قد تخصص مراجعتنا هذه لتشمل في السياق فلسطين، ونتناول هنا الجزء الأكثر أهمية في التراث الفلسطيني ألا وهو التطريز الفلاحي والثوب الفلسطيني. ولكن هذا الطرح الخاص بفلسطين لن ينفي أهمية أعمال فنون التطريز وأشغال الإبرة اليدوية في البادية والريف والحضر في العالم العربي. حيث اشتهرت كل النساء العربيات بفن الحياكة والتطريز وفنون القطبة تحيك خيوطها غرزات خاصة لكل بلد.
التطريز في فلسطين
منذ البدايات يعتبر التطريز أقدم أشكال الفن. فقد ولد مع ميلاد هذه الأرض وواكب كفاح المرأة الفلسطينية، وبقي تاريخها الخاص وعملية تأريخ الزي الفلسطيني التقليدي إبداع خاص يعبر عن رحلة طويلة وموروث ثقافي؛ كل غرزة حدوتة وقد تكون الغرزة سبقت الحدوتة.
بحسب سميح حمودة المؤرخ والباحث من جامعة بيرزيت يقول: "يعبِّر التطريز الفلسطيني عن مكوِّن من مكونات الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني، فهو أولاً امتدادٌ لفن عريق عرفته فلسطين منذ مئاتٍ من سنين الاستيطان البشري فيها، فهو يعكس ميزة الثقافة الفلسطينية التي هي مزيج متجانس من ثقافات الشعوب المختلفة التي جاءت لهذه الأرض وسكنتها. لذا نجد التطريز الفلسطيني يختلف عن التطريز عند الشعوب الأخرى في المنطقة، التي لم تعرف التنوع والامتزاج الثقافي الذي عرفته فلسطين. من ناحية أخرى، فإنّ التطريز الفلسطيني يعكس علاقة الفلاح الفلسطيني بالأرض، ففيه الوردة وفيه السنبلة وفيه الشجرة وفيه ورقة العنب، وفيه ألوان الطبيعة المختلفة، فهو تعبير عن تعلق الفلسطيني ببيئته الطبيعية، وبما تحويه من جمالٍ في الألوان والأشياء".
الثوب في الأغاني والأشعار
فعلاً كما قال حمودة: "هو امتداد لفن عريق عرفته فلسطين"، ترثه الحفيدات عن الجدات. يظهر هذا جلياً في كثير من الأشعار والأغاني الشعبية الفلسطينية والمساهمات حول ذلك في مواقع التواصل الاجتماعي، إنما ساعدت على تعزيز هذا الموروث وإبراز أهميته.
وما كلمات أغنية (ستي إلها ثوب وشال) كلمات خالد جمعة وألحان سهيل خوري إلا نموذج على ذلك، انتشر بسرعة البرق في فضاء الشبكة العنكبوتية في خلفية الفيديو صور لفلسطينيات يرتدين الثوب والأغنية تحاكي مشاعر الحفيدة وتقديرها الكبير لقصة ثوب جدتها الذي حيك هناك في البلاد، والقطب المطرزة عليه وكلمات تعزز أهمية توارث الثوب من جيل إلى جيل:
"ستي إلها توب وشال عالتوب مطرّز غزال جنبه ورود وسنابل من حواليها سبع جبال
يا ستي توبِك محلاه تسلم إيد اللي سواه قالت طرزتو بايدي في كرمتنا البعيدة
طرزتو غرزة غرزة ولبستو ليلة عرسي هذي الغرزة من يافا وهذي الغرزة من غزة
والشال اللي ع كتافي حريرو برضو صافي لو ياستي أحكيلك طول العمر مش كافي
وعرفِت ياستي ليش شالِك عليكي غالي وصارو شالك مع توبِك أغلى عليّة من حالي"
التطريز في الأفلام الوثائقية
في الحقيقة هذه المقالة ليست بالسباقة بأي شكل من الأشكال بل على العكس؛ فهناك عشرات من المقالات ومئات من الأبحاث والدراسات ورسائل الماجستير والموسوعات الفلسطينية كلها تصب حوله، ولكن الدافع وراء كتابة هذا المقال هو عرض الفيلم الوثائقي "خيوط السرد "للمخرجة كارول منصور (2017). هذا الفيلم المحلق بالأجواء العربية والعالمية على السواء رسم فلسطين من خلال 12 امرأة فلسطينية. أمام الكاميرا، تستعيد النساء حياتهن قبل الاحتلال، حياتهن الحالية، أحلامهن وفلسطينتهن التي تربطها شيئاً فشيئاً خيوط من فن التطريز القديم. ما بين العشق لبلدهن وقصصهن معه قبل الانسلاخ عنه بفعل الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 وتراث التطريز الذي يعتبرنه أحد عناصر المقاومة ويشددن على الحفاظ عليه كجزء من الحفاظ على تراثهن: « "أمي كانت دائماً تبكي"و كما قالت الأخرى بأنها "وعدت سيدة أهدتها الثوب الفلسطيني وعدتها بألا تلبسه إلا لما تتحرر فلسطين".
(المصادر: عدة صحف ومواقع عربية)
حول الفيلم الذي عرض في دبي تحدثت مع إيناس قوّاس، وهي فلسطينية ولدت وعاشت خارج فلسطين تقول: "فيلم "خيوط السرد"تركني مع خليط من المشاعر. أولها فخري بهذا الشعب الذي يعكس علم وثقافة عالية ورقي في التفكير وأهمية العلم عنده التي تجسدت من خلال الفيلم مع شعوري بالحزن بأننا فعلاً شعب الشتات، وكلّ رواية لها حكاية خاصة حول ارتباطها بالأرض والتطريز، إحساسي بالذنب لعدم إدراكي لأهمية التطريز في قوميتنا وما يحمله في كلّ نقشة وفن و خيط من معانٍ وأحزان".
التطريز في الكتابة
التطريز فن يفرض نفسه بشكل عفوي، ولأنه مرتبط بالذاكرة ويترك بصمات على الشخصية الفلسطينية ونقطة وصل بين الماضي والحاضر. فتراه يخرج في المذكرات والكتب والسير الذاتية وأثناء التوثيق. وسنتناول هنا على سبيل المثال لا الحصر عدة نماذج: ففي كتابها "مسيرة أمل، خواطر من فلسطين؛ 2014[ باللغة الانجليزية] للكاتبة الفلسطينية سامية ناصر خوري (مراجعة رقية العلمي 5 ابريل 2015 ملتقى المرأة العربية):
تنحدر سامية من عائلة ناصر العائلة الفلسطينية من قرية بيرزيت، والتي قامت على تأسيس جامعة بيرزيت من مدرسة إلى كلية ثم إلى جامعة. نال التطريز حظه في تَذْكَارَاتها عن روب التخرج لطلبة جامعة بيرزيت. تقول في السياق: "حفل تخرج أول فوج جامعي من جامعة بيرزيت في العام 1976، ولأهمية الحدث -تخريج طلبة من فلسطين- على ترابها وعلى أرضها كان لا بد من إعطاء الطابع الفلسطيني وترسيخ أصالته وهويته بتصرف في هذا الحفل، فقمت بتصميم روب التخرج وعليه سنابل القمح وقامت بحياكة التصميم فتيات من جمعية انعاش الاسرة وخرج الروب مزين بالتطريز وما زال بنفس النمط حتى يومنا هذا".
![]()
الدكتورة عايدة النجار في كتابها "لفتا يا أصيلة :خريفية قرية"، أفردت صفحات عن الثوب الفلسطيني التقليدي المطرز والمعروف” بالثوب الفلاحي “: "ويتميز بجماله ورموزه ولأن يحمل الهوية الأصيلة التي ما زالت حية منذ لبسته الجدات الكنعانيات قبل آلاف السنين. بقي له منزلة خاصة لأنه يرمز للأمهات اللواتي طرزنه باليد بالخيط والإبرة، وبألوان الفرح المنقولة عن الأرض الفلسطينية الطيبة". كما خصصت في كتابها "القدس والبنت الشلبية"فصلاً كاملاً عنوان "ثوب القروية الشلبية"يفصل كل ما يخص التطريز وفنه وأدواته وإتقان المرأة لهذا الفن وألوان الخيوط وكلّ ما له علاقة حول ذلك في منطقة القدس وقراها. فتقول النجار: "إنه التاريخ والبيئة والحياة والمرأة الفلسطينية ومن يحب الجمال من يحافظ على هذا التراث الغني والثمين، فلنفتخر به ونحافظ على روح الجدات الجميلة".
![]()
شخصياً أنا لا أحب لا أن اقتبس من كتاباتي، لكني لم أكن بمنأى عن هذا التوجه. وأنا أيضاً لا أحب التطريز فحسب، إنما أتقن فنه وحملت معي خيوطه إلى المغترب. في قصة "رضينا بِالهم: (جريدة القدس 15 مارس 1992 رقية العلمي) أمينة الفلاحة التي تعيش في بيت بسيط في قرية فلسطينية صغيرة تعتاش من التطريز في السياق وصفت التطريز: "ورسومات تخطها بخيوط كادت تعمي عينيها فمرة ترسم عصفورا ومرة وردة مرة تطرز الميزان ومرة شجر السرو، كانت أجمل ما تطرز رسمة المكتوب وهي فعلاً على شكل مظروف تتخيله من خالها المغترب: تفتحه... تقرأه ...لتسعد أمها بكلماته لكنها تشده فأذا هو قماش رخيص".
التطريز وتوثيق التراث:
![]()
تجتمع النسوة للتطرير والفضفضة فيما بينهن تمشي الأبرة سريعاً فتخيط الأخبار والكلام. ومن المناظر المألوفة في فلسطين نساء يجلسن داير الدور يطرزن طول اليوم لحين غروب الشمس يتوقف التطريز.
من الأهمية بمكان أن لا ننسى شريحة كبيرة من النساء وثقن كل ما يتعلق بذلك الفن وأتت فكرة جمع تاريخ التطريز بكل مكنوناته كشكل من أشكال ترسيخ الهوية. فخرجت عشرات الكتب مثل كتاب "التطريز الفلسطيني لوداد قعوار وتانيا ناصر"، كذلك مها السقا التي جمعت الكثير من الأثواب والقطع المطرزة وضمتها إلى مجموعتها التراثية وسميحة خليل من جمعية إنعاش الأسرة، قامت على تأسيس مركز للأبحاث الفلسطينية متفرع من جمعية إنعاش الأسرة وكان باكورة نتاج المركز مشروع توثيق التطريز بكل جوانبه فتكاتفت الجهود الاكاديمية والبحث الميداني لجمع كل ما يخص هذا، فأنتشر الباحثون في جميع أرجاء الوطن وجمعوا شفاهياً قصة كل عٍرق وتاريخ ألوان الخيوط ووثقوا كل غرزة خاصة بالقرى والمدن ومضارب البدو، وسُخرت الشرائح الثقافية للمساعدة وكتابة هذا التجمع، ونتج عن ذلك موسوعتين الموسوعة الأولى "الأزياء الشعبية الفلسطينية"والثانية "دليل فن التطريز الفلسطيني"حيث ساهم مثقفون وفنانون في تحرير وجمع هذا المخزون الثقافي هؤلاء مؤرخون خصصوا حياتهم لإنقاذ هذا التراث من الاندثار.
التطريز والثوب الفلاحي في الفن التشكيلي الفلسطيني
ركزت الفنانات التشكيليات في فلسطين والمهجر على الثوب الفلسطيني وظهر التطريز جلياً في اللوحات والجداريات والأشغال اليدوية الفنية الأخرى فمعظم اللوحات تتجمل بالمرأة وهي ترتدي الثوب المطرز: على سبيل المثال لا الحصر أعمال الفنانات: سامية الزرو وفيرا تماري وتمام الأكحل وفاتن طوباسي وغيرهن.
لماذا الغرزة التراثية وملابس الفلسطينية المطرزة يظهر جلياً في رسومات وإبداعات الفنانات الفلسطينيات؟ طرحت هذا السؤال على الرسامة الفلسطينية شيماء الفاروقي، وهي نفسها تمرر ريشتها وتبرز التطريز في لوحاتها، حول ذلك قالت:
"تركز الفنانات التشكيليات في فلسطين ، على إبراز التطريز الفلاحي.لأن الفنانة الفلسطينية ابنة بيئتها والتطريز من الأمور المهمة جداً لما له من انعكاس لتراثها وحضارتها وتشبثها بالوطن المسلوب، خاصة وأن تراثنا وثقافتنا تتعرض لهجمة كبيرة من قبل العدو الصهيوني حتى أنهم في بعض الأحيان ينسبونه لهم كما ترى تمسك المرأة الفلسطينية بهذا الثوب الذي ينسج بأنامل فلسطينية واقتنائه يعد مهم جداً وسعره مكلف نظراً لأنه يطرز يدوياً، وأخيراً إن التطريز هو رمز فلسطيني فمجرد وضعه في اللوحة يعني الكثير من ناحية وطنية، ثقافية، وتراثية".
أقول لكم: هذا قليل من كثير والحديث عن توظيف المرأة في إبداعاتها لإبراز مثل هذا الفن لا يعني نفيه في الفن التشكيلي ككل، واذا كان تجسيد التطريز والثوب في اللوحات الفنية مسألة أساسية لا يجعلنا نغفل هذا التوظيف الذي يبرز بشكلٍ واضح في أعمال الفنان والمبدع الفلسطيني أيضاً لأنه القاسم المشترك للذاكرة الثقافية. والتطريز بزخارفه وألوانه وأشكاله هو مسألة إنتماء وحلقة وصل بين الداخل والخارج وفي كل أنحاءفلسطين وفي المهجر. ونشره في الفضاء الرقمي بصورة جلية وبكثافة جعل الغرزة تفرض نفسها في كثير من المجالات لا لشيء إلا أنه يأتي ضمن الحفاظ على التراث الشعبي من الاندثار والضياع ويصب في تأصيل الهوية الوطنية وما هذا النتاج الفني الذي يدور حول الفُلك إنما يأتي بشكل تلقائي وعفوي فيفرض مقولة طالما رددها لنا السلف: [لكي لا ننسى]!