فحبكته تعتمد على الجماعية والقارئ اعتاد على حبكة نص ترتكز على فرد أو فردين تدور حولهم الرواية، وهُنا يصعب عليه استيعاب الحبكة.

غياب الحوار هو السبب الأساسي في عدم الفهم لأن الحوارات تأتي مساندة للموقف، والروايات التي تم إنتاجها في العقد الحالي يأتي الموقف فيها مكملاً للحوار لا داعماً له؛ أي بمعنى أن الحوار هُنا أساسي والموقف
ثانوي، بينما في روايات محفوظ وأسلوبه فإن الموقف أساس والحوار ثانوي، هذا الاختلاف يساهم في عدم الفهم، ثم إن أعمال محفوظ الأدبية تدور في مجتمع واسع، في كل كتاب يتناول عدة قضايا وفي كل رواية 100 قصة، هذا قد يجعلك تضج بالملل، وربما تساءلت بينك وبين نفسك: هل استحق نجيب محفوظ حقًا نوبل للآداب؟

هل هنالك حل لسوء الفهم هذا بين أدب محفوظ والقرّاء؟

لا يوجد حل لمشكلة نجيب مع القارئ سوى بدقة ما ينتقيه القارئ من كتبه؛ من الخطأ الشائع أن غالبية من يواجهون تحديًا في تقبل أدب محفوظ، يبدأون تجربتهم معه من قراءة البداية والنهاية، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية وزقاق المدق؛ هذه جميعها مواد متقدمة في القراءة لا يصلح لقارئ أن يبدأ بها، من الأفضل عندما تجابه كاتبًا كمحفوظ أن تبدأ من الكتب الصغيرة، وهي أعمل عميقة جداً تأخذ بيدك لتفهم شخصية محفوظ وتقيس مدى تقبلك لها، أقترح من هذه الأعمال:

من أين تبدأ القراءة لمحفوظ؟

كتب المجموعات القصصية :

  • صباح الورد
  • الفجر الكاذب
  • قشتمر

 

استيعاب القصير يساعد جداً على خلق معرفة بالكاتب وأسلوبه، لكن البعض يحتكر محفوظ بالقصص القصيرة والبعض الآخر بالروايات، لكن الأهم من ذلك كله أن نجيب محفوظ مُختلف، وللقراءة له طعم خاص.

 

حديث الضحايا في "الجدار"

$
0
0

بين القاهرة المدينة العتيقة ودبي المدينة الممتلئة بالحياة وسيول المدينة الضبابية تدور أحداث رواية "الجدار"لـ "نورا ناجي".

جدار حياة المليء بالموت

"حياة"فتاة حديثة التخرج من كلية الصيدلة، تتعرف على خالد صديق أصدقائها (ريم وأحمد) في ليلة شتوية باردة في القاهرة، ومع الأيام تتحول علاقتهما إلى الحب الذي سيتحول فترة من حياتهما إلى جحيم أسود.

خالد المتخاذل دائمًا وأبدًا الذي لا يتخذ أي خطوة إيجابية لتأكيد مشاعره تجاه حياة لترى علاقتهما النور وتكون مُعلنة للناس مما دمر حياتها.

تقرر حياة الابتعاد عن القاهرة والسفر إلى والدها في دبي والعمل هناك معه. تلتقي بسعود صديق الطفولة الذي يعرض عليها العمل معه في الصحافة ويساهم ذلك في إخراجها، لبعض الوقت، من كآبتها حيث منحها جو الصحافة بعض الانشغال عن التفكير في خالد. لكن وظيفة الصحافة هذه ساهمت في زيادة بؤسها حيث إنها عندما قررت الانتقال إلى كوريا الجنوبية حيث العزلة والوحدة في آخر العالم؛ قررت العمل في وكالة إخبارية لتتابع، شاءت أم أبت، كل بؤس العالم وكوارثه وحروبه.

كانت ترى كوارث العالم وتتعمق فيها خاصةً إذا كان الضحايا أطفال، فتلتقط كل صورهم المفزعة وتعلقها على جدار غرفتها، جدار الموت، تنظر له يوميًّا بتمعن في الظلام إلى أن ترى أحد هؤلاء الضحايا يخرج لها من الجدار ليحكي لها في ما تبقى من الليل بقصته التي أدت به إلى جدارها، وقد يستنجد أحد هؤلاء الضحايا بها؛ منهم طفلة مثلًا قتلها والدها ظلمًا وعدوانًا بعدما أجبرها على قول ما لم تفعل وما لم تفهم.

 

رعب وسوداوية ممتعة

الرواية نفسية من الطراز الرفيع وهي قد تكون أول رواية عربية تدور أحداثها في كوريا الجنوبية، وقد استطاعت نورا نقل الأجواء الكورية ببراعة. لغة "نورا ناجي"سلسة وغير معقدة، وهي بالعربية الفصيحة، وإن كنت أفضل الحوار العاميّ بين الأبطال، وأعتقد أن اختلاف اللغات بين أكثر من شخصية من شخصيات الرواية كانت مدعاة لاستخدام العربية الفصيحة.

تنتقل الرواية زمنيًا ومكانيًا بسلاسة، لن تفقد خط سير الأحداث ولن تفقد شغفك في متابعة ذكريات حياة والانتقال معها بين القاهرة ودبي وسيؤول في الفترة الزمنية من 2009 إلى 2016.

هذه رواية ممتعة مرعبة سوداوية نلحظ فيها أفكار الكاتبة (نورا) المختلفة عن السائد والتي تميز رواياتها حتى الآن  حيث أصدرت نورا 3 روايات هي “جدار الذكريات” و"بنات الباشا"و “بانا”.

 

اقتباسات من رواية "الجدار"

"الجهل مريح، الجهل يمنحك الفرصة، للنوم بضمير مستريح كل ليلة، الجهل هو ما يُفرّق بيني وبينك، الجهل لا يحولك لمعتوه مثلي، تزوره الكوابيس في فراشه،وهو نائم، وهو مستيقظ."

"ربما كان ذنبي الوحيد هو الحب، لكنني أعلم تمامًا الآن أن الحب ليس ذنبًا، وكيف يكون؟”

“إن كان الله قد خلق الحب في بداية العالم، وجعله أساسًا لإعماره، بل وجعله أساسًا لعلاقته بمخلوقاته، وسببًا في استمرار حياتهم إلى اليوم، فكيف يعاقبنا إذن على فعل حب، خالص بلا أغراض؟"

 

بين مذكرات "باربرا وولترز"وما تعرفه "أوبرا وينفري"على وجه اليقين

$
0
0

 

في العادة يحب بعض القراء أن يستقبلوا عامهم الجديد بإعداد قائمة قراءة مسبقة، تشتمل على عدد معين من الكتب، وبالفعل يقومون بشراء هذه الكتب تمهيداً لقراءتها على مدى العام المقبل. قراء آخرون –على شاكلتي- لا يحبون التقيد بقوائم مسبقة، ويفضلون قراءة ما يعنّ لهم من كتب أثناء العام، وهم في العادة محبون لقراءة الأشياء الجديدة، أو الكتب الطازجة، الصادرة حديثاً في المجالات التي يفضلونها.

 

خلال هذا العام الذي أوشك على الانتهاء، أسعدني الحظ –دون تخطيط مسبق- بقراءة كتابين للمذيعتين الأكثر شهرة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وربما على مستوى العالم، الشقراء باربرا وولترز، والسمراء أوبرا وينفري. الكتابان مختلفان من حيث التصنيف، فكتاب "باربرا وولترز"هو سيرتها الذاتية، أما كتاب "أوبرا"فهو تجميع لمقالات سبق لها أن نشرتها في مجلتها الشهرية "أوه، ذا أوبرا ماجازين".

 

 اختلف السبب الذي دفع المذيعتين لإصدار كتابيهما. فقد ذكرت "أوبرا وينفري"في بداية كتابها أنه في إحدى المقابلات التلفزيونية الحية سألها المذيع: "أخبريني، ما الشيء الذي تعرفينه على وجه اليقين؟"، ورغم أنها أعطت إجابة سريعة لتنهي المقابلة، إلا أن هذا السؤال ظل يشغلها لستة عشر عاماً تالياً، وأصبح "الشيء الذي أعرفه على وجه اليقين"اسم عمود تكتبه بنفسها في مجلتها الشهرية. أما بالنسبة لـ"باربرا وولترز"، فقد قررت في سن التاسعة والسبعين أن الوقت قد حان لنشر مذكراتها.

المذيعتان في الحقيقة لم تتنافسا في الحياة العملية، بل استقلت كل منهما بجانب إعلامي مختلف. وولترز في السياسة ووينفري في الترفيه. وقد جاء كتاب كل منهما استكمالاً لمسيرتهما الإعلامية. مذكرات "باربرا"حملت اسم Audition ، والذي يعني بالعربية "اختبار أداء". وفيها، على مدى 792 صفحة، باحت باربرا بالكثير من كواليس مقابلاتها مع السياسيين والمشاهير، والتي كان الجمهور متعطشاً لمعرفتها، كما أنها أدهشتنا بقدرتها الفائقة والممتعة على تذكر أدق تفاصيل طفولتها، والتي وصفتها بالـ"حزينة والجدية".

أما أوبرا، كونها امرأة حدسية فاختارت أن تسدي للقارئ نصائح تلهمه لتحسين نوعية حياته. جاءت مقالات الكتاب قصيرة، مكونة من صفحتين غالباً، متماسكة، مسلية، واحتوى كل منها على فكرة محددة، كما جاء كل مقال مدعوماً بقصة لتوضيح فكرته. تصف أوبرا نفسها في صفحة 45:

"كنت مولعة بنقل قصص الآخرين، واستخراج الحقيقة من تجاربهم، واستخلاصها في حكمة يمكن أن تعلّم أو تلهم أو تفيد شخصاً آخر".

 

ولأن المدخل الأصدق للنصائح هو التجارب الشخصية، فقد احتوى الكتاب كماً كبيراً من تجارب أوبرا الشخصية وأخطائها السابقة ونقدها الذاتي البناء في محاولتها لتطوير نفسها والتخلص من عيوبها. على سبيل المثال ذكرت أوبرا أنها كانت تجد صعوبة كبيرة في قول "لا"لأنها كانت تخاف من خسارة حب الناس، وقد تناولت هذا الموضوع –الذي أسمَتْه مرضاً- في أكثر من مقال، فتقول في صفحة 160:

"عرفت بالتحديد من أين جاء المرض. وجود تاريخ من الإيذاء عنى أيضاً تاريخاً من عدم القدرة على وضع الحدود. ما إن تنتهك حدودك الشخصية وأنت طفل، حتى يكون من الصعب أن تستجمع الشجاعة لتمنع الأشخاص من سحقك. تخشى من أن يتم رفض طبيعتك الحقيقية. لذا لسنوات، أمضيت حياتي أعطي كل شيء يمكنني أن أقدمه لأي شخص تقريباً يطلب مني ذلك. كنت أشعر بالإنهاك في محاولة لتحقيق توقعات الآخرين لما يجب أن أقوم به وما يجب أن أكون عليه".

وتشرح بعد ذلك للقارئ كيف استطاعت التخلص من تلك الصفة وإكساب نفسها التوازن المطلوب.

 

أما "باربرا وولترز"فقد سافرت –كما تخبرنا في كتابها- إلى كل مكان في الكرة الأرضية تقريباً، والتقت بكل شخصية مهمة يجب لقاؤها. رؤساء دول، سياسيون، ممثلون ومغنون ومشاهير. وتصف نفسها بقولها:

"حققتُ أكثر مما يمكن أن أتخيله على الإطلاق".

 

تشترك المذيعتان في كثير من الأمور، منها على سبيل المثال أن كلتاهما قدمت برنامجاً تلفزيونياً شهيراً لمدة 25 عاماً بالضبط: "باربرا"في برنامج 20/20، و"أوبرا"في البرنامج الشهير الذي حمل اسمها. وبالطبع تتميز كلتاهما بالانضباط، والشخصية الاجتماعية، والذكاء اللغوي، والقدرة الهائلة على محاورة الضيف والتعاطف معه.

ورغم تشابه صفاتهما الشخصية إلا أن مجرى الحياة الشخصية لكل منهما قد اتخذ منحى مختلفاً. فـ"باربرا"تزوجت ثلاث مرات، وانتهت جميع زيجاتها بالطلاق، أما "أوبرا"فلم تتزوج على الإطلاق. كذلك لم تنجب أي منهما أطفالاً على اختلاف السبب، فـ"باربرا"حاولت الإنجاب بالفعل لكن حملها انتهى بالإجهاض في كل مرة، ما دفعها في النهاية إلى تبني طفلة واحدة. أما "أوبرا"فقد أنجبت طفلاً واحداً وهي في سن الرابعة عشرة (جاء حملها نتيجة اعتداء جنسي) لكن الطفل توفي بعد أسبوعين. ولم تنجب أوبرا بعد ذلك.

هذا الموضوع بالذات تناولته "أوبرا"في كتابها، حيث ذكرت أن الأمر تطلب منها شجاعة فائقة لتكشف عن الاعتداء الذي تعرضت له للجمهور، ورغم ذلك كانت لا تزال تتجرع مرارة العار ولم تستطع الكشف عن موضوع الحمل، حتى سرب أحد أفراد عائلتها هذه القصة لصحف الفضائح. ورغم أنها قضت أياماً في البكاء، إلا أنها عندما استجمعت شجاعتها للعودة إلى العمل، وجدت أن معاملة الناس لها لم تتغير، وعندها أدركت أن إفشاء السر قد حررها.

 

سواء كنا مهتمين بمتابعة الأخبار اليومية والتحليلات السياسية، أو كانت نظرتنا للتلفاز على أنه جهاز للترفيه فقط، لا مناص من الاعتراف أن كلاً من المذيعتين شخصية لا تعرف الكلل، ولا تعترف بالكسل أو الإحباط، وأن طريق كل منهما لم يكن على الإطلاق مفروشاً بالورود. ولا مناص كذلك من الاعتراف أن كتاب كلٍّ منهما يقدم لقارئه مزيجاً دسماً من المتعة والفائدة.

 

 

تحدّي القراءة: سخافات ثقافية

$
0
0

 

في بداية هذا العام كنت أشعر بالحماس الشديد تجاه القراءة، كوني عدت بعد فترة انقطاع طويلة لأسباب شخصية، ولأنني خشيت أن توقفني مشاغل الحياة – كما فعلت مرات عديدة- عن القراءة، فبحث عن أفكار ألتمس فيها الدافع لاستمراري بالقراءة خلال العام. كانت فكرة مجموعات القُرّاء فكرة مذهلة، حيث أن الاندماج معهم يجعلك دوماً تشعر بأن القراءة فعل طبيعي يحدث كل يوم، يمارسه الكثير رغم ظروف حياتهم المختلفة. تشمل هذه المجموعات برامج التواصل الاجتماعي وموقع Goodreads الشهير، كما بدأت في كتابة المراجعات للكتب التي أقرأها إيماناً مني بأن ذلك يُساعد من يرغب في قراءتها، ناهيك عن متعة قراءة المراجعات والآراء بعد الانتهاء من قراءة الكتاب، وكأن هذه المراجعات تقوم بمناظرة بعضها البعض.

 

أثناء استعدادي لرحلة قراءة العام التي نويتها، أرسل لي موقع Goodreads اقتراح بأن أقوم بوضع خطة للقراءة باختيار عدد محدد من الكتب كوسيلة للتحفيز لإنهائها قبل انتهاء العام. لاحظت أن الكثير ممن أتابعهم وبعض من أصدقائي قد قام بوضع خطة بالفعل، بعضهم كانت خطته قراءة مائة كتاب وآخرون أقل من ذلك. أعجبتني الفكرة ظناً مني بأن هذه الطريقة هي وسيلتي الحقيقية لمواجهة خطر التوقف عن القراءة. ليبدأ العام وقد وضعت خطة قراءة ثلاثين كتاباً خلال العام.

ملحوظة: أعجبتني جداً إحدى الأفكار الرائعة التي رأيتها في أحد الحسابات المختصة بالقراءة، تخصص نوع معين من الأدب لكل شهر من شهور السنة، فمثلاً، شهر لقراءة الأدب التشيلي أو الهندي، وشهر لقراءة الأدب الهندي، وشهر لقراءة التاريخ، وشهر لقراءة كتاب في الفلسفة، وشهر لقراءة انجليزية، وشهر لقراءة تكنولوجية أو حتى مالية. مثل هذه الأفكار جداً ممتازة ويعتبر نوع من التنوع والتخطيط الجيد لتوسيع مدارك العقل.

دعوني أبدأ بنتيجة اتباعي لخطة القراءة التي وضعتها قبل الحديث عن التجربة; فقد قرأت خمسين كتاباً بدلاً من ثلاثين كما خطّطت أول العام. قرأت بشكل يومي وعلى مدار السنة أيام العمل والعطلات ما عدا بعض الأيام القليلة التي لم أفعل بسبب مرض أو عمل. قمت أيضاً بكتابة مراجعة لجميع الكتب التي قرأتها ودأبت على قراءة مراجعات الآخرين وآرائهم بل وخضت نقاشات مع  بعض القُرّاء في المجموعات أو مع بعض الأصدقاء أو مع الأهل. بشكل عام، أنا راضٍ عن التنوّع في اختيارات الكتب التي قرأتها مقارنة بقراءاتي سابقاً، وأنوي تطوير آلية الاختيار لمزيد من التنوّع في العام القادم بإذن الله.

قبل أن أتحدث عن التجربة، أرغب في أن أوضح بأنني أدركت أثناء تلك الرحلة، بأن غرضي ليس قراءة أكبر عدد من الكتب والصفحات، بل كانت لي أهداف أراها أفضل بالنسبة لي وأكثر منطقية وهي اعتماد القراءة اليومية كأسلوب حياة ممتع يتم الاعتياد عليه، التأمل في أفكار الكتَاب، توسيع دائرة معارفي الأدبية بحيث أتعرف على أدباء جدد وأنواع مختلفة من الكتابات الأدبية. كما كنت أطمح لتحسين أسلوب الكتابة والتعبير لدي بعد أن أضعفت الحياة اليومية ومنصات التواصل الاجتماعي ذلك.

 

أعترف بأنني لم أستسغ أبداً فكرة تحدّي القراءة أو ماراثون القراءة، أو أي من هذه المُسمّيات التي هدفها الأساسي الكم وليس الكيف. أتفهّم جيداً أن ذلك قد يعجب بعض الناس ويستهويهم، إلا أنني لم أستطع أن أجد تصنيفاً لمثل هذه المُسمّيات، لهذا جمعتهم تحت تصنيف شخصي يخصني وحدي،  وهو أنها مجرد هراء. نعم، أرى أن هذه التحديات هي هراء ولا أشعر أمامها إلا بالشفقة على من ينقادون خلف مثل هذه التحدّيات الفارغة. التي لا أرى أي فائدة منها إلا الاعتياد على القراءة السريعة جداً، ومثل هذه القراءة مفيدة في موضعين، الأول أثناء قراءة الصحف، والثاني لقراءة الأجزاء المملة التي تملأ الكتب أو المقالات الغالب عليها الاستطراد أو الإسهاب والإطناب.

القراءة ليست مجرد التهاماً للحروف، بغرض تمريرها على العقل لزمن يقل عن اللحظة الواحدة كي تخرج سريعاً من الذاكرة كعربات القطار السريع في المدن الترفيهية والتي لا تستطيع عدّ عرباتها من فرط سرعتها.
ما الفائدة من ذلك؟ قراءة مئة صفحة خلال ساعة؟ وهل نقيس إدراكنا وفهمنا بعدد الكلمات التي قرأناها أم بقوة تأثيرها علينا ومدى تأمّلنا وتعمّقنا في معانيها؟

لطالما دلّل الناس على أطعمة الوجبات السريعة أنها سيئة للإنسان بصفة عامة وللجهاز الهضمي بصفة خاصة، لا ينافسها أي طعام صحي في الوقت اللازم لتحضيرها أو لتناولها، لكنها بلا طعم أو رائحة أو فائدة، رائحة وطعم صناعيين يتمثّلان في ألوان ومحليات وصوديوم لخداع العقل. ألا ترون ثمة تشابه في القراءة السريعة جداً المتواجدة في مثل تلك التحديات؟

لماذا طلب الله منّا أن تتدبّر قراءة القرآن؟ ولماذا يُطلب منّا التأني في قراءة دروسنا أثناء الاستذكار؟ لماذا نقوم بإعادة مقاطع موسيقية لسماعها مرة تلو أخرى وسط سكون محيطي، لماذا نتأمل لوحات بعينها دون المرور سريعاً أمامها؟ لماذا نتوقف أمام النص؟ لماذا يستوقفنا اقتباس ونظل نتأمل فيه وننسى أحياناً أننا وسط قراءة كتاب أو رواية؟

إنه التأمل... تذوّق الحروف ومحاولة الاندماج فيها وإسقاط معانيها على أوجه مُختلفة.

هذا التأمل هو ما يعطي النص روحاً ليقوم بالتأثير فيك، ليفتح لك طاقة تنفذ منها إلى حياة أخرى في الخيال قابلة للتنفيذ أو بها أمل مستقبلي للحدوث أو رجاء التحقق. هي طاقة يمكنها أن تصنع منك شخصاً جديداً.

تختلف طبائع الناس وأساليب حياتهم التي قد تمنحهم مزيداً من الوقت لالتهام العديد من الكتب، هناك من لا يفضل الحياة الاجتماعية الزاخرة، وهناك من يحاول أن يتخذ من القراءة مهرباً أو يتفاخر بعدد الكتب التي قرأها لمجرد التباهي، وهناك من هم بالفعل يستطيعون قراءة كم كبير من الكتب لقدرتهم الحقيقية على القيام بذلك. أؤمن بأن الوسطية والتوازن هي أفضل مرحلة يصل إليها الإنسان في أي مجال أو تجربة يخوضها. وليس معنى التوازن هو الحيادية، بل في إيجاد نقطة اتزان خاصة تختلف من شخص لآخر يجد فيها نقطة تلاقي ما بين متعة داخلية مع قيمة ذاتية تحقق له رغبته في استقرار نفسي.

 

من زاوية أخرى، فإن القراءة مناظرة بين القارئ والكاتب، تتعدى حدود المكان والزمان، الكاتب بذل الكثير من الجهد كي يُخرج لك كتاباً، فحاول أن تتخيّله أمامك، هل تظن أنه سيكون سعيداً أو أنه من اللائق أن تنظر إلى ساعتك كل خمس دقائق كونك تريد الانتهاء من لقاء يجمعكما، بحجة ارتباطك بمواعيد أخرى؟

 

رسالة انتحار فيرجينيا وولف ووحشية تناول الإعلام لها

$
0
0

تذكير يهز وعينا بأن حس التفوق الأخلاقي هو عدو للتعاطف، وأن الحكم على المعاناة الشخصية لإنسان آخر هو عار على إنسانيتنا*.


بعيد البداية المدمرة للحرب العالمية الثانية، وبتاريخ 28 آذار 1941، قامت فيرجينيا وولف بملأ جيوب معطفها بالحجارة، والنزول في نهر أوز خلف منزلها، لتلقى حتفها غرقًا في عمر التاسعة والخمسين. حيث عاد إليها الاكتئاب شديد الوطء، بعد أن كانت قد نجت منه بشق الأنفس في شبابها، ليستحوذ على ما تبقى من عمرها.

وقد تركت فيرجينيا وراءها مجموعة من الأعمال الاستثنائية - مذكراتها المحزنة ومقالاتها المبدعة و "أطول رسالة حب في تاريخ الأدب وأكثرهم سحراً،"بالإضافة إلى مجموعة من كتب الأطفال غير المشهورة - والعديد من الأصدقاء المكلومين، لكن أكثر عمل مؤثر تركته كان رسالتها لزوجها لينارد قبيل انتحارها:

عزيزي،

إنني متيقنة  بأنني سأجن مرة أخرى. لا أظن بأننا قادرين على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة، لقد بدأت أسمع أصواتاَ وفقدت قدرتي على التركيز. لذا، سأفعل ما أراه مناسبًا. لقد أشعرتني بسعادة عظيمة وقد كنت كل ما يمكن لأي شخص أن يكون. لا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة كما شعرنا نحن الاثنين إلى أن حل بي هذا المرض الفظيع. لست قادرة على المقاومة بعد الآن. أعلم أنني أفسد حياتك وبدوني ستستطيع العمل. أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ. جل ما أريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي. لقد كنت جيدًا معي  وصبوراَ علي. والجميع يعلم ذلك. لو كان بإمكان أحد ما أن ينقذني فسيكون أنت. فقدت كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد. لا أستطيع المضي قدماً في تدمير حياتك بعد الآن.

لا أظن أن اثنين شعرا بالسعادة كما شعرنا بها.

 

ما جعل الرسالة مؤلمة بشكل خاص لم يكن فقط تجسيدها الموجع لوباء الحياة العصرية المأساوي، بل تعامل الإعلام والصحافة مع هذه الرسالة، الذي عكس أقبح جوانب هذه المهنة. وقد لاحظت الباحثة سيبيل أولدفيلد في كتابها "بعدئذ: رسائل حول وفاة فيرجينيا وولف"أنه بعد نشر الرسالة علانية، قام بعض الصحفيين البريطانيين بالأخذ على عاتقهم إصدار حكم أخير على الكاتبة المحبوبة- حكم قاس ومجحف. ففي نيسان، وبعد أقل من شهر على  وفاة وولف، قامت الصانداي تايمز بنشر رسالة قدح من السيدة كاثلين هيكس، زوجة أسقف لينكولن، رسالة نمت عن شعور بالتفوق الأخلاقي:

سيدي،

قرأت في صحيفتكم يوم الأحد الماضي بأن الطبيب الشرعي المسؤول عن التحقيق في وفاة السيدة وولف قال أنها "بلا شك أكثر حساسية من معظم الناس لوحشية الحياة في وقتنا هذا". بأي حق يستطيع أي شخص زعم هذا؟

إن قال هذا حقا، فإنه يحط من قدر أؤلئك الذين يخفون آلامهم الداخلية بشجاعة ويحتملون الحياة بلا أنانية لأجل الآخرين. فالعديد من الناس، ربما حتى أكثر "حساسية"منها، خسروا كل شيء وشهدوا العديد من الأحداث المرعبة، لكنهم ما زالوا يشاركون بنبل في صراع الله ضد الشيطان.

أين هي مبادئ الحب والإيمان لدينا؟ وماذا سيحدث لنا إذا بدأنا بالاستماع والتعاطف مع هذه المشاعر من "عدم القدرة على الاستمرار"؟

يبدو أن مبادئ السيدة هيكس للحب والإيمان لم تشتمل على التعاطف. بعد قراءة هذه الرسالة، صدم لينارد وولف بمحتوى الرسالة إلى حد أنه ببعث رسالة مشحونة بالعواطف إلى الجريدة فورا لتصحيح بعض الوقائع  ودحض ما جاء في رسالة كاثلين هيكس:

لا أظن أنه بإمكاني الصمت والسماح لانتشار معلومات خاطئة مثل أن فيرجينيا وولف انتحرت لأنها لم تستطع مواجهة "الأوقات الرهيبة"التي نمر بها جميعًا.فقد قامت الجريدة بنشر كلماتها على أنها "أشعر بأنني لا أستطيع المضي في هذه الأوقات الرهيبة"في حين كانت الرسالة الحقيقية تقول "أشعر بأنني أجن مرة أخرى. أشعر بأننا غير قادرين على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى".

قبل 25 سنة، عانت فيرجينيا من انهيار عصبي، وقد بدأت الأعراض القديمة بالعودة قبل 3 أسابيع من إنهائها لحياتها، حيث أنها لم تظن أنها باستطاعتها التعافي هذه المرة. وقد شعرت بالإجهاد والضغط من الحرب كالجميع ، وعودة مرضها كانت جزئيا بسبب هذا الإجهاد. لكن كلمات رسالتها وكل كلماتها قبل ذلك تثبت أنها انتحرت، ليس لعدم قدرتها على الاستمرار، بل لأنها شعرت بأنها ستجن مرة أخرى بلا أمل للتعافي هذه المرة.

لكن للأسف، حتى رسالة لينارد تم أخذها من خارج السياق الأصلي، حيث تم نشرها تحت العنوان المضلل "لا أستطيع الاستمرار"- كفخ للقراء ( يوازي ما يعرف حالياً بمصطلح ال clickbait )، وقامت الجريدة بتغيير كلمة (تلك) في "تلك الأوقات الرهيبة"للدلالة على انهيارها العصبي في شبابها إلى (هذه) في "هذه الأوقات الرهيبة"لتدل على الحرب، مما ناسب سردية الإعلام الذي حاول تفسير انتحار وولف كفعل خيانة وجبن وليس كنتيجة مأساة شخصية. ولجعل الأمور أكثر بعثًا على الأسى، قامت التايمز بإعادة طباعة الرسالة الخاطئة بعد عدة أيام دون أن تتحق من صحتها، مما أدى إلى سلسلة من الهجوم طالت حتى أعمالها التي تم نشرها بعد وفاتها، واستمر الهجوم على شخصية وأعمال وولف في الإعلام لأكثر من سنة بعد وفاتها.

سببان يجعلان هذه الحادثة مثيرة للقلق: في العمق، هي  شهادة على أن الاكتئاب قادر على افتراس أعظم العقول البشرية بلا تمييز، وردة الفعل غير المتعاطفة في توضح مدى ضعف  فهمنا لهذا المرض. في النهاية، مضمون معاملة الإعلام لرسالة وولف هو تذكير قبيح بأن الشيء الوحيد الأكثر بغضاً أخلاقياً من الحكم على معاناة الناس الشخصية (اختيار حس التفوق الأخلاقي بدل التفهم والتعاطف)، هو فعل ذلك بشكل علني كممارسة للصحافة الصفراء. وياله من فشل كبير في أن نعي بأنه من المجزي أكثر أن نتفهم الآخر لا أن نكون على صواب. ولا نأمل إلا أن وعينا المجتمعي والفردي لهذا الموضوع قد تطور منذ وفاة وولف.


*مترجم عن مقالة ماريا بوبوفا بعنوان: March 28, 1941: Virginia Woolf’s Suicide Letter and Its Cruel Misinterpretation in the Media

Viewing all 248 articles
Browse latest View live


<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>